“شي بخوّف… دخلنا في جهنّم طبّي” بشهادة نقيب أصحاب المستشفيات، وبدليل سباق “الحياة والموت” الذي يخوضه المواطنون يومياً بين صيدلية وأخرى بحثاً عن دواء مفقود لمريض أو عجوز، وحليب مقطوع لرضيع أو طفل، تحت وطأة استمرار تقاذف كرة المسؤولية بين مستوردي الأدوية والمصرف المركزي، الذي أعلن على الملأ بالأمس استحالة استمرار الدعم “من دون المساس بالاحتياطيات الإلزامية”، علماً أنّ المصرف، وبحسب آخر تقرير صادر عن وكالة “موديز”، كان قد استنفد احتياطياته القابلة للاستخدام (Usable Reserve) منذ شباط العام 2020، وبدأ عملياً باستخدام السيولة من خارج الأطر والمعايير المعتمدة عالمياً.
وبين الدواء والمحروقات واللحوم والغذاء، تواصل الكرة الجهنمية تدحرجها على أنقاض الواقع المعيشي المنهار، ويواصل أركان السلطة تلاعبهم بأعصاب الناس ومصير الوطن بلا أدنى حسّ بالمسؤولية، ومن دون تحكيم العقل الوطني على ما عداه من عقول إلغائية تحاصصية هدامة لفرص إنقاذ اللبنانيين، فما كان من البابا فرنسيس سوى أن يتضرّع في رسالة جوابية إلى رئيس الجمهورية ميشال عون لكي تحلّ عليه وعلى معاونيه “روح الحكمة”، في قيادة لبنان على دروب السلام والحرية والهناء… ومعلوم أنّ الفاتيكان لا يقول للمسؤولين بالمباشر “شكلوا حكومة” إنما يخاطبهم بأسلوب غير مباشر لحضّهم على تحمل المسؤولية، حسبما لفت البطريرك الماروني بشارة الراعي أمس، جازماً بأنّ “تأخير زيارة البابا للبنان مرتبط بعدم وجود حكومة”، ومتطرقاً إلى جملة تهديدات وجودية للبنان الذي أصبح “بلا سيادة داخلية”، وبات مهدداً في “هويته وتعدديته وديمقراطيته ونظامه الحر”.
وفي معرض تفنيده الأخطار المحدقة بالبلد، قال الراعي في حوار مباشر مع طلاب الجامعة اليسوعية: “نعم لبنان بخطر بسبب الممارسة السياسية الخاطئة وبسبب الولاءات لدول أخرى واستيراد عادات وتقاليد وأنظمة وممارسات من غير طبيعتنا اللبنانية”، وأردف: “الصيغة اللبنانية يتم قضمها “شوي شوي” من خلال سلطة الأمر الواقع وعدم وجود دولة قانون ومؤسسات، وكذلك القيم الديمقراطية “تذوب” وتتلاشى لأنّ هناك من يعمل على هدم لبنان يوماً بعد يوم”، متسائلاً: “ماذا يعني المؤتمر التأسيسي؟ هو خطوة في المجهول ونحن نرفضه، أما مسألة “المثالثة” في الحكم فهي تشويه للدستور والميثاق وللمساواة بين المسيحيين والمسلمين، وبداية هدم الكيان اللبناني”.
وعلى هذا الأساس، جدد البطريرك الماروني التشديد على حاجة لبنان الماسة لاستعادة “الحياد” بوصفه جزءاً لا يتجزأ من هويته، و”عندما تخلى عنه أصبح البلد “ورقة” في يد الصراعات الإقليمية”، موضحاً أنّ “عناصر الحياد الأساسية تستوجب عدم الدخول في صراعات وحروب، وعدم اقتحام سيادات الدول الأخرى، وتتطلب استعادة الدولة لسيادتها الداخلية”، واستطرد: “ليس لدينا اليوم سيادة داخلية في ظل وجود سلاح غير شرعي لبناني وغير لبناني، فلبنان بحاجة إلى السيادة لاكتمال حياده وهذا لا يكون إلا بوجود جيش واحد وقوى أمنية شرعية واحدة”، لافتاً الانتباه إلى أنّ من ينتقدون الحياد “معروفون” وهم هؤلاء الذين “لا يريدون سيادة الدولة ولا يريدون الجيش الواحد والاستقرار والازدهار لأن لديهم حساباتهم الخاصة”.
وفي الملف الحكومي، أكد الراعي بحكم تجربته اللصيقة بملف التشكيل أنّ “العقبات داخلية من أجل تحصيل مصالح خاصة وفئوية ومذهبية”، مختزلاً تشخيصه للأزمة الحكومية بانعدام المسؤولية لدى أصحاب القرار من الطبقة الحاكمة. واستغرب رداً على استيضاحات محاوريه مقولة “الرئيس المسيحي القوي”، وسأل: “شو معناها؟”، فالرئيس القوي يجب أن يكون “الأول لبنانياً، شخصية معروفة لها تاريخها في لبنان، إنسان متجرد “ما عندو مصلحة خاصة ولا ارتباط بأحد”، رئيس يحترم الدولة ومؤسساتها ودستورها”، مضيفاً: “الدول الخارجية تلعب دوراً في مسألة انتخاب الرئيس اللبناني لكنها بالتأكيد لا تبحث عن الرئيس القوي في طائفته”، مع التنويه بأنه كان قد رفض في العام 2016 حصر الترشيحات الرئاسية بأربع قيادات مسيحية لأنّ الدستور لا ينصّ على ذلك… “وشو كانت النتيجة بقينا سنتين ونصف” في مقاطعة جلسات انتخاب الرئيس.
أما في مستجدات الاتصالات الحكومية، فالأمور لا تزال “مرهونة بخواتيمها” وفق تعبير مصادر مواكبة لهذه الاتصالات، آثرت عدم الإفراط بالتفاؤل “تحت وطأة التجارب المريرة السابقة”، موضحةً أنّ كل ما تحقق حتى الساعة هو “تلمس بوادر نوايا جدية لإيجاد مخرج سريع للأزمة”، من دون الاستحصال على “تعهدات وضمانات نهائية في هذا الاتجاه أو ذاك خارج نطاق تسليم جميع الفرقاء بصيغة الـ24 وزيراً للتشكيلة المرتقبة”، متوقعةً أن تتبلور الصورة أكثر مع عودة الرئيس المكلف سعد الحريري إلى بيروت، حيث “سيتولى رئيس مجلس النواب نبيه بري عملية طرح أفكار محددة معه لتدوير الزوايا بينه وبين رئيس الجمهورية ميشال عون، على أن يتولى “حزب الله” دفع رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل باتجاه ملاقاة جهود بري مع الحريري عند منتصف الطريق”.