من المتوقّع أن يصدر خلال ساعات اليوم، تعميم مصرف لبنان الذي يُحدّد آلية وشروط تنفيذ قرار المجلس المركزي لمصرف لبنان والذي ينصّ على إلزام المصارف تسديد 400 دولار أميركي «فريش» شهريًا إضافة الى ما يوازيها بالليرة على سعر منصّة صيرفة للحسابات التي كانت قائمة بتاريخ تشرين الاول 2019. هذا الأمر هو بداية جيدة لإستعادة المودعين الصغار أموالهم من المصارف على أن يكون هناك خطوات أخرى تتبع وتذهب بإتجاه إستعادة الودائع لكل المودعين.
تسديد الودائع والإستقرار النقدي
التعميم المُتوقّع صدوره سيُحدّد آلية تطبيق قرار المجلس المركزي وبالتحديد المُستفيدين من هذا التعميم، وآلية الدفع، ومصادر التمويل. وبحسب البيان الصادر عن مصرف لبنان، سيستفيد من هذه العملية الحسابات التي كانت قائمة قبل تشرين الأول 2019 وكما هو الرصيد في أذار 2021. وبإعتقادنا يعود سبب تحديد تاريخ تشرين الأول 2019 للأرصدة القائمة إلى أن العديد من الحسابات تمّ تحويلها من الليرة إلى الدولار في الفترة التي إنطلقت من تشرين الأول 2021 عقب إقفال المصارف لمدة أسبوعين إذ بدأت فوضى تحويل الحسابات والإستنسابية في إعتماد سعر صرف التحويل بين الحسابات في حسابات المودعين لا سيما المحظيين منهم. وبالتالي، أدّى هذا الأمر إلى حصول الضغوطات على سعر صرف الدولار مُقابل الليرة مما شوّه السعر داخل المصرف الذي لم يعد يعكس الأسس الإقتصادية القائمة على الأرض. أضف إلى ذلك أن تجارة الشيكات راجت، أو أن شرارتها انطلقت مع انطلاق الاحتجاجات الى وقتنا الحالي، وبالتالي تمّ تحقيق أرباح تمّ تحميلها لحاملي الليرة اللبنانية والحسابات المصرفية القائمة.
وهنا يُطرح سؤال جوهري عن مصير حاملي حسابات بالليرة اللبنانية خصوصًا من وثقوا بالليرة والتي فقدت من قيمتها في السوق السوداء مُقابل الدولار الأميركي؟ في الواقع، الأمر مرهون بحجم الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية التي ستظهر نتيجة هذه العملية. فالمصرف المركزي يتوقّع أن ترتفع الكتلة النقدية ما بين 26 و27 تريليون ليرة لبنانية نتيجة هذه العملية وهو ما قد يزيد من التضخّم. هذه الكتلة النقدية آتية من الـ 400 دولار أميركي التي سيتمّ سحبها بالليرة اللبنانية على سعر صرف منصّة صيرفة. ومن المفروض أن يُحدّد التعميم المنوي إصداره إذا كان من المُمكن سحب هذه الليرات نقدًا أو سيتمّ إستخدامها فقط بواسطة وسائل الدفع الأخرى(بطاقة مصرفية، شيك…) التي تخفف وطأة تضخم الكتلة النقدية خصوصًا أن سحبها نقدًا سيدفع بالمودعين إلى الذهاب إلى السوق السوداء لتحويلها إلى دولارات وهو ما قد يزيد الضغط على الليرة اللبنانية أكثر فأكثر.
إلا أن هذا السيناريو يواجه مُشكلة جشع التجّار الذين لا يقبلون القبض إلا نقدًا! من هنا أهمية أن يتمّ فرض قبول وسائل الدفع الأخرى بالليرة اللبنانية على التجّار كي لا يتمّ تعويم السوق بالليرة وبالتالي زيادة التضخّم على أن تكون هناك إجراءات جزائية بحقّ من يرفض وسائل الدفع هذه. هذه الإجراءات قد تكون من خلال السياسة النقدية من جهة ومن القانونية من جهة أخرى.
في المُقابل فإن ضخّ الدولارات في السوق نتيجة دفع الـ 400 دولار أميركي بالعملة الصعبة نقدًا، سيؤدّي إلى لجم هذا التضخّم عملًا بمبدأ أن من يأخذ الـ 400 دولار أميركي سيعمد إلى تخزينها في المنزل أو صرفها (عدم احتمالية التحاويل الكبيرة راجع الى تدني المبلغ المجاز تحويله شهرياً). أضف إلى ذلك أن مصرف لبنان ومن خلال بيعه للدولارات على منصّة صيرفة (حيث السعر أقلّ من سعر السوق السوداء) يفرض دفع المبلغ بالليرة اللبنانية نقدًا وهو ما يؤدّي إلى إمتصاص جزء من السيولة بالليرة اللبنانية الموجودة في السوق.
تبلغ كلفة هذه العملية بحسب بيان مصرف لبنان 2.4 مليار دولار أميركي بالعملة الصعبة منها 1.2 من الإحتياطي الإلزامي (خفض الإحتياطي الإلزامي من 15% إلى 14%) و1.2 من المصارف وبالتحديد من السيولة المكوّنة عملا بالقرار الأساسي رقم 154 الذي فرض على المصارف زيادة رأس المال 20% وزيادة السيولة بنسبة 3% في المصارف المراسلة. وأما الدفع بالعملة الوطنية فستكون كلفته بين الـ 26 و27 تريليون ليرة لبنانية والتي سيتحمّلها كل الشعب على شكلّ تضخم وبالتحديد إذا ما تمّ السماح بسحب هذه الأموال نقدًا.
دخل القرار الأساسي رقم 154 حيز التنفيذ أخر شباط الفائت. وعلى هذا الأساس قامت لجنة الرقابة على المصارف بدراسة مُعمّقة لكل ملفات المصارف وكوّنت فكرة دقيقة عن الوضع المالي للمصارف. وبالتالي يأتي قرار المجلس المركزي بإلزام المصارف دفع 400 دولار أميركي كاش و400 دولار أميركي بالليرة اللبنانية على سعر صرف المنصة صيرفة، ليعكس الدراسة التي قامت بها الجهات الرقابية.
المصارف من ناحيتها، غير المُتحمّسة لهذا القرار، عبّرت من خلال جمعية المصارف عن «إستعدادها الكامل لبحث مندرجات التعميم المزمع إصداره من قبل مصرف لبنان بإيجابية تامة لما فيه المصلحة العامة». وبالتالي هذا يعني إلتزاما من قبلها مع محاولة تحسين شروط التعميم – أي سحب كمّية أكبر من الإحتياطي الإلزامي مع تخفيض النسبة التي ستدفعها المصارف من سيولتها لدى المصارف المراسلة.علمًا أن المصارف التي لن تلتزم بالتعميم الذي سيصدر، من المتوقع أن تختفي عن المشهد المصرفي من خلال وضع يدّ مصرف لبنان عليها.
بغض النظر عما ستكون عليه هيكلية التمويل، المُهمّ أن هذه الخطوة هي خطوة أولى وأساسية بإتجاه إستعادة المودعين أموالهم حيث من المتوقّع أن يحصل 800 ألف مودع (70% من المودعين) على أموالهم في العام الأول بحسب بيان المصرف المركزي. وبالتالي يتوجّب إستكمال هذه الخطوة بخطوات أخرى – أي قانون الكابيتال كونترول الذي سيُقرّ في المجّلس النيابي.
قانون الكابيتال كونترول والثغرات المُكلفة
نجاح عملية تسديد الودائع لصغار المودعين والحفاظ على الاستقرار النقدي، مرهون بوقف تحويل الدولارات إلى الخارج إلى غير المُستحقّين. لكن ماذا تعني عبارة غير المُستحقين؟وماذا عن الاقتصاد الحر؟
في الواقع مشروع الكابيتال كونترول الذي سيتمّ بتّه اليوم في اللجنة النيابية المولجة دراسته، يحوي على ثغرتين تُعاكسان مشروع مصرف لبنان الهادف إلى إعادة الأموال وتأمين الاستقرار النقدي:
أولا –التهريب: من الغريب أن مشروع قانون الكابيتال لم يأت على ذكر مُكافحة التهريب. هذا الأمر مُستغرب خصوصًا أن تعريف الكابيتال كونترول ينص على أنه مجموعة إجراءات مالية وغير مالية. وإذا كان البعض يظن أن التهريب هو مُخالف للقانون، فالواجب أقلّه إعادة التذكير بهذه المُخالفة التي تستهلك دولارات اللبنانيين بوتيرة تتراوح بين 3 و4 مليار دولار أميركي سنويًا (!) سواء في ذلك الدولارات المدعومة أو غير المدعومة.
ثانيًا – أموال التصدير: إن حجم التصدير السنوي يبلغ 3.5 مليار دولار أميركي. هذه الأموال تبقى بمعظمها في الخارج ويُحرم منها الاقتصاد مع العلم أن هذه الأموال أختصوا بها في هذه الأزمة لمصلحة المجتمع لا لمصالحهم الخاصة إذ هي غير متوافرة أو متاحة لجميع الناس! وكما يقال في فقه التشريع « ما جاز لعذر بطل عند زواله» ومعناه أنه لو لم تكن الغاية من وراء تأمين الدولار المدعوم للاستيراد لغاية تحريك عجلة الاقتصاد وتأمين مستلزمات المواطنين لما كانوا رأوا دولاراً واحدا من المركزي، لذا إن كانت الغاية من الاستيراد التهريب والاحتكار وفلتان الأسعار، فلا معنى لتمكينهم من الحصول على هذه الدولارات، وعندها يمكن مساءلة المصرف المركزي. هذا الأمر مثلاً لم يأتوا على ذكره في قانون الكابيتال لا من قريب ولا من بعيد وبالتالي فإن خروج الدولارات لشراء المواد الأولية هي خسارة للمواطنين وتُقوض إستحصالهم على ودائعهم بالدولار الأميركي.
ثالثًا – السوق السوداء: هذه السوق تُشكّل الساحة الأساسية التي يتمّ عليها المضاربة على الليرة اللبنانية وهو ما يتحمله المواطن اللبنانية على شكل تضخّم وأصحاب الودائع على شكل إنخفاض في قيمة الوديعة. وبالتالي لم يذكر قانون الكابيتال كونترول أي شيء حول موضوع مُكافحة هذه السوق التي يتمّ من خلال شراء الدولارات التي تذهب إلى خارج لبنان.
عمليًا مليارات الدولارات مرّ عليها مشروع قانون الكابيتال كونترول دون أن يذكرها وهي تُهدّد جوهريًا الوجود اللبناني خصوصًا إذا ما طالت الأزمة السياسية.
الإستعجال بقانون الكابيتال كونترول
شكّل مشروع الكابيتال كونترول سببا من الأسباب الرئيسية التي أوقفت مفاوضات لبنان مع صندوق النقد الدولي. اليوم يعود هذا القانون بسحر ساحر وبقوّة إلى الواجهة لأسباب منها ما هو سياسي ومنها ما هو نقدي. فبحسب أحد المحلّلين السياسيين «الإستقالات من مجلس النواب أصبحت وشيكة» وبالتالي يُمكن تفسير خطوة الكابيتال كونترول على أنه توجّه من قبل القوى السياسية لإقرارهذا القانون قبل هذه الإستقالات للسماح للمودعين بأخذ جزء من أموالهم خصوصًا أن القوى التي قدّ تُعطّل الكابيتال كونترول سيتم ّتحميلها المسؤولية وستدّفع الثمن في صناديق الإقتراع.
السؤال الذي لا تُجيب عليه القوى السياسية هو الهدف من إقرار الكابيتال كونترول في هذا الوقت؟ فالمعروف أن الكابيتال كونترول هو مُخالف للإقتصاد الحرّ وإقراره يأتي ضمن إجراءات حكومية تهدف إلى تصحيح الخلل في الاقتصاد على أن تكون الفترة قصيرة نسبيًا لا تتعدّى الأشهر. لكن في حالة لبنان لا حكومة في المدى المنظور، فما الهدف من هذا القانون؟
التجّار وتقويض الكيان اللبناني
مما لا شكّ فيه أن تُجّار لبنان، خصوصًا الكبار منهم، لعبوا دورًا سلبيًا جدًا في المرحلة التي تلت إحتجاجات تشرين الأول 2019. هذا الدور السلبي وصل إلى مرحلة تقويض الكيان اللبناني عبر تهديد الأمن الغذائي للمواطن اللبناني. والأصعب في الأمر أن السلطة التنفيذية وحتى القضائية لم تتخذ إلى حينه أية إجراءات بحق المخالفين الذي ثبتت مُخالفتهم (مثل بيع السلع في السوبرماركات على سعر 14500 ليرة لبنانية بحسب وزارة الاقتصاد والتجارة). هؤلاء التجّار عملوا يدًا بيد مع بعض المهرّبين وأصبحت البضائع والسلع اللبنانية منتشرة في كل دول العالم على مثال العلف المدعوم والذي تمّ شراؤه من قبل تجّار لا يملكون مواشٍ وهرّبوا هذه السلع إلى سوريا، أو مثل بعض المزارعين الذين صرّحوا بأن لديهم قطيع ماعز مؤّلفا من 27 ألف رأس في حين أن الحقيقة هو مؤلّف من 27 ألف دجاجة، أو بعض تًجار الأدوية والمُستلزمات الطبية التي يتمّ تهريبها بشكل مؤسف، أو بعض تجّار المحروقات الذين تعمل صهاريجهم ليل نهار لنقل المحروقات إلى خارج لبنان!من هنا نرى أن رفع الدعم أصبح حتميًا ونقطة إنطلاقه بدء العمل بتعميم مصرف لبنان الذي سيصدر اليوم ويحوي على آلية سدّ قسم من ودائع اللبنانيين بالدولار الأميركي.