الصورة الداخلية غاية في التأزّم والتعقيد؛ الدولار يحلّق صعوداً ويطرق باب الـ15 الف ليرة، واسعار السلع الاستهلاكية تلحق به ارتفاعاً جنونياً من دون حسيب او رقيب. والكهرباء دخلت مدار العتمة الشاملة، وها هم اصحاب المولدات يكمّلون عملية قهر اللبنانيين ببدء برنامج تقنين قاسٍ. وازمة البنزين تعبّر عن نفسها بطوابير طويلة من السيارات امام المحطّات، في مشهد إذلال شامل لشعب كامل، واما الدواء، فتُمارس من خلال حجبه واخفائه في المستودعات، جريمة فظيعة في حق كل اللبنانيين، والمرضى منهم على وجه الخصوص.
وفي الجانب الآخر لهذه الصورة، تتبدّى مجموعة تماسيح سياسية ابتُلي لبنان بتربّعها في موقع الحكم والمسؤولية والقرار، ولا مثيل لتمسحتها على وجه الكرة الارضية، وتقدّم كل يوم دليلاً اضافياً على أنّها ابعد ما تكون عن الناس والوضع البائس والمهترئ الذي انحدروا اليه، وثبت بما لا يقبل ادنى شك انّها ليست اهلاً لحكم البلد وادارة شؤونه، لا بل انّها اصبحت تشكّل الخطر الاكبر على البلد، بأدائها المخجل، وبسدّها كل نوافذ الانفراج، وبإمعانها في صبّ الزيت الحاقد والحارق على نار الازمة.
خيبات
الامر البديهي مع هذه النوعية من الحكّام التي باتت اشبه ما تكون بـ«كتيبة اعدام للشعب اللبناني»، ان يسقط كل رهان على امكان أن يتمخّض عنها حلّ او مخرج للأزمة الراهنة. بل العكس هو الصحيح، وفق ما يتبدّى من خيبات متتالية على الخط الحكومي، يدفع اليها قرار ضمني لدى بعض اطراف اللعبة الحكومية بعدم تشكيل حكومة، ويعبّر عن ذلك في ابقاء تأليف الحكومة معلقاً على حبل التعطيل، وعالقاً في متاهة لا نهاية لها، تتنقل فيها الاتصالات والمبادرات ومساعي الوسطاء منذ شهر آب من العام الماضي، من عقدة معقّدة، ومفتعلة بالتأكيد، الى عقدة اكثر تعقيداً.
ايجابيات وهمية
واذا كانت اتصالات الساعات الاخيرة التي جرت في اللقاء الذي جمع المعاون السياسي لرئيس مجلس النواب النائب علي حسن خليل والمعاون السياسي للأمين العام لـ«حزب الله» الحاج حسين خليل ليل الثلاثاء – الاربعاء برئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل، قد تواكبت مع ضخّ متعمّد لإيجابيات ملموسة تحققت في هذا اللقاء، وبالتالي لم يبق سوى القليل الذي يحتاج الى لقاءات اخرى لتذليله. إلّا أنّ تقريش تلك الايجابيات، يظهر انّها تصلح فقط لأن تودع مستودع الايجابيات الوهمية، الذي يبدو انّه طفح بمثلها التي تراكمت منذ بداية الازمة، ولا ترجمة لها على ارض الواقع.
وبحسب معلومات «الجمهورية» من مصادر موثوقة، فإنّ الاتصالات الاخيرة، وإن كانت قد لامست بليونة بعض العِقد المتعلقة ببعض الحقائب الوزارية، وقد حُكي في هذا السياق عن استعداد لتراجع «التيار الوطني الحر» عن التمسك بوزارة الطاقة، شرط الّا تُسند الى تيار «المردة»، الّا انّ نقطة التعقيد الجوهرية والمتعلقة بتسمية الوزيرين المسيحيين ما زالت مستعصية، في ظلّ الاصرار الذي عبّر عنه باسيل، على الرفض القاطع لأن يسمّي الرئيس المكلّف سعد الحريري لأي وزير مسيحي.
وتشير المصادر، الى انّ هذه النقطة ستكون جوهر ما قد يلي من لقاءات، خصوصاً وانّ تأليف الحكومة بات مرتبطاً بها حصراً، الّا انّ لا شيء في الافق يوحي بإمكان تراجع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ومعه باسيل، عن موقفهما الرافض ان يسمّي الحريري اي وزير مسيحي. ومن شأن ذلك ان يشكّل فشلاً مسبقاً لأي اجتماع يحصل بين الخليلين وباسيل، بل لا يعدّ اكثر من تضييع للوقت.
وكان لافتاً بالامس، انّ بعض «الغرف السياسية» دأبت نهار امس على اشاعة اجواء تفيد، بأنّ الايجابيات التي تحققت في اجتماع الخليلين وباسيل، تلقي كرة التجاوب معها في ملعب الرئيس المكلّف، الّا انّ اوساط الخليلين سارعت الى نفي هذا الأمر، ولم تتحدث عن تقدّم نوعي بل تقدّم طفيف يتعلق ببعض التفاصيل التي لم تشأ الكشف عنها، مشيرة في الوقت نفسه الى عقدتين اساسيتين لا تزالان في حاجة الى مزيد من الاتصالات حولها مع رئيس «التيار الوطني»، الاكثر تعقيداً بينهما هي عقدة تسمية الوزراء المسيحيين.
عين التينة و«بيت الوسط»
على انّ اللافت للانتباه الى الايجابيات التي حُكي عنها، لم تخرج عن الاطار الاعلامي. فأجواء عين التينة تعكس اصراراً على تكثيف الاتصالات واللقاءات، وفق المبادرة التي اطلقها رئيس المجلس النيابي نبيه بري، لعلّها تفتح الطريق على بلوغ خواتيم ايجابية فعلية تتولّد عنها الحكومة في اقرب وقت. ويؤكّد العارفون انّه حتى الآن لا ايجابيات ملموسة، والايجابيات الملموسة معناها انّ تشكيل الحكومة صار عاجلاً وفورياً.
وعُقد لقاء بعد ظهر امس، بين الرئيس الحريري والنائب خليل في «بيت الوسط»، حيث وضع خليل الرئيس المكلّف في اجواء لقاء امس الاول. والاجواء السابقة لهذا اللقاء في «بيت الوسط»، لم تفد بأنّ الرئيس المكلّف قد تلقّى ما يؤكّد بلوغ ايّ نتائج ايجابية حول اي امر. وقالت مصادر مطلعة: «لو كانت هذه الايجابيات موجودة لكان الرئيس المكلّف اول من يبلّغ بها. وهذا ما لم يحصل».
وقالت اوساط «بيت الوسط» لـ«الجمهورية»: «لسنا في هذه الاجواء، فلو كانت هناك ايجابيات كما يُقال لظهرت. دلّونا اين هي هذه الايجابيات لنبني عليها. هذا الوضع يذكّر بما اشيع قصداً عن ايجابيات وهمية حينما كان الرئيس الحريري في سفرته الى دولة الامارات العربية المتحدة، وعندما عاد الى بيروت كان اول سؤال طرحه على سعاة الخير: اين هي هذه الايجابيات؟ .. هذه الايجابيات مثل تلك الايجابيات لا وجود لها».
وبحسب اجواء «بيت الوسط»، انّ الرئيس المكلّف يعطي فرصة للاتصالات الجارية، وسبق له ان قدّم اقصى ما لديه من تسهيلات لتشكيل الحكومة في اسرع وقت ممكن، ادراكاً منه انّ وضع البلد كارثي ولم يعد يحتمل اي تباطؤ او تأخير في سلوك طريق الانقاذ، والمرتبط بتشكيل فوري للحكومة. وهو في هذا السبيل متعاون الى اقصى الحدود مع مبادرة الرئيس نبيه بري. ولفتت المصادر الى انّ رفض عون وباسيل ان يسمّي الرئيس الحريري وزراء مسيحيين ليس واقعياً وليس مقبولاً على الاطلاق.
واكّدت المصادر، انّ «الرئيس الحريري يدرك تماماً أنّ عدم وجود حكومة سيفاقم المشكلة اكثر ويجعلها اكثر صعوبة وتعقيداً، والضرر الذي ينتج من ذلك صار فادحاً، وصار يهدّد المؤسسات التي بدأت تنهار، والجميع يرى التداعيات الشديدة السلبية على كل المؤسسات، ولاسيما على المؤسسة العسكرية وقوى الامن الداخلي وسائر القوى الامنية. فإلى اين انتم سائرون؟ كل ذلك يعني انّ المطلوب وبإلحاح هو حكومة فوراً، تنصرف الى التصدّي لأزمة البلد. والرئيس الحريري ليس هارباً من تحمّل المسؤولية، بل هو على على جهوزية تامة لتشكيل الحكومة اليوم قبل الغد، لا بل فوراً، لكن ذلك مرهون بتراجعهم عن شروطهم المانعة والمعطلة تشكيل الحكومة. وفي الخلاصة الكرة ليست في ملعب الرئيس المكلّف على الاطلاق بل هي في ملعبهم».
توضيحات «التيار»
في المقابل، أوضحت مصادر «التيار الوطني الحر»، حول اجتماع الخليلين بباسيل، بالآتي:
– أولاً، في موضوع التفاوض: إنّ منطلق الزيارات التي يقوم بها ممثلو الثنائي الى باسيل ليس للتفاوض معه على تشكيل الحكومة بالنيابة عن رئيس الجمهورية. هم يزورونه بصفته رئيس تكتل نيابي لمطالبته بالمشاركة في الحكومة، وهو أبلغهم انه لا يريد المشاركة. كما انهم يطلبون منه إعطاء الثقة للحكومة، فيما منحها الثقة أو حجبها حق له يستخدمه في التوقيت المناسب.
– ثانيا، في وحدة المعايير: ثبّتت محادثات البياضة، للمرة الأولى، وحدة المعايير واحترام توزيع الحقائب والمنهجية، وفق ما فصّله النائب باسيل في المجلس النيابي. هذه الثوابت أقرت في محادثات البياضة، فهل هذا الاتفاق امر سلبي ام ايجابي؟
في اي حال، اذا كان الحريري يريد فعلاً تأليف الحكومة فكل الاسباب والظروف صارت متوفرة لذلك، أما اذا كان يبحث عن عذر لعدم التأليف أو يمهد للاعتذار فهذا امر آخر.
– ثالثا، في موضوع الوزيرين المسيحيين: الحل واضح وبسيط وسهل. لا الرئيس عون ولا الحريري يسمّيان لكنّ الاثنين يوافقان. التسمية قد تكون من مجتمع مدني او موظف فئة اولى او من اهل اختصاص. وأشارت المصادر الى أن هناك مرونة قصوى في عملية توزيع الحقائب. لا تمسّك لا بالطاقة ولا بأي وزارة أخرى.
تدجين المواطن
حياتياً، لم يطرأ أي جديد في أزمتي البنزين والكهرباء والمواد الغذائية المدعومة والدواء المفقود والاستشفاء، الذي بدأ يتجّه ليكون حكراً على من يمتلك الدولارات الطازجة. كل هذه الأزمات المتفاقمة في كفة وتعميم البدء باسترجاع الودائع بالدولار الطازج في كفة ثانية. وقد فضح التعميم 158 حجم التدجين واليأس الذي بلغه المواطن، الذي بات يحتفل باسترداد 400 دولار في الشهر من وديعته، ويكاد ينسى كل مصائبه المعيشية التي تحاصره من كل حدب وصوب.
وقد جاء مشهد الطوابير امام محطات البنزين، وزحمة السير التي تسبّبت بها هذه الطوابير، لتعكس معاناة الناس اليومية، وتعلّقهم بالسراب. اذ كان يكفي تصريح أطلقه ممثل موزعي المحروقات وقال فيه انّ «المحطات ستقفل أبوابها خلال ايام بسبب نفاد المحروقات»، حتى تهافت المواطنون الى محطات الوقود، فشهدت طرقات لبنان، خصوصاً في بيروت وضواحيها، زحمة سير خانقة ناجمة عن الاصطفاف امام المحطات، ما حوّل معظم أنحاء العاصمة الى موقف سيّارات كبير.
في غضون ذلك تبين انّ تعميم البدء في اعادة ودائع لا يزال مبهماً في الكثير من جوانبه، ومن غير المرجّح ان يبدأ تطبيقه في الموعد المحدّد له، في آخر حزيران الجاري، بدليل انّ المصارف ارسلت مجموعة كبيرة من الاسئلة الى مصرف لبنان تحتاج الى اجابات وتوضيحات، بما يوحي انّ المهلة المعطاة لبدء التنفيذ لن تكون كافية.
مبادرة عراقية
وفي السياق المرتبط بملف المحروقات، لفت تطور عراقي بارز، تمثل في مبادرة الحكومة العراقية الى التصويت بالإجماع على زيادة دعم لبنان بزيت الوقود من 500 الف طن الى مليون طن.
وقال الناطق بإسم الحكومة العراقية وزير الثقافة حسن ناظم في مؤتمر صحفي عُقد في بغداد، إنّ «القرار يجب ان يُنفذ بالسرعة القصوى، ذلك للحاجة الماسة لهذا الدعم الى لبنان الشقيق، لانّه يمر بظروف غير عادية».
وتبلّغ رئيس حكومة تصريف الأعمال الدكتور حسان دياب رسمياً قرار مجلس الوزراء العراقي بمضاعفة كمية النفط التي كانت الحكومة العراقية قد أقرّتها للبنان من 500 ألف طن إلى مليون طن سنوياً. وقد تواصل دياب هاتفياً مع رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي شاكراً له «جهوده وللحكومة العراقية والشعب العراقي الشقيق وقوفهم إلى جانب لبنان في هذه المرحلة العصيبة التي يمرّ فيها».
ونوّه الكاظمي بـ«الدور الذي لعبه الرئيس دياب في ظل ظروف صعبة جداً»، مؤكّداً «أنّ الشعب اللبناني يستحق الوقوف معه في محنته الحالية».
ورحّب الرئيس بري بقرار الحكومة العراقية، ووجّه في هذا الاطار برقية شكر الى رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي، بإسمه وبإسم المجلس النيابي والشعب اللبناني.
..ومبادرة فرنسية
وفي مكان آخر، اعلنت وزارة القوات المسلحة الفرنسية، أنّ باريس ستستضيف اجتماعاً دولياً عبر الإنترنت في 17 حزيران، لحشد الدعم للجيش اللبناني، الذي يسعى الى اجتياز أزمة اقتصادية تضعه على شفا الانهيار.
وقال مصدران دبلوماسيان، إنّ «الاجتماع سيلتمس الدعم من دول تعرض الغذاء والمواد الطبية وقطع الغيار للعتاد العسكري. غير أنّه لا يستهدف تقديم الأسلحة وغيرها من العتاد».
واوضحت الوزارة، أنّ «الهدف هو لفت الانتباه إلى وضع القوات المسلحة اللبنانية، التي يواجه أفرادها ظروفاً معيشية متدهورة، وربما لم يعد بمقدورهم تنفيذ مهامهم بالكامل، وهو الأمر الضروري لاستقرار البلاد». وأعلنت انّها ستستضيف الاجتماع مع الأمم المتحدة وإيطاليا، بهدف التشجيع على جمع التبرعات لصالح الجيش اللبناني. ولفتت الوزارة، الى أنّ الدعوة وُجّهت الى دول من مجموعة الدعم الدولية للبنان، والتي تشمل دولاً خليجية وعربية والولايات المتحدة وروسيا والصين وقوى أوروبية.
الراعي
الى ذلك، وفي موازاة الاختناق المالي والحياتي والمعيشي، اكّد البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة الراعي في كلمة القاها خلال الرياضة الروحية السنوية لسينودوس الأساقفة الموارنة في الصرح البطريركي في بكركي امس: «شعبنا يتطلع إلينا طيلة هذين الأسبوعين، ولم يبق له من أمل وثقة سوى في الكنيسة، بعد أن فقدهما في الجماعة السياسية والمسؤولين. وهذا أمر طبيعي، إذ يأتي نتيجة انتكاسات وخيبات متتالية. هذا الواقع المعنوي المرير لا يشكّل بالنسبة إلينا مجرد إدانة، بل واجب علينا للتعويض عن تقصير الدولة والمسؤولين تجاه المواطنين وكل مواطن، من خلال مؤسساتنا، وأراضينا، وتنظيمنا لخدمة المحبة الإجتماعية والإنمائية».
واضاف: «إننا ككنيسة لا نستطيع أن نسكت أو أن نقف مكتوفي الأيدي إزاء المظالم السياسية والإجتماعية والمعيشية النازلة بشعبنا، من خلال حرمانه الغذاء والدواء، أبسط حقوقه الأساسية، ولا سيما فرص العمل على أرض الوطن، والعيش بكرامة، وقد جعلته الجماعة السياسية والمسؤولون شعباً متسولاً، محروماً من الوظيفة ومن مورد العيش بعرق الجبين، حتى أصبح نصف الشعب اللبناني في حالة فقر».