اذا كان الخميس الماضي مر كأمر واقع مانع لاجراء الاستشارات النيابية الملزمة لتكليف رئيس الحكومة الجديدة ومعروفة الأسباب ومكشوفة تماما، فان الأسبوع الحالي يفتح على سؤال جسيم الخطورة هو، هل يلتزم العهد اجراء الاستشارات في الموعد الثاني الذي حدده لها الخميس المقبل، ام يقدم على مغامرة شديدة الخطورة في إرجائها مرة ثانية ؟ السؤال لا ينطلق من أي تهويل سياسي او غير سياسي بدليل التحذيرات اللافتة جدا من استرهان تشكيل الحكومة والامعان في تأخيرها للكنيستين المارونية والأرثوذكسية اللتين عبر عنهما امس كل من البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي وميتروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة. ولكن واقع البلاد المنذر بأسوأ تداعيات الازمات الاقتصادية والمالية والاجتماعية، كما بالانفجار المخيف لتفشي الانتشار الوبائي لفيروس كورونا وسط اشتداد المخاوف من انهيار النظام الصحي والاستشفائي، بات في درجة متقدمة من الخطورة بحيث يستحيل تصور اخضاع الاستحقاق الحكومي وقتا أطول للمماحكات والحسابات الضيقة والسياسية والشخصية على النحو الفاقع السائد منذ القرار الأول بإرجاء الاستشارات. والاهم من ذلك ان البلاد دخلت البارحة السنة الثانية من عمر انتفاضة 17 تشرين الأول الشعبية العارمة التي يمكن إخضاعها لتقويمات سلبية وإيجابية بطبيعة الحال، ولكن أحدا لا يمكنه تجاهل الأثر الكبير الذي تركته وتتركه تباعا في تعميم صورة اللبنانيين المنتفضين على الفساد والاهتراء السياسي الذي كان في أساس الانهيارات المخيفة التي شهدها لبنان وهو الامر الذي جعل المجتمع الدولي لا يستمع الا لكلمة الانتفاضة ويمنحها الصدقية والثقة ويضغط باسمها على الطبقة السياسية الحاكمة ويضع الشروط الصارمة للإصلاحات مدخلا وحيدا لتقديم الدعم الى لبنان. هذه الدلالات برزت بقوة السبت الماضي في احياء ذكرى مرور سنة على الانتفاضة التي تلقت تحيات دولية بارزة اكثر من اللفتات الرسمية للدولة اللبنانية وكان ابرزها من الأمم المتحدة والولايات المتحدة وفرنسا. اما الأبرز في احياء الذكرى التي اعادت مجموعات الانتفاضة والثورة الى الشارع وساحات بيروت والمناطق فتمثل في اضاءة شعلة الانتفاضة في مجسم أقيم قرب مكان الانفجار في مرفأ بيروت الذي اضحى الساحة الرمزية للانتفاضة وتضحيات بيروت ولبنان واللبنانيين حيث سقط لهم الشهداء وسالت دماء الضحايا والجرحى على مذبح الفساد الرسمي والسياسي والإداري الذي كان السبب الأول في الانفجار المدمر في 4 آب الماضي.
وسط هذه المناخات الضاغطة بكل ثقلها وتداعياتها، تكشف المعطيات المتجمعة حتى مساء امس ان رئاسة الجمهورية باتت تواجه مأزقا بالغ الحرج بعد تصاعد التداعيات الداخلية والخارجية في وجهها عقب ارجاء الاستشارات الأسبوع الماضي. فعلى الصعيد الدولي بات في حكم المؤكد ان الضغط الفرنسي والأميركي المزدوج تصاعد بقوة من اجل الإفساح امام الاستشارات بما وفرته من أكثرية لتكليف الرئيس سعد الحريري وقد سمع الذين قابلوا مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط ديفيد شينكر قبل أيام تأييدا واضحا لديه لتكليف الحريري بما ينسجم مع تأييده للمبادرة الفرنسية نفسها. اما في البعد الداخلي فان مجمل الازمات وتداعياتها تملي ترجيح كفة التزام الموعد الجديد للاستشارات وعدم الارجاء ثانية لان الثمن الذي سيتحمله العهد ان اقدم على تأخير الاستشارات للحؤول دون تكليف الحريري سيكون فادحا. فالأكثرية التي توافرت للحريري لن تتبدل حتى في حال ارجاء الاستشارات مجددا ثم ان العهد سيتحمل تبعات بالغة الخطورة للارجاء الثاني من شأنها فتح الازمة نحو تداعيات سياسية واقتصادية ومالية واجتماعية قد تكون الأسوأ اطلاقا منذ بدايات الانهيار في لبنان.
في موعدها… ولكن
وأكدت مصادر مطلعة في هذا السياق مساء امس ان الاستشارات النيابية الملزمة ستجرى في موعدها الخميس المقبل، ولن تؤجل ، الا ان المشكلة التي حاول رئيس الجمهورية تفاديها قبل التكليف ستنتقل الى عملية التأليف. فالحريري سيكلف الخميس وبأصوات تراوح بين 68 و70 صوتاً بما فيها نحو ثلث النواب المسيحيين في المجلس من كتل “المردة” والقومي والطاشناق الذي قد يتمايز عن “تكتل لبنان القوي” ، اضافة الى النواب المنتمين لكتلتي “المستقبل” “والتنمية والتحرير”.
وتشير المصادر المتابعة الى ان تكليف الحريري ينطلق من هذه النسبة من الاصوات ليدخل ازمة تأليف في معضلة الوقوف على رأي الكتل بتسمية ممثليها في الحكومة لا سيما اذا وافق مسبقاً على مطلب “أمل” و”حزب الله” بالحصول على وزارة المال وبتسمية وزرائهما، فضلاً عن مطلب رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط بالتمثيل الدرزي.
ووفق المصادر ان هذا التفاهم المسبق قد يقيد الحريري بمطلب الكتل الاخرى بحقها في التسمية.
وتراهن هذه المصادر على دور فرنسا باعادة تحريك اتصالاتها مع القوى السياسية اللبنانية ومع الدول الخارجية المعنية بالملف اللبناني. فواشنطن وكما نقل عنها انها غير مهتمة الا بالاسراع بتأليف حكومة لتنفيذ الاصلاحات المطلوبة، وكذلك هو موقف الرياض المبتعد عن الواجهة الحكومية.
وتشير المصادر الى ان اللواء عباس ابرهيم وفِي طريق عودته من واشنطن سيمر بباريس حيث ستكون له اتصالات او لقاءات ستشمل رئيس الاستخبارات الخارجية السفير برنار ايمييه، واذا احتاج الامر السفير ايمانويل بون مستشار الرئيس الفرنسي رئيس خلية الازمة المعنية بالملف اللبناني. مع العلم ان الادارة الفرنسية كانت أطفأت محركاتها في الشأن اللبناتي على خلفية استيائها من القوى السياسية وعدم التزامها ما تعهدت به بشأن تأليف حكومة انقاذية تفتح الباب على الاصلاحات المطلوبة وعلى عقد باريس لمؤتمر دعم للبنان.
وفيما يلتزم الحريري الصمت بانتظار يوم التكليف، تؤكد مصادر “المستقبل” ان الحكومة التي سيؤلفها هي حكومة قادرة على تنفيذ المبادرة الفرنسية، واذا اصرت القوى السياسية على تسمية ممثليها في الحكومة ففي هذه الحالة لن تشكل الحكومة.
وفي أي حال بدت أوساط بارزة في قوى 8 آذار نفسها متخوفة مساء امس من احتمال ارجاء الاستشارات مرة أخرى الخميس المقبل. وإذ لفتت هذه الأوساط الى ان الاتصالات السياسية كانت معدومة في الأيام الأخيرة لم تخف اعتقادها بان الإرجاء المحتمل للاستشارات ومجريات الأمور قد تؤثر سلبا على حظوظ تكليف الحريري .
الراعي وعودة
وفي اطار المواقف من الازمة ابرز البطريرك الراعي أهمية انطلاقة الانتفاضة الشعبية في ذكرى انطلاقتها “من اجل التغيير في ذهنية السياسيين ودور المجتمع وأداء مؤسسات الدولة”. وإذ انتقد بشدة أداء المنظومة السياسية سأل “من منكم أيها المسؤولون والسياسيون يملك ترف الوقت لكي تؤخروا الاستشارات النيابية وتأليف الحكومة ؟ ارفعوا ايديكم عن الحكومة وأفرجوا عنها فأنتم مسؤولون عن جرم رمي البلاد في حالة الشلل الكامل إضافة الى ما يفعله وباء كورونا”.
كما ان المطران عودة سأل بدوره “لماذا كل هذا التردد والتأجيل في تشكيل حكومة تنقذ الوطن الجريح والشعب الكسيح ؟ ولم كل تلك الإجراءات الخانقة والعراقيل الواهية؟”.