تفجرت أمس “حرب قضائية”، إذا جاز التعبير، على جبهة قضية انفجار مرفأ بيروت، في موازاة الحروب السياسية والمالية والاقتصادية المندلعة منذ أواخر العام 2019 والمتوالية فصولاً، تغذيها نزاعات سياسية عنيفة وعقيمة بين مختلف الافرقاء السياسيين غير العابئين بما آلت اليه أوضاع البلد الذي بات واقفاً على شوار الانهيار الشامل، فيما يمعن هؤلاء في التسابق والتنافس والتناحر على حصص وزارية في حكومة اذا ولدت ستكون على شاكلتهم فاسدة وفاشلة. فيما المطلوب من الجميع أن يَرعووا إزاء آلام الناس ومعاناتهم اليومية على كل المستويات، ويسهّلوا تشكيل حكومة فاعلة تنفذ الاصلاحات المطلوبة داخلياً ودولياً، وتضع البلاد على سكة الخروج من الانهيار الاقتصادي المالي المتوقع تفاقمه في حال استمرار الاوضاع على هذا المنوال المدمّر.
لا يمكن الحديث عن تشاؤم في المطلق ولا عن تفاؤل في المطلق، لأنّ فرص تأليف الحكومة الجديدة من عدمه مُتساوية، فما يعزّز المنحى الإيجابي والتفاؤلي يكمن في الآتي:
ـ إنطلاق البحث على الورق، الأمر الذي يؤدي إلى حصر مَكامن الخلاف والعمل على معالجتها، فيعني انّ الأمور اقتربت من الحل كون تجزئة المسألة والتعامل مع جزئياتها أفضل وأسهل من التعامل معها بكليتها.
ـ تحديد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون موعد زيارته الثالثة إلى لبنان في 21 الجاري، ما يشكّل قوة دفع نحو التأليف قبل هذا التاريخ وهذه المحطة، ويعني انّ باريس ستضع ثقلها في هذا الاتجاه.
ـ وصول الجميع إلى المأزق الكبير بفعل الأزمة المالية وتحوّل لبنان ورشة للبحث في سبل تخفيف وطأة الفقر عن الناس، فيما تشكيل الحكومة يؤدي إلى تَرييح الأسواق ويفتح باب الأمل بفرملة الانهيار.
أمّا المنحى التشاؤمي فيكمن في الخلاف على مسألة جوهرية لا تفصلية، وهي “الثلث المعطّل” الذي يتمسّك به العهد ومن الصعوبة ان يتراجع عنه أو ان يتراجع عن تسمية الوزراء المسيحيين ضمن حصته، وإذا كانت التسمية قابلة للحلّ تبقى مسألة الثلث المعطّل الذي لا يريد الرئيس المكلف ان يكون من حصة أحد تسهيلاً لعمله، فيما يريده العهد في آخر حكوماته مبدئياً ضماناً لـ3 مسائل: قطع الطريق أمام أي تقاطع ضده في أي من ملف من الملفات، ولكي يتمكن من إسقاط او وضع “فيتو” على ما لا يريده منفرداً، والأهم ان يبقى ممسكاً بمفاصل السلطة بعد انتهاء عهده وفي حال لم ينتخب خلفاً له، وهذا على الأرجح، فتكون الحكومة موقع ثقل لدوره في مرحلة ما بعد الفراغ الرئاسي.
ولا شك في انّ تقديم التشكيلة أدى غرضه لجهة تحريك مياه التأليف الراكدة، وهذا التحريك يتم على خطين يتكاملان بعضهما مع بعض:
ـ الخط الأول، محلي عن طريق حراك ظاهر وآخر مُستتر في محاولة لتجاوز العقد الظاهرة والمستترة، وهناك سعي جدي للوصول إلى مساحة مشتركة والاستفادة من “المومنتوم” الجديد لإصدار مراسيم التأليف.
ـ الخط الثاني، من خلال الدفع الفرنسي والمصري الذي يتم خارجياً وداخلياً من أجل تأمين ولادة آمنة للحكومة.
نقلة تكتيكية
لكنّ مصادر مطلعة قالت لـ”الجمهورية” انّ التشكيلة التي قدمها الحريري الى رئيس الجمهورية ميشال عون “لا تلبّي المعايير التي وضعها عون. وبالتالي، فإنّ هذه التشكيلة لم تكن نقلة في اتجاه تقريب الولادة الحكومية بمقدار ما كانت نقلة تكتيكية فوق رقعة التفاوض والأخذ والرد”.
واعتبرت المصادر “انّ الحريري اراد من هذه التشكيلة التي اختار اسماء وزرائها ان يوصِل إلى الأميركيين وحلفائهم الاقليميين رسالة مفادها انه اقترح من ناحيته حكومة خالية من “حزب الله” وأدّى قسطه للعلى في هذا المجال، “وانّ اي تعديل يطرأ لاحقاً في اتجاه تمثيل الحزب ولو بطريقة غير مباشرة، إنما يتحمل مسؤوليته عون وليس هو كرئيس مكلّف، مفترضاً انه بذلك يحمي نفسه ومحيطه من خطر العقوبات الأميركية”.
ينتظران بعضهما
وفي اي حال وبعد 24 ساعة على لقاء عون والحريري، ما زالت ردود الفعل عليه تتفاعل على خلفية الفروق الكبيرة بين مضمون تشكيلة الحريري والتوزيعة المعتمدة في الحقائب على الطوائف والمذاهب والاسماء المتكاملة التي قدمها ولم تُرض عون الذي ردّ عليها تواً على مستوى توزيع الحقائب لا الاسماء.
وقالت مصادر مطلعة على ما شَهده اللقاء لـ”الجمهورية” انّ عون والحريري ينتظران بعضهما بعضاً، ففي الوقت الذي ينتظر عون جواب الرئيس المكلف على تصوّره لإعادة التوزيع التي أجراها على مستوى الحقائب، لا يزال الحريري في المقابل ينتظر بدوره موقف عون من تشكيلته المتكاملة التي تقدم بها على مستوى الحقائب والأسماء، خصوصاً انّ التوليفة الحكومية جاءت متلائمة مع المبادرة الفرنسية التي تحدثت عن حكومة حيادية لا تتضمن اي وزير حزبي عدا عن الكفايات التي جاءت بالوزراء من الحقل المتخصّص، وتحديداً في بعض الحقائب التي تحتاج الى مثل هذه المواصفات. وعليه، فإنّ الحريري قام بما أوكل اليه الدستور من مهمات، وسلّم رئيس الجمهورية التشكيلة بكل مواصفاتها وهو ينتظر جوابه عليها.
وفي معلومات لـ”الجمهورية” انّ عون رفض تشكيلة الحريري التي جمعت وزراء من مختلف الطوائف والمذاهب من دون اي تنسيق مسبق للرئيس المكلف مع أيّ من قيادات الثنائي الشيعي ولا “الحزب التقدمي الاشتراكي”، كما بالنسبة الى تسميته للوزراء المسيحيين من دون التشاور مع “التيار الوطني الحر” و”الطاشناق” و”المردة”، وهو أمر طالما لفتَ اليه عون نظر الحريري في مختلف اللقاءات التي سبقت لقائهما الاخير.
لا موعد ولا لقاء مرتقب
وعليه، أجمَعت المصادر المطلعة على لا موعد تحدد بعد للقاء جديد بين عون والحريري حتى ساعة متاخرة من ليل امس، فكلّ منها ما زال ينتظر الآخر لتبادل الآراء حول الملاحظات المتبادلة بينهما.
مواقف
وفي غضون ذلك أكدت كتلة “الوفاء للمقاومة”، في اجتماعها امس برئاسة النائب محمد رعد، انه “في حَمأة تَضارب المصالح والاصطفاف الإقليمي والدولي، أنّ مصلحة لبنان الأكيدة أن تتشكّل فيه وبسرعة حكومة تجدد حضور الدولة على الصعيد الاقتصادي والنقدي والإداري والاجتماعي، فضلاً عن الحضور السياسي على الصعيد المحلي والإقليمي”. وقالت انّ “الأولوية التي يجب أن تتصدر اهتمامات كل اللبنانيين اليوم، هي تشكيل حكومة قادرة على إعادة لملمة الوضع المتصدّع في معظم بنيان الدولة، وتقديم أداء وطني يستعيد الأمن والاستقرار ويشكل قاعدة ارتكاز للتصحيح المالي والنقدي والإداري والاقتصادي في البلاد مع ما يَتطلّبه بعيداً عن منطق المزايدات أو استدراج وصايات أو تورّط بارتهانات”.
وبدوره، قال رئيس “الحزب التقدمي الإشتراكي” وليد جنبلاط عبر “تويتر: “يبدو انّ الدخان الابيض حول الحكومة لن يصدر قريباً نتيجة مزيد من الاختبارات لاعتماد الـ vaccine الافضل لعلاج الازمة”. وأضاف: “من جهة اخرى، وكوني أفرّط بحقوق الطائفة فإنني أفوّض حُماة الديار بتحصيلها بحد السيف من لبنان الى سوريا الى فلسطين الى المهاجر والى الصين، حيث فراغ كبير في قضاة المذهب”.
قضية المرفأ
غير ما خطف الاضواء في حَمأة الازمة الحكومية المتفاقمة اندلاع “حرب قضائية” أطلق شرارتها المحقق العدلي في ملف انفجار مرفأ بيروت القاضي فادي صوان، حيث ادّعى على رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب وعلى وزير المال السابق علي حسن خليل ووزيري الأشغال العامة السابقين غازي زعيتر ويوسف فنيانوس، بجرم الإهمال والتقصير والتسبّب بوفاة وإيذاء مئات الأشخاص. وحدّد أيام الاثنين والثلثاء والأربعاء من الأسبوع المقبل، مواعيد لاستجوابهم كمدعى عليهم، على أن ينتقل الاثنين الى السرايا الحكومية لاستجواب دياب، وفقاً لما ينص عليه قانون أصول المحاكمات الجزائية، وذلك بعد إبلاغه مضمون الادعاء، فيما يستجوب الوزراء في مكتبه في قصر العدل.
وردّ دياب على الادعاء ببيان اكد فيه انه “مرتاح الضمير وواثق من نظافة كفه وتعامله المسؤول والشفاف مع ملف انفجار مرفأ بيروت”. واستغرب “هذا الاستهداف الذي يتجاوز الشخص إلى الموقع، وحسان دياب لن يسمح باستهداف موقع رئاسة الحكومة من أي جهة كانت”.
ثم قال المكتب الاعلامي لدياب، في بيان أصدره، الآتي: “تبلّغ المحقق العدلي القاضي فادي صوان جواب رئيس حكومة تصريف الأعمال الدكتور حسان دياب على طلب الاستماع إلى إفادته، مؤكداً أنه رجل مؤسسات ويحترم القانون ويلتزم الدستور الذي خرقه صوان وتجاوز مجلس النواب، وأنّ الرئيس دياب قال ما عنده في هذا الملف ونقطة على السطر”.
من جهته كتب الرئيس نجيب ميقاتي عبر “تويتر”: “لا تستقيم العدالة بمكيالين، وحَق ذوي ضحايا تفجير المرفأ معرفة الحقيقة ومحاسبة الضالعين في الجريمة. فكيف يمكن اعتماد الانتقائية في الملاحقة وإغفال ما قاله رئيس الجمهورية من أنه قرأ التقارير التي تحذّر من وجود مواد خطرة بالمرفأ؟ الحق كلٌ لا يتجزّأ وليس استهداف اشخاص بعينهم افتراء”.
وقال النائب علي حسن خليل رداً على قرار الادعاء عليه: “كنّا دوماً تحت سقف القانون وأصوله ونثق بأنفسنا وبممارستنا لمسؤوليتنا”. وأضاف: “نستغرب تناقض موقف المحقق العدلي بما يخالف الدستور والقانون واستطراداً نقول لا دور لي كوزير للمال في هذه القضية، محضر التحقيق يشهد ولنا تعليق مفصل آخر لتبيان كل الخلفيات والحقائق”.
ووصف “اللقاء التشاوري”، في بيان، قرار صوان باستجواب دياب بأنه “قرار مريب، ومَشوب بكثير من الخفة والارتجال”. وإذ أيّد “محاسبة ومساءلة الجميع من دون خطوط حمر”، رأى أنّ “استهداف الرئيس دياب على هذا النحو دون سواه، فيه كثير من الانتقائية والكيدية، كما يبطّن شبهة استِسهال المَس بموقع رئيس مجلس الوزراء في اعتبار انّ شاغله ليس من أمراء الطوائف، وهذا ما لا نرضى به بأيّ حال من الأحوال”.
إستدعاء سلامة
من جهة ثانية، إستدعت المدّعية العامة في جبل لبنان القاضية غادة عون حاكم مصرف لبنان رياض سلامة للمثول أمامها، أمس، للاستيضاح منه حول ملف الهدر الحاصل في الدولار المدعوم.
وقد حضر محامي مصرف لبنان شوقي قازان ومدير المالية للمصرف مازن حمدان، على أن يُحدّد موعد لاحق لجلسة الاستماع المقبلة مع سلامة، الذي قدّم بواسطة وكيله القانوني معذرة لأسباب أمنية.
وأفيد لاحقاً عن إقفال عدد من المحتجين الطريق المؤدي إلى منزل سلامة في الرابية، بالإطارات المشتعلة، وتدخلت القوى الامنية بمؤازرة الجيش وعملت على تفرقيهم.
ملف الدعم عالق
وعلى صعيد ملف الدعم، ومع استمرار البحث في الاتفاق على خطة واضحة لترشيد الدعم وكسب المزيد من الوقت، بدأت تتضِح أكثر فأكثر المعضلة التي ستواجهها الدولة في مقاربة هذا الملف الحارق. وتبرز تباعاً مواقف عمالية ونقابية تُنذر بمواجهة قاسية مع السلطة التي تحاول أن تحمي ما تبقّى من ودائع، وأن تستمر في الدعم بالحد الأدنى لضمان عدم حصول انفجار اجتماعي قد ينعكس سلباً على الوضع الأمني، في ظل تفشي الفقر والعوز بين شريحة واسعة من المواطنين.
وتتخوّف مصادر مراقبة من أن يؤدي الضغط في الشارع الى إجبار السلطة الضعيفة على الرضوخ والابقاء على الدعم في شكله الحالي، بسبب عجزها عن اتخاذ قرار واضح لتنفيذ خطة ترشيد مقبولة. ومثل هذا المشهد يُعيد الى الأذهان ما حصل في خلال السعي النقابي الى إقرار سلسلة الرتب والرواتب. يومها، انصاعَت السلطة للضغوط التي مارستها هيئة التنسيق النقابية، وأقرّت السلسلة، وساهمت من حيث تدري أو لا تدري في تسريع الوصول الى الانهيار الذي يعانيه البلد اليوم، ويعانيه مَن سعى للحصول على السلسلة مثل سواه. إنها الفاتورة التي يدفعها المواطن،عندما يتم اتخاذ القرارات الشعبوية.
حاليّاً، الاجتماعات والحوارات متواصلة تحت عنوان “ترشيد الدعم”. لكنّ الرهان على إقرار خطة ليس مضموناً، وستكون الاولوية لممارسة لعبة عَض الاصابع في الايام المقبلة بين السلطة والشارع.
كورونا
وعلى الصعيد الكوروني، أعلنت وزارة الصحة، في تقريرها اليومي حول مستجدات فيروس كورونا أمس، تسجيل 1778 إصابة جديدة (1777 محلية و1 وافدة)، ليصبح العدد الإجمالي للإصابات 142187. ولفتت إلى تسجيل 14 حالة وفاة جديدة، وبذلك يصبح العدد الإجمالي للوفيات 1170 حالة.