لم يكن الموقف الشديد الغضب والحاد الذي اعلنه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون غداة اعلان الرئيس المكلف مصطفى اديب اعتذاره عن تشكيل الحكومة الجديدة مفاجئا على الاطلاق. ولكن التطور البارزالمفاجئ فعلا تمثل في انه شن اعنف حملة إدانة جماعية للزعماء والمسؤولين السياسيين اللبنانيين، بل أضاف اليها ما يمكن اعتباره اقسى هجوم على الثنائي الشيعي الذي حمله بوضوح تبعة اسقاط مهمة اديب، وتحديدا “حزب الله ” ذاهبا الى سؤال الثنائي للمرة الأولى بهذا الشكل المباشر الحاد “الى اين تأخذون الشيعة في لبنان؟”. طبعا لم يوفر ماكرون الرئيس سعد الحريري أيضا من انتقاداته في إدارة التفاوض ولكن الدلالة الأبرز التي صعدت الى واجهة مواقف ماكرون كانت في تسليطه الأضواء على واقع “حزب الله” الذي تعرض لاعنف هجمات ماكرون في وقت لم يوجه الرئيس الفرنسي أي اتهام لإيران بعرقلة تشكيل الحكومة. واضفت مواقف ماكرون مزيدا من التوهج على الوضع اللبناني الناشئ غداة اعتذار مصطفى اديب بحيث بدا لبنان منزلقا بقوة نحو مرحلة بلا افق يتحكم بها الغموض بل الأفق المجهول في ظل المخاوف الكبيرة من التداعيات التي سيواجهها لبنان في ظل ازمة مفتوحة قد يكون من الصعوبة الكبيرة التمكن من بلورة توافق سياسي جديد على الرئيس المكلف المقبل لتشكيل الحكومة بعد الانقسامات المتعاظمة التي تركتها اطاحة الثنائي الشيعي بتجربة مصطفى اديب والتسبب بضربة موجعة جدا للمبادرة الفرنسية. وإذ بادر الرئيس سعد الحريري بسرعة لافتة امس الى الإعلان انه ليس مرشحا لرئاسة الحكومة الجديدة فان المعطيات الملبدة التي تراكمت في فضاء المشهد المأزوم الداخلي، لا تسمح بتوقع أي خطوات ملموسة قريبة لبلورة الاتجاهات المقبلة لاعادة اطلاق الاستحقاق الحكومي خصوصا ان الجميع يرصدون الان ردة فعل الفريق الشيعي على الهجوم الناري غير المسبوق الذي شنه ماكرون على “حزب الله” وتأثيره على الازمة المفتوحة. وبدا لافتا وسط هذه الأجواء ان ترد معلومات عبر “روسيا اليوم ” عن اتصال بين ماكرون وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان توافقا خلاله على ضرورة حل الازمة اللبنانية من خلال إعادة طرح اسم الرئيس سعد الحريري كنقطة توافق وان ماكرون قام بتعديلات على فريقه المكلف الملف اللبناني. وإذ يبدو ذلك في حاجة الى تدقيق لان موقف الحريري من عدم تولي رئاسة الحكومة يبدو جديا للغاية، فان تعقيدات مرحلة ما بعد اعتذار اديب تبدو كأنها وضعت البلاد امام احدى اخطر المراحل نظرا الى التداعيات المرتقبة ماليا واقتصاديا واجتماعيا وحتى امنيا بدليل اندلاع موجة مواجهات جديدة شديدة الخطورة بين الجيش والقوى الأمنية والخلايا الإرهابية في مناطق شمالية في الأيام الأخيرة. واذا كانت الأنظار تركزت امس على ترقب مواقف الرئيس الفرنسي باعتباره عراب المرحلة اللبنانية منذ اطلاقه مبادرته بعد انفجار مرفأ بيروت، فان ذلك لا يحجب الاصداء الدولية الأخرى البالغة السلبية أيضا حيال الطبقة السياسية التي ظهرت غداة اعتذار اديب وهو الامر الذي يثبت ان المعايير التي أرساها الرئيس المكلف المعتذر، ستكون محور الضغوط الدولية التي ستتصاعد بقوة في مرحلة الاعداد لاجراء الاستشارات النيابية الملزمة الجديدة والمشاورات لبلورة خيار الرئيس المكلف الجديد.
ولفت في هذا السياق كلام للرئيس نجيب ميقاتي مساء امس عبر محطة “الجديد” تحدث فيه عن احتمال تشكيل حكومة من عشرين وزيرا يكون من بينهم ستة وزراء دولة من أطراف سياسيين و14 وزيرا تكنوقراط بحيث تكون تكنوسياسية ويمكن ان تتشكل برئاسة الرئيس سعد الحريري.
ماكرون الغاضب
اذن اطلق الرئيس ماكرون اعنف ردوده الغاضبة في وجه الطبقة السياسية اللبنانية ولا سيما منها الثنائي الشيعي في مؤتمر صحافي عقده مساء امس في الاليزيه وخصصه للوضع في لبنان في اجراء استثنائي. وقد حمل بحدة على القوى السياسية والقادة اللبنانيين الذين “لم يحترموا الالتزام الذي قطعوه امام فرنسا والمجتمع الدولي وقرروا خيانة هذا الالتزام وقدموا مصالحهم الخاصة والفئوية على المصلحة العامة”. وقال ان “المسؤولين اللبنانيين جعلوا من المستحيل تشكيل حكومة المهمة بفعل مناوراتهم وفضلوا الجهة او الطائفة التي يمثلونها”. وحمل بحدة على “حزب الله ” قائلا ان “حزب الله لا يمكنه ان يكون جيشا في حالة حرب مع إسرائيل وميليشيا تقاتل في سوريا وفي الوقت نفسه حزبا سياسيا محترما في لبنان وهو اظهر عكس ذلك”. وإذ كرر ان أيا من القوى السياسية لم تكن على مستوى الالتزامات أضاف “لكن أقول للجميع لا يمكن أحدا ان يربح على الآخرين سأتصرف بناء على هذه الخيانة الجماعية وعليهم جميعا ان يدفعوا الثمن وفرنسا لن تتخلى عن اللبنانيين والشعب اللبناني والمبادرة الفرنسية الوحيدة لن تسحب عن الطاولة ويجب تطبيقها بأسرع وقت”. واعلن انه ماض حتى نهاية تشرين الأول في عقد مؤتمر لتعبئة الدعم الدولي للبنان وانه سيجمع خلال عشرين يوما كل أعضاء المجموعة الدولية. وفي ردوده على الأسئلة انتقد ماكرون الرئيس سعد الحريري معتبرا انه ” أخطأ في إضافة المعيار الطائفي في هذه العملية وكانت طريقته خاطئة” ولكنه اعترف للحريري بانه قام بتنازل لتسهيل تشكيل الحكومة . ثم اعلن ان “امل وحزب الله قررا بشكل واضح ان لا شيء يجب ان يتغير (من خلال تمسكهما باختيار الوزراء الشيعة) وهذا شرط وضعه حزب الله الذي لم يقدم أي تنازل ولم يحترم الوعد الذي قطعه امامي” . وقال “ان الفشل هو فشلهم ولا أتحمله انا وهذه مسؤولية كل قادة لبنان وعلى راسهم الرئيس عون …وانا اخجل بالنيابة عنهم”. وسأل “امل” و”حزب الله” :”هل يريدون للشيعة خيار الديموقراطية والمصلحة اللبنانية ام السيناريو الأسوأ ؟ وان حزب الله لا يمكنه ان يرهب الآخرين بقوة السلاح ويدعي انه طرف سياسي” معتبرا انه لا دليل على ان ايران لعبت دورا في منع تشكيل الحكومة اللبنانية. وقال ان ما من مسار بعد الان الا جمع الأحزاب حول خريطة الطريق وان تؤلف حكومة مهمة للإصلاح في اطار المبادرة الفرنسية وحدد مهلة ستة أسابيع لتشكيل الحكومة “والا سنضطر الى سلوك آخر” .
واشنطن والأمم المتحدة
وبدورها أعربت وزارة الخارجية الأميركية غداة اعتذار اديب عن خيبة الولايات المتحدة من الطبقة السياسية “لعدم إعطائها الأولوية للشعب اللبناني على السياسات التافهة “. واعتبرت ان اختيار وتعيين حكومة جديدة هو قرار يعود للشعب اللبناني الذي نزل الى الشوارع للمطالبة بالإصلاح وبحكم افضل ووضع حد للفساد …ومع الأسف لا يزال العمل يجري كالمعتاد في بيروت واي حكومة تأتي في المستقبل يجب ان تلبي التطلعات الحاجات المشروعة التي عبر عنها الشعب اللبناني “.
كما انتقد المنسق الخاص للأمم المتحدة في لبنان يان كوبيتش السياسيين اللبنانيين “الذين ضحوا بفرصة البدء بانتشال لبنان من الهاوية بمساعدة فرنسا الشجاعة وذلك من اجل طموحاتهم وأجنداتهم ” متسائلا “هل يفضلون حقا ان يتدمر البلد؟”.
ويشار في هذا السياق الى ان تحركات احتجاجية جديدة عادت امس الى الشارع وبرزت من خلال محاولات متظاهرين اقفال أوتوستراد جل الديب بيروت مساء حيث تدخل الجيش وحال دون اقفال الطريق .كما حصلت محاولات مماثلة في صيدا.
المواجهات شمالاً
وسط هذه الأجواء احتدمت على نحو خطير ومثير للتساؤلات المريبة المواجهات بين الجيش وقوى الامن الداخلي وخلايا إرهابية تعتبر امتدادا للخلية الاساسية التي قامت بجريمتي كفتون والبداوي . واتخذت المواجهات بعدا عنيفا جدا في اليومين الأخيرين اذ توزعت بين وادي خالد حيث نجحت قوى الامن الداخلي بمساندة الجيش في القضاء على مجموعة إرهابية من تسعة مسلحين في عملية استمرت حتى فجر الاحد . كما طارد الجيش في المنية مجموعة إرهابية حاولت مهاجمة ثكنة عرمان وتفجير حزام ناسف فيها فقتل الجيش إرهابيا واستشهد جنديان وجرت عملية مطاردة للآخرين في المنطقة.