لا تعمُّد الرئاسة الفرنسية تقديم كلمة المجتمع المدني على كلمة رئيس الجمهورية ميشال عون في مؤتمر باريس، مع ما يختزنه ذلك من رسالة دولية واضحة بانعدام الثقة بحكمه وبمشروعية تمثيله لمعاناة اللبنانيين، ولا إنذار المبعوث البريطاني من “تسونامي صامت” يتربص بلبنان بعدما بات “على شفير عدم استطاعته إطعام نفسه”، محذراً السلطة السياسية من أن البديل عن إقدامها على الإصلاح وتشكيل الحكومة “ستكون له عواقب مروعة”… كل ذلك لا يبدّل شيئاً في سياسة المكابرة والمناورة التي ينتهجها العهد العوني، مواصلاً “استهبال” الناس والمجتمعين المدني والدولي بلعب أدوار بطولية على مسرح الإصلاح “وباستعراضات إعلامية” كما وصفها رئيس مجلس النواب نبيه بري أمس.
صحيح أنّ بري رأس الحربة في المنظومة الحاكمة والملاك الحارس لحاكم الخزينة المنهوبة، لكن أقله لا يدّعي طهراً ولا عفة ولا يتنكّر لأبوّة “عالسكين يا بطيخ” في تقاسم مغانم الدولة. ولأنه كذلك يبدو متحرراً من عقدة الانفصام بالشخصية بين واحدة مُصلحة وأخرى عكسها، ولم يتوانَ أمس عن “لطش” الانفصام العوني على قاعدة “شحّادين ومشارطين”، في معرض ربطه بين أداء عون الفارض للشروط التعطيلية المانعة لتأليف “حكومة المهمة” المطلوبة دولياً، وبين الإمعان في التسوّل أمام المحافل الدولية.
وبهذا المعنى قرأت مصادر مواكبة لخط الاشتباك بين عين التينة وقصر بعبدا “غمزاً من قناة مسؤولية عون عن تعطيل التأليف مقابل استجدائه المجتمع الدولي والبنك الدولي تقديم مساعدات إغاثية للبنان”، وذلك حين سأل رئيس المجلس: “إذا كان الوضع الاقتصادي على شفير “التوسّل” حتى لا نقول أكثر (في إشارة إلى التسوّل) فما الداعي الى التأخير ليوم واحد في تأليف الحكومة؟”.
وتشير المصادر إلى أنّ ملف التدقيق الجنائي أجّج الاشتباك بين الجانبين، خصوصاً بعدما نجح بري في ربط النزاع بين التدقيق المصرفي والإداري في مالية الدولة توصلاً إلى شبك المسارات الآيلة إلى فضح الفساد والهدر والسمسرات في وزارة الطاقة والكهرباء وسائر الوزارات والإدارات العونية. وفي المقابل سعى العونيون خلال الساعات الأخيرة إلى استثارة “حزب الله” ضد تغطية بري لغياب حاكم المصرف المركزي رياض سلامة عن جلسة مجلس النواب أمس الأول، فما كان من “الحزب” أن أكثر من استرضاء الحليف العوني عبر تظهير مواقف نيابية رافضة لغياب سلامة، بينما جواب الثنائي الشيعي أتى حاسماً على لسان رئيس المجلس نفسه من خلال تأكيده على أنّ “القرار الذي اتخذه المجلس بالاجماع مؤيداً التدقيق الجنائي يطال كافة الوزارات والمؤسسات والمجالس والصناديق، ولا مجال للمزايدات والنكايات والانتقاء بل السير “بالتوازي” كما نص القرار، وبهذا وحده يتبين الغث من السمين والمرتكب من البريء وليس بالاستعراضات والغوغائية والغرف السوداء”.
توازياً، لاحظ مراقبون أنّ مجريات جلسة المجلس الأعلى للدفاع أمس عكست بشكل واضح أنّ رئيس الجمهورية حوّله إلى “مجلس رئاسي” يستولي على صلاحيات منوطة أساساً بمجلس الوزراء، معتبرةً أنّ أداء عون في هذا المجال يشي بأنه قرر الاستغناء عن الحكومة “تصريفاً وتأليفاً”، ليأخذ المبادرة بطرح “مسائل إجرائية” على طاولة المجلس الأعلى للدفاع من المفترض أن يتولى بحثها مجلس الوزراء.
وفي هذا السياق، لفت في مقررات المجلس أمس حرفٌ لمهامه الدفاعية عن البلاد، والوصول بها إلى درك تسطير قرارات تُعنى بـ”تصريف المجاري وتنظيف الأقنية”، بينما استرعى انتباه المراقبين القرارات التي اتخذها مجلس الدفاع بإيعاز من عون وتتصل بإصدار “تكليفات للوزراء وللأمانة العامة لمجلس الوزراء”، بشكل يصادر الصلاحيات والمهام الحكومية، سواء عبر تكليف وزير المالية بفتح اعتمادات بالمليارات، أو من خلال تكليف الأمانة العامة لمجلس الوزراء استكمال ملف اعداد مشروع قانون لشركة مرفأ بيروت الذي رفعته اللجنة الموقتة لإدارة المرفأ.