بدأ العدّ التنازلي لمهلة الأسبوعين التي حدّدها رئيس مجلس النواب نبيه بري كفرصة أخيرة لاستيلاد حكومة عبر تسوية على قاعدة «إنّ كل شيء يهون لأجل البلد»، تطوي صفحة الصدام بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والرئيس المكلّف سعد الحريري، وتقودهما الى تفاهم على إنهاء الوضع الحكومي الشاذ القائم في لبنان منذ تكليف الحريري تشكيل الحكومة قبل 7 أشهر.
على أنّ هذا العدّ كما يبدو، ما زال يواجَه في المقابل، بما يناقض ما ترمي اليه مبادرة بري لتحرير الحكومة من قبضة التعطيل، حيث انها بدل ان تُقارَب بروحية الاستفادة من التجارب السابقة والاتعاظ مما حل بالبلد، فإنّها تصطدم بهروب متعمّد من تلقّفها، وإصرار واضح من قبل بعض اطراف الصراع الحكومي، على إبقاء الحال على ما هو عليه من دوران مريب في متاهة هذا التعطيل، مع ما يتأتى منه من تداعيات خطيرة على البلد.
بري حذّر
فالرئيس بري ألقى مبادرته على الحلبة، وجوهرها رسم خطوطه العريضة في خطاب التحرير، وأعطاها صفة العجلة لعلّها تحرّك مياه التأليف الراكدة. ولتحقيق هذه الغاية شَرع في اتصالات في كل الاتجاهات، على أمل أن يبادر شريكا التأليف الى أن يمسك كل منهما طرفاً من خيط الحل.
لكن النتيجة الأولية لهذه الاتصالات بيّنت ان صفة الاستعجال تنطبق فقط على صاحب المبادرة، وخطوط التواصل التي اشتغلت بأقصى طاقتها خلال الايام الاخيرة تراوح في المربّع الأول، حيث انها لم تحمل أي اشارة تُدنّي مستوى التشاؤم، أو تعزّز فرضية التفاؤل بانفراج قريب ما خلا كلام يسرّب من اوساط الشركاء في التأليف، يعكس نيات ايجابية في مقاربة مبادرة بري تحتاج الى ترجمة فعلية.
الصورة ملبّدة حتى الآن، ويتبدى ذلك في ما هو سائد على الضفة المقابلة للمبادرة، حيث انّ الاجواء السائدة في هذا الجانب تعبق بدخان رمادي مائل الى السواد، وهو أمر فرضَ حذراً واضحاً لدى رئيس المجلس وخشية كبرى من أن تفوت الفرصة الأخيرة التي تتيحها مبادرته، ويفلت تشكيل الحكومة من أيدي الجميع من جديد.
إنتظار الحريري
على انّ هذه الصورة لا تعني في رأي مصادر قريبة من المبادرة، «انّ الأمور مقفلة بشكل نهائي، حيث اننا ما زلنا ضمن مهلة الاسبوعين، والاتصالات لم تنقطع لا مع الرئيس المكلف ولا في اتجاه رئيس الجمهورية وفريقه السياسي، والرئيس بري مصمّم اكثر من اي وقت مضى على إحداث خرق ايجابي في الجدار الحكومي خلال هذه المهلة. وهو في هذا السبيل مَدّ يده في اتجاه الاطراف المعنيين بتشكيل الحكومة، لكن العبرة هي في تلقُّفِ يده، إذ انّ اليد الواحدة لا تستطيع ان تصفّق وحدها، بل ان التصفيق يحتاج الى يدين اثنتين. وهذا ما يؤكد عليه رئيس المجلس امام الجميع.
وتلفت المصادر الى انّ اتجاهات رياح المبادرة ستتوضح أكثر مع عودة الرئيس المكلّف سعد الحريري الى بيروت، حيث سبق ان وجّهت اليه في الايام الاخيرة دعوات متتالية من اصحاب المبادرة للعودة من الخارج، والمبادرة الى التواصل المباشر بينه وبين رئيس الجمهورية، وساعتئذ يتبيّن الخيط الابيض من الخيط الاسود، وتتوضح نوايا الجميع وفي مقدمتهم الرئيسان عون والحريري، في ما اذا كانت للتسهيل او للاستمرار في التعطيل.
الاتصالات
اكدت مصادر موثوقة لـ«الجمهورية» أنّ رئيس المجلس استمر في حركة اتصالات غير معلنة في الاتجاهات ذاتها، ويغلب عليها طابع الالحاح على الاستفادة من الظرف المؤاتي الآن لتمرير الحكومة تجنّباً للمفاعيل البالغة السلبية التي يمكن أن تتأتى عن التأخير والاثمان الباهظة التي يمكن ان يدفعها لبنان واللبنانيون جرّاء ذلك، مع دفع واضح من قبل رئيس المجلس في اتجاه تقريب موعد عودة الحريري اليوم قبل الغد.
باريس تدعم
في هذا الوقت، عكست مصادر ديبلوماسية من باريس لـ«الجمهورية» أجواء ترقّب لدى المسؤولين الفرنسيين لمآل الامور المتصلة بمبادرة رئيس المجلس، حيث يعكسون دعمهم لها، ويقاربونها بارتياح، ويشددون على التفاعل معها كفرصة لوقف مسار التعطيل الذي يتعمّده بعض القادة في لبنان، وبالتالي تشكيل حكومة وفق مندرجات المبادرة الفرنسية. مع الاشارة الى انّ إقران الرئيس بري مبادرته بتأكيده على المبادرة الفرنسية قبل ايام، نُظر اليه بتقدير لدى الاوساط الرسمية الفرنسية.
ولفتت المصادر عينها الى انّ المسؤولين الفرنسيين يأملون أن يحقق مسعى بري المُراد منه، عبر حوار جدي وصادق ومنفتح، وليس على جاري ما كان يحصل من «حوار دائري» فارغ، يبدأ من نقطة ثم يدور ويتشعب ومن ثم يعود الى النقطة ذاتها.
واكدت المصادر انّ باريس ستكون داعمة وحاضرة للتفاعل مع كل حلّ يتم التوصل اليه. الا انّ ذلك لا يلغي الشعور بالحذر، وهذا مردّه الى التجربة الفاشلة مع القادة في لبنان، والتي غلّبوا فيها حزبيّاتهم ومصالحهم السياسية والشخصية، على مصلحة لبنان، وأحبطوا كل جهود الحل التي بذلتها باريس والرئيس ايمانويل ماكرون، وأخَلّوا بالالتزامات التي قطعوها بتسهيل تشكيل حكومة في لبنان.
يُشار في هذا السياق الى انّ السفير المكلف تنسيق الدعم الدولي للبنان بيار دوكان تحدث في الساعات الماضية عن المبادرة الفرنسية للبنان، فانتقد عدم قيام الطبقة السياسية اللبنانية بأيّ خطوة من اجل تنفيذ هذه المبادرة وإبقائها على قيد الحياة.
وطالبَ دوكين السياسيين بإعطاء بعض اشارات الثقة للمجتمع الدولي من دون انتظار الانتخابات النيابية المرتقبة التي يجب ان لا تؤجّل لأي سبب كان.
دعم أميركي
الى ذلك، عكست مصادر سياسية مطلعة على الموقف الاميركي، عبر «الجمهورية»، أجواء اميركية داعمة لجهود الحل في لبنان، ومشجّعة على التفاهم على تشكيل حكومة تلبّي متطلبات الشعب اللبناني، وتلتزم بإصلاحات سريعة وفي مقدمتها الضرورة القصوى في مكافحة الفساد.
ولفتت المصادر الى ان الموقف الاميركي من الملف الحكومي في لبنان يتلخّص بأنّ الحاجة باتت اكثر من ملحّة لتشكيل حكومة، وسبق لواشنطن ان اكدت على ذلك بشكل مباشر للقادة السياسيين في لبنان، مع تشديد التزامها الوقوف الى جانب الشعب اللبناني.
وعكست المصادر ايضاً امتعاضاً اميركياً من إضاعة الوقت في لبنان ومن عرقلة تشكيل الحكومة المستمرة منذ عدة اشهر، وقالت ان واشنطن تعتبر انه صار من الضروري جداً على لبنان الدخول في تسوية تفضي الى تشكيل الحكومة، وانّ على المسؤولين في لبنان تَنحية الاعتبارات السياسية والحزبية جانباً، والتركيز على تشكيل الحكومة وتجاوز الشروط المعرقلة لها والتعاون معاً لإنقاذ لبنان من أزماته.
لماذا أسبوعان؟
كما هو معلوم فإنّ رئيس المجلس حدّد أسبوعين كمهلة حاسمة لبلوغ حل يُفضي الى تشكيل الحكومة، مؤكداً ان الوصول الى حلول بعدها تصبح صعبة ومعقدة اكثر.
مصادر سياسية مطلعة تقرأ في مهلة بري، محاولة جدية لتقصير عمر التعطيل، وإلا فإنه ان لم تتحقق الغاية المنشودة منها بتأليف حكومة سريعاً فإنّ لبنان سيكون امام سنة مَيتة حكومياً، والتعطيل بلا حكومة سيستمر حتى نهاية عهد رئيس الجمهورية. والاثمان التي يمكن ان يدفعها لبنان لاحقاً ستكون باهظة جداً عليه، وتعمّق أزمته الى حدود قد لا يكون في إمكانه احتواؤها أو التعايش معها».
مصادر تمويل مقفلة
هذه الصورة السوداوية لِما قد ينتظر لبنان، تؤكد المصادر المذكورة انها توجب الاستعجال في حسم تأليف الحكومة في غضون ايام قليلة. وتستند في تأكيدها هذا على قراءة «سياسية – اقتصادية»، وردت فيها الخلاصات التالية:
اولاً، لبنان في ضائقة اقتصادية خانقة ومالية خطيرة جداً. ولا يملك ان ينقذ نفسه منها لعدم امتلاكه اي موارد داخلية تمكّنه من التعويض ومَلأ العجز الخانق على المستوى المالي.
ثانياً، لبنان وامام هذا العجز وافتقار الموارد الداخلية، ملزم بالبحث عن موارد خارجية، وأمامه 3 مصادر:
دول الخليج، وفي مقدمتها السعودية وسائر دول مجلس التعاون الخليجي، فكما هو مؤكد ليست في وارد ان تقدّم شيئاً للبنان، لسبب رئيسي وهو ان لديها اولوياتها الاقتصادية الداخلية، وكذلك الاعباء الكبيرة التي ارتدت عليها جرّاء بعض الملفات، وفي مقدمها حرب اليمن. اضافة الى الاعتبارات السياسية والعلاقة المتفجرة بين معظم دول الخليج وبعض الاطراف في لبنان.
دول الغرب، وقد ربطت جميعها مساعداتها للبنان بتشكيل حكومة إصلاحات نوعية، وهذا ما لم يحصل بعد.
دول ما يسمّى «محور الشرق»، فثمة اعتبارات سياسية تحظّر على لبنان اللجوء الى هذا المحور. فضلاً عن انّ أولوياتها داخلية وفي ظل اقتصاداتها المضروبة، ليس من بين دول الشرق، دولة قادرة على أن تقدم اموالاً إنقاذية للبنان. (الأمر نفسه ينطبق على ايران فقد يرى البعض في لبنان أنها يمكن ان تشكل رافداً داعماً للبنان بما يخرجه من أزمته، الا انّ ايران ليس لديها ما يمكنها من تغطية مشكلاتها الاقتصادية والمالية الداخلية).
صارت المفاوضات صعبة
امام هذه المصادر المقفلة، لن يبقى امام لبنان سوى مصدر ثالث لسد عجزه، اي أن يلجأ الى الاقتراض من اسواق المال العالمية، وليس
امامه سوى صندوق النقد الدولي، حيث بالامكان ان يصل الى تفاهم على برنامج مع صندوق النقد لكن هناك ثمناً يجب ان يُدفع في المقابل، ولبنان بوضعه المهترىء ليس في موقع من يُملي الشروط، بل من يرضخ للشروط التي سيفرضها صندوق النقد.
في هذا السياق، تلحظ القراءة السياسية – الاقتصادية انه امام هذا الواقع، كان على لبنان ان يدخل في مفاوضات مع صندوق النقد منذ اشهر، اما وقد تأخر فإنّ المفاوضات مع الصندوق صارت أصعب.
وبحسب هذه القراءة، فإنه لو تشكّلت الحكومة قبل اشهر، لكان لبنان قد تمكن خلال الاشهر الضائعة من ان يصل الى اتفاق مع صندوق النقد ووضع نفسه على سكة إطفاء العجز الذي يعانيه. امّا بعدما تأخر فصار الاتفاق مع صندوق النقد مشوباً بتعقيدات كبيرة. فلبنان دخل عملياً في سنة الانتخابات، وثمة إمكانية مُتاحة لتشكيل حكومة تشرع في مفاوضات مع صندوق النقد، وتصل بعد شهر او اثنين من المفاوضات الى اتفاق معه، قبل ان يغرق لبنان بالكامل في كوما الانتخابات النيابية والتحضيرات لها. ذلك انّ كل تأخير اضافي سيزيد الازمة ويعمّقها اكثر.
وتلحظ القراءة ايضاً انّ أخطر ما قد يواجه لبنان، إن تأخّر في تشكيل الحكومة لشهر او شهرين، هو ان تدخل المفاوضات مع صندوق النقد في بازار الانتخابات النيابية، وتصبح الضرورات الموضوعية للوضع الاقتصادي عرضة للتجاذبات السياسية، ما قد يعطّل هذه المفاوضات او ينسفها.
الانتخابات
الجدير بالذكر هنا انّ لبنان دخل في سنة الانتخابات اعتباراً من 23 ايار الجاري، وولاية المجلس النيابي الحالي تنتهي في 23 ايار من العام المقبل، اي بعد سنة من اليوم، وإجراء الانتخابات يتوجّب ان يحصل خلال الـ60 يوماً السابقة لنهاية ولاية هذا المجلس، اي ما بين 23 آذار و23 ايار 2021. معنى ذلك أنّ الباقي من الزمن الفاصل عن موعد تلك الانتخابات هو 10 اشهر. وتسبق ذلك حتماً فترة تحضيرية للانتخابات والترشيحات والحملات الدعائية لا تقل عن 6 اشهر، ويعنى ذلك انّ الفترة التحضيرية ستسري اعتباراً من الخريف المقبل اي بعد ثلاثة أشهر او اربعة، ويعني ذلك ايضاً ان الحكومة المتصارَع عليها – إن تشكّلت – محدد عمرها سلفاً ببضعة اشهر لا اكثر. ومهمتها قد تنحصر فقط في إجراء الانتخابات.
يُشار في هذا السياق الى انّ حديثاً متزايداً في الصالونات السياسية عن احتمال عدم إجراء الانتخابات وتمديد للمجلس النيابي الحالي، الا ان مصادر سياسية مسؤولة اكدت لـ»الجمهورية» ان تجاوز الانتخابات والتمديد للمجلس النيابي ليس في الوارد على الاطلاق. مشيرة الى انّ هذا التجاوز خيار قاتل وطعن للارادة الشعبية في التغيير، وضربة قاضية للحياة السياسية والبرلمانية في لبنان، ولا مجال لتمريره تحت أي عنوان مالي او تحت ذريعة الظروف الطارئة او الظروف القاهرة، فضلاً عن انّ إلغاء الانتخابات والتمديد للمجلس الحالي سيثير العالم على هذا الخيار اضافة الى انه سيدخل لبنان في إرباكات لا حصر لها، وعاصفة داخلية سياسية وشعبية ضد ما سيعتبر دولة ديكتاتورية ومجلس نيابي غير شرعي.
الراعي والبخاري
في سياق سياسي متصل، برزت في موازاة الاتصالات السياسية الجارية زيارة السفير السعودي في لبنان وليد البخاري الى بكركي ولقاؤه البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي. ولفت موقف للسفير السعودي، تمنّى فيه «تغليب المصلحة الوطنية العليا في لبنان على اي مصلحة فردية تحول دون ايجاد الحلول الناجعة التي تعيد للبنان الإستقرار والامن والإزدهار»، منوّهاً بدور البطريرك «الضامن في الحياة اللبنانية الوطنية، المنعكس في جهوده الحثيثة لمصلحة لبنان في هذه الأوقات».