ما حصل في جلسة اللجان المُشتركة (المال والموازنة، والعدل والإدارة، والإقتصاد الوطني والتجارة والصناعة والتخطيط والصحة العامة والعمل والشؤون الإجتماعية) الأسبوع الماضي والتي كانت مُخصّصة لدراسة الدعم كما والإحتياطي الإلزامي، كان تغطية لقرار رفع الدعم الذي تمّ إتخاذه من قبل القوى السياسية. هذا ما قاله مصدر في إحدى الأحزاب الكبيرة، مُضيفًا إن المُشكلة تكمن في من له الشجاعة في إعلان هذا الأمر.
عبارة “الدعم” التي تُستخدم في الخطاب السياسي والإقتصادي، لا تعكس ما يقوم به مصرف لبنان. فالدعم هو نتاج السياسة المالية للحكومة حيث يتمّ رصد قيمته في الموازنة العامّة كلّ عام للعام المُقبل من خلال قرار تحميل الخزينة العامة قسما من كلفة إستهلاك بعض السلع والبضائع ذات الطابع الإجتماعي. ما يقوم به مصرف لبنان، لا يدخل في خانة الدعم بل هو تأمين الدولارات لشراء السلع والبضائع والخدمات المُستوردة على سعر الصرف الرسمي وسعر المنصة الإلكترونية. هذا المال يأتي من إحتياطات العملات الأجنبية للمصرف المركزي والتي تحوي ودائع المودعين.
مع وصول إحتياطات مصرف لبنان إلى مستوى الإحتياطي الإلزامي أي ودائع المصارف الإلزامية في المصرف المركزي وبالتالي أموال المودعين، أصبح تأمين الدولارات لشراء السلع والبضائع والخدمات مُهمّة شبه مُستحيلة مع تفاقم الضغط الأميركي على الطبقة السياسية اللبنانية. وبالتالي، أخذت القوى السياسية بدراسة الحلول المُمكنة أمامها ومن بينها:
أولا- تشكيل حكومة قادرة على القيام بإصلاحات تسمح بإستكمال التفاوض مع صندوق النقد الدولي وبالتالي إدخال الدولارات إلى القطاع المصرفي وهو ما سيسمح، مع هيكلة الإقتصاد، بالإستمرار بسدّ حاجة السوق الداخلي. هذا الخيار يبقى رهينة الوضع السياسي الذي من الواضح أنه أصبح حلا صعبا والراجح أنه خرج عن سـيطرة القوى السـياسية.
ثانيًا- إستخدام الاحتياطي الإلزامي من خلال تحرير قسم منه. هذا الإحتياطي الإلزامي يُشكّل 15% من أموال المودعين بالعملات الصعبة، وبالتالي فإن تحرير قسم من هذا الإحتياطي يفرض إعادة الأموال إلى المصارف ومنهم إلى المودعين لا لما يقال عنه دعم للسلع. مما يعني إستحالة إستخدامه لشراء السلع والبضائع نظرا إلى أن المُلكية الخاصة لها قدّسية في الدستور اللبناني. وهنا يبرز السؤال الكبير، على أي شيء استندت القوى السياسية في ترجيحها خفض مستوى الاحتياطي، وهل يحق للمصرف المركزي استعمال هذه الأموال في حال اتخذ هكذا قرار التصرف به، واستنادا على أي اجتهاد؟
ثالثا- بيع قسم من الذهب الذي يمتلكه مصــرف لبنان والذي يتواجد ثلثــاه في المصــرف المركزي بحسب تصريح حاكمه رياض سلامة. هذا الأمر يفرض تعديل القانون 42/86 (منع التصرّف بالموجودات الذهبية لدى مصرف لبنان) وهو إنتحار في ظل غياب حكومــة وخطّــة للنهوض الإقتصادي والمالي. وهذا إذا حصل يصنف في خانة تراكم القــرارات الخاطــئة “Escalation of duties”.
رابعا- وقف التهريب للسلع والبضائع المدعومة وترشيد عدد المدعوم منها وتمويل هذا الدعم من خلال إلزام المُصدّرين (صناعيين ومزارعين وتجّار) إلى إعادة الأموال إلى القطاع المصرفي، من خلال مراقبة جهة الأموال الحاصلة جراء عمليات التصدير التي تستفيد في قسم منها هذه الجهات في شراء المواد الأولية بدعم من الخزينة، مما يسمح بتغطية كلفة الإستيراد من خلال هذه الصادرات. إلا أن هذا الخيار لم يتمّ وضعه على طاولة المشاروات على الرغم من بعض الأصوات التي نادت به، وهذا يفتح بابا عريضاً للمساءلة التي قد ترقى إلى الاتهام.
إن صعوبة هذه الحلول أو استحالة العمل ببعضها في الوقت الراهن دفع القوى السياسية إلى إعتماد حلّ خامس وهو رفع الدعم عن الإستيراد. هذا الأمر سيؤدّي حتماً إلى ثورة سيكون بدون أدنى شكّ ثمنها السياسي كبيرا جدا. من هنا تم العمل على إيجاد تخريجة تنصّ على رفع الدعم تدريجيا في قطاع المحروقات (بالدرجة الأولى) وفي القطاع الغذائي على أن يتمّ الحفاظ على جزء من الدعم للأدوية وبعض المواد الغذائية الأساسية.
هذا الأمر يعني أن الأسعار سترتفع تدريجيا (وهذه هي التخريجة) مع رفع الدعم رويدا رويدا إلى أن يصبح الإستيراد بالكامل بالدولارعلى سعر السوق، والتعويل السياسي في ذلك على التكليف التدريجي للعبء بحيث يصبح الشعب حاضراً ذهنياً ونفسياً للمصاعب الحياتية، وهو ما تراهن عليه الطبقة السياسية لتخفيف وطأة الاحتجاجات الشعبية. والحق يقال، إنها إلى الآن نجحت في هذا الأسلوب إلى حد كبير وغير متوقع.
مصدر إحدى الأحزاب الكبيرة قال إن التخريجة هذه تمّ تسليمها إلى رئيس الحكومة المُستقيلة الرئيس حسان دياب بعد فشل إلقائها على حاكم المصرف المركزي الذي اختار عدم الحضور موفداً ممثلا له ويقال إن ذلك كان بناء على توصيات نيابية. على كلٍ، يلتئم اليوم عدد من الوزراء في إجتماع برئاسة الرئيس حسان دياب وحضور المجلس المركزي للمصرف المركزي للبحث في الحلول المطروحة على أن يخرج عن الإجتماع قرار يتبنّى ترشيق الدعم.
تشكيل الحكومة
ملف تشكيل الحكومة يُراوح مكانه مع تصلّب المواقف. وإذا كانت المعلومات تتحدّث عن زيارة مُرتقبة للرئيس المُكلّف سعد الحريري اليوم إلى القصر الجمهوري حيث سيُقدّم تشكيلة حكومية من 18 وزيرا “تراعي المواصفات الفرنسية ولا تحيد عنها” بحكم أن الرئيس الحريري “باقٍ على التزامه بالمبادرة الفرنسية”، إلا أن المتوقّع أن يتمّ رفض هذه التشكيلة من قبل رئيس الجمهورية العماد ميشال عون نظرًا إلى غياب وحدة المعايير بحسب رأيه وهذا ما عبر عنه في خطابه في ذكرى الإستقلال. هذه الخطوة وعلى الرغم من معرفة نتيجتها مُسبقًا، إلا أنها ترمي الكرة في ملعب رئيس الجمهورية. وكان من المُتوقّع أن تتم زيارة رئيس الحكومة المُكلّف هذه الإثنين الماضي، إلا أن معرفته المسبقة لردّ رئيس الجمهورية كان ليبث أجواء سلبية على مؤتمر الدعم الأربعاء الماضي، وهذا ما لم يكن محبذاً.
إن تأخير ولادة الحكومة يزيد الخسائر يوما بعد يوم ويجعل من عملية إستعادة عافية البلد إقتصاديًا أكثر كلفة، لكن الظاهر أن البعض يُراهن على ما تبقى من موارد في البلد سواء أكانت أصولاً منقولة أو غير منقولة. إلا أن ما ينتظر البلد في المرحلة المُقبلة خصوصًا على صعيد إرتفاع الأسعار وزيادة الفقر يجّعل الرهان على الأصول المُتبقّية غير دقيق ودون أي فائدة تذكر.
وتبقى المخاوف من أن يكون تشكيل الحكومة رهينة إشارة خارجية لن تأتي قبل وضوح الصورة بين الولايات المُتحدة الأميركية وإيران أي بمعنى أخر حتى تسلمّ جو بايدن مهامة الرئاسية في البيت الأبيض في كانون الثاني من العام المُقبل.
في هذا الوقت، تبرز إلى الواجهة مُعطيات أوروبية تُعدّل في المعادلة السياسية أولها الموقف البريطاني المُستجدّ وثانيها زيارة ماكرون إلى بيروت في الأسبوع الثالث من هذا الشهر مُتسلّحًا بدعم أوروبي. هذه المُعطيات مع صــمت روسي فسّره البعض على أنه دعم لبعض القوى السياسية في مواجهة السياسة الأميركية، يجعل من المـلف الحكومي عقدة لا يُمكن حلّها إلا بتقاطع مصالح هذه الدول.
في المقابل يرى بعض المراقبين أن الصراع الحقيقي هو صراع داخلي ذلك أن الحكومة التي ستتشكّل ستبقى حتى نهاية عهد الرئيس ميشال عون. وبالتالي فإن الفراغ الرئاسي الذي سيحصل (كما العادة) سيجعل من هذه الحكومة هي التي ستحكم خلال فترة الفراغ، من هنا التمسّك ببعض الوزارات وتسمية الوزراء. من جهة أخرى، يبرز الأن بالذات طروحات سياسية مع دراسات قانونية فسّرها البعض على أنها جسّ نبض ليكون ذلك (من باب الإحتمال) بابًا لتأجيل الانتخابات النيابية والعمل على قانون انتخابي جديد وبالتالي تمديد ولاية المجلس النيابي الحالي.
المجلس الأعلى للدفاع
في هذا الوقت خرجت إلى العلن إنتقادات، مصدرها رئيس حكومة سابق (لم يُذكر إسمه)، بإتجاه رئيس الجمهورية تطال دعوته إلى “توسيع نطاق تصريف الإعمال” مُتهما رئيس الجمهورية بـ “نقل صلاحيات السلطة الإجرائية إلى مجلس الدفاع الأعلى الذي لا يتمتّع بصفة تقريرية ويبقى دوره محصورًا في إصـدار توصيات ورفعها إلى مجلس الوزراء الذي يحق له وحده النظر فيها وإتخاذ القرارات المُناسبة”. وهو ما يُشير إلى عودة حرب الصلاحيات بين الرئاســتين الأولى والثالثة.
وكان سُرّب عن الإجتماع الأخير لمجلس الدفاع الأعلى قول رئيس الجمهورية إن تشكيل الحكومة سيتأخرّ وبالتالي تمنّى توسيع نطاق تصريف الأعمال. وتزامن هذا الأمر مع زيادة فتح ملفات الفساد التي طالت عسكريين وقضاة وموظّفين وقريبا أسماء وزراء وسياسيين من الصفوف الأمامية.
بعض المراقبين يخشون “تصفيات حسابات سياسية” من خلال هذه الملفات، إلا أن البعض الأخر يعزي فتح ملفات الفساد كإشارة يُريد رئيس الجمهورية إرسالها إلى المُجتمع الدولي عن جدّية محاربة الفساد مع إصراره على التدقيق الجنائي الذي سيكشف الكثير من ملفات الفساد. وهو ما يُنذر بمواجهة سياسية طاحنة يُرشحّ البعض أن تنتهي بإغتيالات سياسية أو أعمال إرهابية تقوم بها خلايا نائمة وحذّر منها المجلس الأعلى للدفاع.
الوضع المعيشي والصحي
هواجس تشكيل الحكومة وصولا إلى التهديد بحرب أهلية مرورًا برفع الدعم وملف التدقيق الجنائي وتفشّي وباء كورونا، تُسيطر على يوميات المواطن اللبناني. هذا الواقع مُرشّح إلى أن يتطوّر إلى فوضى إجتماعية أصبحت شبه حتّمية مما يعني أيام قاتمة قادمة.
بالتوازي، تمّ تكليف وزير المال غازي وزني التفاوض مع البنك الدولي لتأمين قرض بقيمة 246 مليون دولار أميركي بهدف تمويل شبكة أمان إجتماعي يطال الأسر الأكثر حاجة مع إحتفاظ البنك الدولي وضع المعايير ولوائح هذه الأسر. إلا أن العقبة الأساسية تبقى أن البنك الدولي لا يتعامل مع حكومات تصريف أعمال وبالتالي هناك إستحالة إقراض الدولة اللبنانية لتأمين هذا المبلغ.
ولا يقلّ الوضع الصحي تأزما عن الوضع المعيشي مع المخاوف المُتصاعدة من تداعيات رفع الدعم عن القطاع الصحي. ولم ينجح النائب عاصم عراجي بصفته رئيس لجنة الصحة النيابية بإقناع وفد البنك الدولي بتمويل إستيراد أدوية أساسية الذي يشترط حكومة تحظى بالثقة وتُنفذّ الإصلاحات المُطلوبة.
فإلى أين ذاهبة هذه التصدعات، وهل من مفاجآت تغير الصورة السوداوية للوضع الحالي والمستقبلي؟