بعدما تيقّن القاصي والداني أنّ الطاقم الحاكم تتملّكه نوازع انتحارية في قيادة دفة المركب اللبناني، متجاهلاً كل نداءات الاستغاثة التي يطلقها شعبه ومتعامياً عن كل رسائل الإنذار والتحذير التي يوجّهها الأشقاء والأصدقاء… يبدو أنّ المجتمع الدولي قرّر تلقف زمام المبادرة ودفة المسؤولية بنفسه بعد أن تخلى عنها أهل الحكم في لبنان، فاستنفر طواقمه الديبلوماسية في بيروت وأدار محركاته لقيادة الشعب اللبناني نحو ضفة آمنة تنأى به وباحتياجاته الحيوية عن أمواج السلطة المتلاطمة.
بالمبدأ، لو أنّ لدى أركان الحكم اللبناني ذرّة حياء لكانوا دفنوا رؤوسهم “تحت سابع أرض” لمجرد سماع هذا الكمّ غير المسبوق من البهدلات التي تنهال عليهم يومياً من عموم اللبنانيين والديبلوماسيين، لكنهم عوضاً عن ذلك آثروا الاستمرار في سياسة “دفن الرؤوس في الرمال” والانفصام عن الواقع، الأمر الذي لم يترك خياراً أمام الدول المعنية بالملف اللبناني سوى التداعي لإنشاء “كونسولتو” ديبلوماسي في ما بينها لتدارس الطرق الآيلة إلى اتخاذ خطوات مشتركة تحول دون انفجار صاعق القنبلة الاجتماعية والمؤسساتية العسكرية والأمنية على الساحة اللبنانية.
وتحت هذا العنوان، تقاطعت التصريحات والتحركات الأميركية والفرنسية والإيطالية والأممية خلال الساعات الأخيرة تزخيماً لقنوات التواصل في ما بين المجتمعين الدولي والعربي على نية البحث في سبل إنقاذ اللبنانيين… لكن وعلى قاعدة “لا برحمك ولا بخلّي ألله يرحمك” استنفر “حزب الله” مقدمة نشرة “المنار” المسائية لتوجيه صلية من المواقف العدائية تجاه السفيرتين الفرنسية والأميركية معتبراً أنّ تحركهما يجسد “انتداباً سياسياً بكل وقاحة” على البلد، ومشبّهاً إعلانهما الذهاب إلى الرياض لنقاش كيفية مساعدة لبنان بذهاب “مندوب سامٍ لدولة الانتداب للتفاوض باسم أو على الدولة المنتدَبة”.
وكانت السفارتان الأميركية والفرنسية قد أعلنتا في بيانين منفصلين متزامنين توجّه السفيرتين دوروثي شيا وآن غريو اليوم الى المملكة العربية السعودية للقاء عدد من المسؤولين السعوديين، في سياق ترجمات الاجتماع الثلاثي الذي عقد في إيطاليا نهاية الشهر الفائت حول لبنان بين وزراء الخارجية الأميركية والسعودية والفرنسية. وأوضحت شيا أنها تعتزم إثارة مسألة “خطورة الوضع في لبنان وأهمية المساعدة الإنسانية للشعب اللبناني وزيادة دعم الجيش وقوى الأمن الداخلي” خلال اجتماعاتها في السعودية، مع الإشارة إلى مواصلة العمل على “تطوير الاستراتيجية الديبلوماسية للدول الثلاث (أميركا – فرنسا – السعودية) التي ترتكز على تشكيل الحكومة وحتمية إجراء الإصلاحات العاجلة والأساسية التي يحتاجها لبنان بشدة”.
كما أضاءت غريو في بيانها على نتائج الاجتماع الثلاثي الذي خلص في ضوء “عجز القادة السياسيين اللبنانيين عن تغليب المصلحة العامة للبنان على مصالحهم الخاصة” إلى الاتفاق على “ضرورة أن تعمل فرنسا والولايات المتحدة معاً لإخراج لبنان من الأزمة”، مشيرةً إلى أنها ستشرح خلال لقاءاتها مع المسؤولين السعوديين أنه “من المُلحّ أن يشكل المسؤولون اللبنانيون حكومة فعالة وذات مصداقية تعمل بهدف تحقيق الإصلاحات الضرورية لمصلحة لبنان، وفقا لتطلعات الشعب اللبناني، وستعرب مع نظيرتها الأميركية عن رغبة فرنسا والولايات المتحدة في العمل مع شركائهما الإقليميين والدوليين للضغط على المسؤولين عن التعطيل”، وسط التشديد في الوقت عينه على “ضرورة تقديم مساعدات إنسانية مباشرةً للشعب اللبناني وللقوات المسلحة اللبنانية ولقوى الأمن الداخلي”.
تزامناً، وعلى وقع توجيه الخارجية الأميركية دعوة متجددة إلى “القادة اللبنانيين لإظهار ليونة لتشكيل حكومة تطبق إصلاحات لإنقاذ الاقتصاد المتدهور”، وصل منسق المساعدات الدولية من أجل لبنان السفير بيار دوكان إلى بيروت أمس للقاء عدد من المسؤولين اللبنانيين في إطار التمهيد لمؤتمر الدعم الإنساني للبنان الذي دعا إليه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. في وقت استرعى الانتباه أمس اتصال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بنائبة رئيس حكومة تصريف الأعمال زينة عكر، مبدياً خلال الاتصال “قلقه من الوضع في لبنان”، ومؤكداً “ضرورة تشكيل حكومة في أسرع وقت ممكن للحفاظ على إستقرار وأمن لبنان”.
كما نبّه وزير الدفاع الإيطالي لورينزو غويريني خلال تقديمه إحاطة برلمانية بشأن مشاركة إيطاليا في المهمات العسكرية الدولية إلى أنّ “لبنان ما يزال يمر بواحدة من أعمق أزماته الاقتصادية والاجتماعية، حيث لا مفرّ من قيام حكومة قادرة على تنفيذ الإصلاحات”، لافتاً إلى أنّ “الجيش اللبناني يحتاج اليوم إلى دعم عاجل وفوري من جانب المجتمع الدولي”. بينما شدد وزير الخارجية والتعاون الدولي الإيطالي لويجي دي مايو على أن “دور المجتمع الدولي ضروري لعكس الديناميات التي تفاقمت بسبب العديد من الأزمات المتداخلة” في لبنان.
وفي الغضون، لا يزال الملف الحكومي عالقاً بين ضفتي التكليف والتأليف بانتظار “خطوة مرتقبة قريباً” من رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري تحسم مسار الأمور والاتجاهات، وفق ما نقلت مصادر مواكبة للملف الحكومي، مشيرةً إلى أنّ الحريري وضع أعضاء كتلته النيابية في أجواء “العناوين العريضة لخياراته في هذه المرحلة تحت وطأة استحكام النهج التعطيلي في أداء العهد وتياره وإجهاضهما كل المحاولات والمبادرات الآيلة إلى تأليف حكومة إنقاذية من الاختصاصيين”.
وتوازياً، وجّه البطريرك الماروني بشارة الراعي من منبر قصر بعبدا أمس رسالة مباشرة إلى الرئيس المكلف حثّه فيها على “أن يعجّل بأسرع ما يمكن في تأليف الحكومة مع فخامة رئيس الجمهورية، وفق روح الدستور، لأن كل يوم نتأخر فيه تغرق السفينة أكثر فأكثر”. وإذ كرر بلباقة كلامه من روما حيث لم يستثن رئيس الجمهورية ميشال عون من مخالفة الدستور قائلاً رداً على استفسارات الصحافيين في قصر بعبدا أمس: “الجميع يخالف الدستور، نعم جميعهم يخالف الدستور”، شدد الراعي إثر لقائه عون على أنّ “من أوصلنا إلى هنا هو عدم وجود حكومة، فعندما لا تكون هناك حكومة يخرب الاقتصاد والتجارة والسياحة والحياة وتتوقف المصارف والمصالح، وتزيد الهجرة والبطالة، وتقفل المحال والمؤسسات”، وأضاف: “الحكومة هي الباب، لكن أين هي؟ ليست موجودة فلا يتم اتخاذ أي قرار والنتيجة أنّ البلد يموت… ونحن لا نقدر بروح المسؤولية الوطنية أن نتأخر “ربع دقيقة” عن عدم التأليف”.