أغلب الظن ان كثيرين عاودتهم نفحة تفاؤلية امام مشهد تحرك ديبلوماسي استثنائي ناشط استهدف نقل خليط من المطالب والضغوط والتحذيرات الغربية، بل الدولية عموما، حيال تداعيات تعطيل تشكيل الحكومة الجديدة، كما تفاءلوا أيضا بصورة فريدة يحل فيها رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري وحده من بين المسؤولين والزعماء في بكركي يوم عيد بشارة العذراء الذي أقرته حكومة الحريري اول عيد مشترك للمسيحيين والمسلمين، وفي الذكرى العاشرة لتبوء البطريرك مار بشارة بطرس الراعي سدة البطريركية المارونية. ولكن رياح المعطيات القائمة غداة التطورين بدت كأنها لا تزال تعاكس سفن المتفائلين اذ لم تظهر بعد أي ملامح تبعث على امكان توقع حلحلة، ولو نسبية، في الموقف المتعنت للعهد واهدافه التي باتت لا تقتصر على الثلث المعطل والتدخل في صلب صلاحيات الرئيس المكلف، بل ان الهدف المكشوف الأساسي له هو المضي في التعطيل والتمترس لدفع الحريري الى الاعتذار.
وفيما بدأ الحديث امس عن وساطة متجددة لرئيس مجلس النواب نبيه بري، يؤمل الا تلتحق سريعا بسابقتها او بمصير سواها من الوساطات، تتندر الكواليس السياسية بواقعة مثبتة ومؤكدة مفادها ان رئيس الجمهورية ميشال عون سارع بعد اللقاء الأخير بينه وبين الحريري وعقب مغادرة الاخير قصر بعبدا الى سؤال المحيطين به: هل اعلن اعتذاره ام لا ؟ بما يعكس بوضوح ان التخلص من الحريري هو السقف الحقيقي والثابت لأهدافه واهداف رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل. هذا البعد لم يغب ابداً عن المجريات الأخذة بالتأزم الشديد على كل الصعد والتي اذا كانت لعبت دوراً محورياً محركاً لتحرك السفراء، فانها حضرت بقوة حتى في اجتماع مجلس الدفاع الأعلى حيث بدا بمكان ما، كأن حكومة تصريف الاعمال تستعجل الحكم اطلاق سراحها من الأسر القسري ! اذ ان رئيس حكومة تصريف الاعمال حسان دياب وفي مطالعة سياسية مسهبة عزا اشتداد المأساة الحالية الى “الواقع السياسي الاستثنائي الذي ما زال يحول دون تشكيل حكومة جديدة تتصدى لهذه الظروف من خلال استئناف ورشة الإصلاحات وبالتالي التفاوض مع صندوق النقد الدولي على قاعدة هذه الإصلاحات وانطلاقا من خطة الحكومة المستقيلة”.
وشدد على انه “من دون ذلك سنستمر بالدوران في حلقة مفرغة، ويعني أيضا أن كل الاجراءات التي يمكن اتخاذها للتعامل مع هذه الظروف الاستثنائية، هي بمثابة مسكنات للوجع، لكنها لا تعالج أسباب هذا الوجع”. ولم تكن الطبيعة المتداخلة للقرارات التي اتخذها المجلس وأحالها على “مجلس الوزراء” الا صورة عن التداعيات المخيفة للمضي في منع تشكيل حكومة جديدة والتخبط في دوامة قرارات ظرفية ومجتزأة.
.. إيران على الخط
ولعل الأسوأ من تجاهل العهد الانزلاقات الخطيرة نحو انهيارات صحية ومالية واقتصادية واجتماعية تفقد معها السلطة كل بقايا القدرة على السيطرة على الكارثة، ان يكشف العامل الإيراني المتحكم بالجانب الاخر من قرار تعطيل تشكيل الحكومة الجديدة نفسه بنفسه الامر الذي يتسبب بمزيد من تعرية واقع العهد وحليفه “حزب الله ” في دوامة مواجهة التداعيات الخطيرة للتعطيل. اذ اتهم امس المساعد الخاص لرئيس مجلس الشورى الإيراني حسين أمیرعبد اللهیان، أميركا وفرنسا والسعودية باتباع سياسة “عدم وجود حكومة قوية” في لبنان. وقال: “تنتهج الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية سياسة عدم وجود حكومة قوية والإنقسام وإضعاف المقاومة، وهي الوجه الثاني من تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني وإضعاف لبنان”. وأضاف “لا شك في أن مثلث المقاومة والجيش والحكومة اللبنانية هو الرابح الرئيسي. تدعم إيران بقوة أمن لبنان واستقراره واقتصاده الديناميكي”.
الاستنفار
وجاء ذلك غداة الاستنفار الديبلوماسي الذي توزعه سفراء الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وبريطانيا في بيروت والذي عكس وفق المطلعين اتجاهين أساسيين: الأول إيجابي يتمثل في احتمال ان يكون وراء هذا التحرك تنسيقا بين الدول المعنية لتصعيد الضغوط الخارجية بقوة على المسؤولين اللبنانيين وخصوصا العهد، وإفهامه ان المجتمع الدولي معني باستعجال تشكيل الحكومة الجديدة، وانه بعد انفجار العلاقة بين الرئيسين عون والحريري لن يبقى متفرجا على الانسداد من منطلق قرار بعدم ترك الشعب اللبناني يعاني منعزلا تداعيات الانهيارات الكبيرة والخطيرة التي تضرب لبنان. واما الجانب الثاني فهو سلبي اذ يكشف هذا الاستنفار تصاعد القلق الجدي لدى الدول الكبيرة المعنية حيال انزلاق لبنان بقوة وفي فترة وشيكة نحو اهتزازات خطيرة جراء الانسداد السياسي المترافق مع تضخم الازمات المالية والاقتصادية والاجتماعية وتعاظم المخاوف من اضطرابات امنية.
واتخذ الاستنفار الديبلوماسي طابعه الاستثنائي بداية من خلال الزيارتين اللتين قامت بهما السفيرة الأميركية دوروثي شيا لقصر بعبدا وبيت الوسط وتلاوتها من بعبدا بيانا معداً مسبقاً وقالت فيه “أود أن أقول لأي شخص يضع شروطا لتأليف هذه الحكومة التي هي حاجة ماسة لشعبكم، إذا كانت تلك الشروط قد أدت إلى عرقلة تشكيل الحكومة، أود أن أسأل: الآن بعد مرور ثمانية أشهر تقريبا من دون حكومة بسلطات كاملة، ألم يحن الوقت للتخلي عن تلك الشروط والبدء بالتسوية؟ إنه لمن المهم التركيز على تأليف الحكومة، وليس عرقلتها”.
وفي الوقت نفسه كان رئيس مجلس النواب نبيه بري يلتقي السفيرة الفرنسية آن غريو، بناء على طلبها، حيث تم عرض التفاصيل المتعلقة بالملف الحكومي والمعوقات التي تحول دون انجاز تشكيل الحكومة. وبدورها اعلنت السفارة البريطانية أن القائم بالاعمال البريطاني في لبنان مارتن لنغدن تحدث مع رئيس “التيار الوطني الحر” حول “القلق العميق على لبنان”. وقال لنغدن: “يرقص القادة السياسيون على حافة الهاوية، وعلى جميع الأطراف تحمل المسؤولية والتحرك”. وأكد أن “البديل الوحيد لذلك هو كارثة لا يستطيع أصدقاء لبنان منعها، هذا هو الخيار”.
الراعي والحريري ..وبري
وبدا الرئيس الحريري امس شديد الأرتياح لزيارته مساء الخميس لبكركي بما عكس ضمنا التوافق وأجواء التفهم المتبادل التي سادت اللقاء بينه وبين البطريرك الراعي، علما ان الحريري لا يزال متمسكا بمعايير تشكيلته الحكومية ورفضه الثابت حصول أي فريق على الثلث المعطل. وثمة معطيات تحدثت عن امكان ان يستأنف البطريرك مساعيه في صدد الازمة الحكومية .
كما أفادت معلومات اخرى أن الحريري زار عين التينة قبل لقاء البطريرك الراعي الراعي، والتقى رئيس مجلس النواب نبيه بري مطولاً، واتفقا على العمل لتشكيل الحكومة وإطلاق الرئيس بري مبادرته الجديدة.
ووفق هذه المعلومات فإن مبادرة بري الجديدة تنطلق من عنوانين هما تأكيد رئاسة الحريري للحكومة، ومراعاة متطلبات مختلف الفرقاء السياسيين ضمن ثابتة الاختصاص ولا ثلث معطل فيها.
ووصف الوزير السابق سجعان قزي الذي حضر والوزير السابق غطاس خوري لقاء الحريري والراعي بانه “كان إيجابيا”. واوضح بانه “لدى الحريري ارادة وتصميم ورغبة عقلية ووجدانية للتعاون مع الرئيس ميشال عون، ولا سبب لدى البطريرك الراعي لعدم تصديقه لأنه لا يكذب”. ولفت قزي الى ان البطريرك الراعي “يرفض الثلث المعطل في هذه الحكومة، ويبدو وبعكس المعلن هناك من يريده”.