غرقت الذكرى الأولى لانفجار 4 آب بالاستغلال السياسي، وهرع كل طرف للاستفادة منها بما يناسبه. حزب القوات أرادها مناسبة لإطلاق مهرجانه الانتخابي والتسويق “لإنجازاته”، مستحضراً شعاراته الميليشيوية. أما فارس سعيد، فوجدها مناسبة لـ”تحرير لبنان من الاحتلال الإيراني”. ولم يفوّت سامي الجميل هذه الفرصة للاستعراض كما يُحّب، فيما أطلق التيار الوطني الحر المناطيد وأضاء الشموع. أما بعض مجموعات الانتفاضة فتوافقت على نقطة التقاء واحدة لمسيراتها رغم اختلاف برامجها، الأمر الذي اعتبرته مجموعات أخرى “تطبيعاً” مع منطق الذكرى والنوستالجيا بينما المطلوب هو يوم شغب وعصيان و”سحل” لمعارضي رفع الحصانات
بتاريخ 4 آب 2020، انفجرت شُحنة من نيترات الأمونيوم المُخزّن في العنبر 12 في مرفأ بيروت، فذهب ضحيتها أكثر من 200 شهيد، و6500 جريح فضلاً عن حزام الدمار الذي لفّ العاصمة وضواحيها وسوّى منازلها بالأرض. بتاريخ 4 آب 2021، لم يتغيّر المشهد كثيراً. الردم ما زال على حاله في المرفأ كما في الأحياء الموازية له، قسم كبير من السكان لا يزال مُهجّراً بغياب أي خطة إعادة إعمار من الدولة، فيما التحقيق بهذه الجريمة لم يصل إلى أي خيط بعد. ثمة من استساغ هذا المشهد ورأى فيه فرصة سانحة للمتاجرة بالدماء طمعاً بأصوات انتخابية وشعبوية يتوق إليها منذ 17 تشرين 2019. يومها، سعى حزب القوات جاهداً إلى تسلّق الانتفاضة وقيادتها. عجز عن إيجاد أرضية ملائمة لأجندته رغم التوترات التي افتعلها عبر قطع الطرقات في جبل لبنان. وها هو رئيس الحزب سمير جعجع يحاول مجدّداً التسلّق… تسلّق ذكرى انفجار المرفأ حتى يسوّق لحزبه في الكلمة التي ألقاها يوم أول من أمس عبر الفيديو أثناء تجمع مناصريه في باحة موازية للمرفأ تحت عنوان: “وحياة اللي راحوا رح تتحاكموا”. فالقوات، بحسب جعجع، رائدة الإصلاح ومكافحة الفساد والإنجازات في الصحة والشؤون الاجتماعية والتنمية الإدارية وكل مكان “دعست” فيه رِجل قواتية. وكان لا بدّ لمهرجان القوات الانتخابي أن يبدأ بما يمتهنه جعجع جيّداً كقائد ميليشيا سابق: أعلام فرقة “الصدم” القواتية الميليشيوية، وأناشيد حزبية حربية، سيارات رباعية الدفع زيتية، مع نكهة احتفالية تمثلّـت بالرقص والتصفيق داخل الباصات ورفع الشارات القواتية. وأن ينتهي بشعر مُعدّ خصيصاً للتبجيل بـ”الحكيم” الذي “اشترى بلاده بشطبة صليب”. وما بين هذا وذاك، تكرار جعجع لضرورة إجراء انتخابات نيابية.
عجز جعجع عن تسلّق الثورة فحاول تسلّق ذكرى تفجير المرفأ لتحقيق مصالح انتخابية وشعبوية
ليست القوات الوحيدة هنا في استغلالها السياسي لذكرى أليمة لم يجف دماء ضحاياها بعد. ثمة مجموعة يقودها النائب السابق فارس سعيد تسير وراء القوات بالشعار نفسه، لكن أكثر وضوحاً. فدعوة سعيد للتجمع في المرفأ، بحسب الإعلان المنشور، تستعير من القوات جزءاً من الشعار الأول (وحياة لي راحوا) مع تعديل بسيط يكمن بأن ثوار “لقاء سيدة الجبل” وجمهوره العابر للقارات “لن يسكت عن جريمة العصر مجزرة نيترات حزب الله”، وسيتوجه اليوم إلى بيروت ليقول “للاحتلال الإيراني ارحل”. لقائد لقاء سيدة الجبل هنا نظرية كان يفترض بقاضي التحقيق أن يستخدمها فوراً لإغلاق القضية: “لولا إقحام لبنان في صراع المنطقة، لما حصل تفجير المرفأ، المجرم الكبير هو حزب الله، الباقي يتبع ولا يقرّر”. عملياً، سعيد هو النسخة الأجرأ من جعجع في تسييس التفجير واستغلاله من دون أي لبس، وإلى جانبه المجموعات التي تسمي نفسها سيادية وهي عبارة عن حزب الأحرار و مجموعات قواتية ناشئة حديثاً كأفنجرز و128وجبيل تحاسب، وأخرى تدور في فلك 14 آذار والتي سبق لها أن دعمت البطريرك بشارة الراعي يوم تنظيمه مهرجان الحياد في بكركي؛ إلى جانب “عكار تنتفض” و”ثوار عكار” و”بوسطة الثورة”. هؤلاء، وبشكل خاص حزب القوات وسعيد، ضغطا على البطريرك الماروني بشارة الراعي لتنظيم قدّاس في المرفأ رغم تردّده. فور شيوع الخبر، برزت عدة اعتراضات من مجموعات الانتفاضة حول القداس، فتواصل المسؤول الإعلامي في بكركي معهم للتأكيد على تقيّد الراعي بالقداس فقط وعدم تطرقه إلى أي أحداث سياسية. واعترض البعض الآخر على تلوين الحدث بصبغة طائفية مسيحية، فكان أن اقترح بعض “الخوارنة” استباق القداس بأدعية إسلامية لإضفاء “توازن طائفي”. على غرار القوات، بدأ حزب الكتائب هو الآخر “إحياء” المناسبات قبيل يومين من 4 آب، فنظم قسم كتائب كفرذبيان ماراثون رياضي إحياء لذكرى الشهيد جو عقيقي بحضور نائب حزب الكتائب سليم الصايغ. ويقول الخبر إن رئيس الحزب سامي الجميل فاجأ أبناء البلدة بحضوره وإعطائه إشارة الانطلاق للسباق. كذلك التحق التيار الوطني بالركب السياسي، فأقام في الأشرفية الصلاة وأضاء والشموع وأطلق المناطيد بالمناسبة!
على خطّ الانتفاضة، ستشهد شوارع بيروت 4 مسيرات رئيسية اليوم، مفروزة سياسياً بشكل أو بآخر:
– القوات وسعيد و”بيراميد” وأخواتها ينطلقون من ساحة ساسين.
– “الوسطيون” كحركة مستقلون وتقدُّم وجزء من أهالي الضحايا يبدأون مسيرتهم من مركز الإطفاء في الكرنتينا.
– “اليساريون” كمواطنون ومواطنات في دولة والحزب الشيوعي وجزء من أهالي الضحايا ينطلقون من خليج السان جورج.
– دُعاة “التغيير الجذري ورافضو التحالف مع قوى السلطة الممثلة بالمجمعات السابقة”، كالمرصد الشعبي لمحاربة الفساد ولِحَقّي ومدى ومسيرة وطن وجبهة 17 تشرين يبدأون مسيرتهم من مؤسسة كهرباء لبنان حيث يتلون بياناً سياسياً حول موقفهم مما يجري.
على المقلب الآخر ثمة مجموعات كـ”الكتلة الوطنية” و”خط أحمر” و”تحالف وطني” و”العسكريون المتقاعدون” ينتظرون بقية المجموعات عند تمثال المغترب ثم التوجه سوياً إلى مجلس النواب. علماً أن Act، المجموعة المنشقة عن “خط أحمر”، ستُدشّن مجسماً على شكل مطرقة للمطالبة بالعدالة. اللافت هنا أن المطرقة لا تقلّ بشاعة عن تمثال “مارد من رماد”، لكن الأول هو نصب مرضي عنه “ثورياً”، فيما الثاني يُمثّل “تمثال السلطة” وانتقدته غالبية المجموعات التي تجتمع اليوم لإزاحة الستار عن المطرقة.
في المقابل، جرى التنسيق بين المجموعات حول نقطة الالتقاء في نهاية برنامج إحياء الذكرى. ويتوقع البعض أن الساعة صفر ستكون بعد الساعة السادسة و7 دقائق، في استعادة لتوقيت انفجار النيترات في المرفأ. على أن بعض المجموعات ترى في هذه المسيرات “تطبيعاً” مع الانفجار ورضى ضمنياً على مسار الأحداث خلال سنة، “فيما المطلوب هو أن يكون يوم شغب وعصيان واقتصاص من النواب الذين وقعوا على عريضة عدم رفع الحصانات وصولاً إلى سحلهم في الطرقات”.
ومن هذا المنطلق، من المتوقع أن تسعى مجموعات كثيرة إلى اقتحام مجلس النواب، في استعادة لمشاهد ما بعد 17 تشرين الأول 2019. كذلك من المنتظر أن تنقسم بعض المجموعات إلى فرقٍ يتولى كل منها محاصرة منزل مسؤول سياسي أو أمني، وتحديداً منازل كل من رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب، الرئيس المكلف نجيب ميقاتي، وزير الداخلية محمد فهمي، النائب نهاد المشنوق، النائب علي حسن خليل، الوزير السابق يوسف فنيانوس، المدير العام لأمن الدولة طوني صليبا، القائد السابق للجيش جان قهوجي، إضافة إلى مكتب المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم.