في زمن الحرب الداخلية، خضع اللبنانيون لميليشيات مسلحة سُمّي قادتها بـ”أمراء الحرب”، ونال لبنان ما ناله منها من دمار وخراب. أما في زمننا الحالي، فنُكِب لبنان بنوع آخر من “الأمراء”، أخطر وأدهى وأقوى من ميليشيات الحرب التي تقاتلت بالمدفع والرشاش، هم “أمراء السوق السوداء”.
أمراء جدد، يعيش معهم لبنان العار بكلّ وسخه، حوّلوا البلد كلّه الى سوق سوداء؛ للدولار، للذلّ، للمحروقات، للتخزين، للسلع المدعومة، للدواء، للطحين، للغذاء، للتهريب، للّصوصيّة، للاحتكار، للغلاء والتحكم بالاسعار، ولن يطول الأمر والحالة هذه، حتى يأتي دور المياه والهواء.
أمراء تحميهم مافيات أقوى من الدولة، وليس من يردعهم، تشاركهم فئة أو فئات من اللبنانيين تحولت الى تجار سوق سوداء في كلّ مقومات حياة الناس وأساسياتها، يلحسون المبرد ويبلعون دماءهم، ويمشون فالتين على بعضهم بعضاً، يسرقون بعضهم بعضاً، ويفترسون بعضهم بعضاً، ويتاجرون ببعضهم بعضاً، ويتسابقون على قتل أنفسهم وبعضهم بعضاً، على ما هو حاصل في أكثر من منطقة، والسبب بسيط جدا هو ان الدولة السائبة تعلّم النّاس الحرام وقلة الاخلاق.
كلّ ذلك متفرّع عن سلطة مصابة بالسكتة الدماغية، يقبض امراؤها على البلد، تعاني الانفصام، فتدّعي العفّة وتصادر النزاهة وتشيطن كلّ الآخرين، فيما هي حوّلت السياسة وتحوّلها الى بازار اكاذيب وشعبويات فارغة، وجعلت من الحكومة سوقاً سوداء، يتلاعبون بتأليفها صعودا وهبوطا بين خطوة ايجابية الى الامام، وخطوات سلبية الى الوراء. فلقد صار تأليف الحكومة باليوميّة، بمعنى ان لكل يوم ملائكته وشياطينه وشروطه ومعاييره ومزاجياته، وكلّ يوم يقفل على سعر صرف حكومي جديد.
الاعتذار يتقدّم
التسعيرة الحكومية الجديدة، رَست في الساعات الماضية على تراجع ملحوظ في منسوب الايجابيات التي ضخّها رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلف نجيب ميقاتي اواخر الاسبوع الماضي، وارتفاع كبير في منسوب السلبيات الى حدّ بَدا معه مسار التأليف قد قُطع بالكامل، وان الرئيس المكلف الذي كان على بُعد امتار قليلة من تأليف الحكومة، صار على بعد سنتيمترات قليلة من اتخاذ قرار الاعتذار الذي اصبح خيارا اكثر من جدي.
وفيما لم يتحدّد موعد للقاء جديد بين الرئيسين، تحدثت بعض المعلومات عن تشاور غير مباشر بينهما عبر الهاتف والموفدين، هذا في وقت ابلغت فيه مصادر سياسيّة معنيّة بالملف الحكومي إلى “الجمهورية” قولها إن صورة التأليف ليست مطمئنة، ونحن امام اسبوع دقيق حكوميا، يفترض ان يتوضح فيه الخيط الابيض من الاسود، مع ارجحية للسواد اكثر، تبعاً للاجواء القاتمة التي يجري تسريبها على خط الرئيسين عون وميقاتي.
وردت المصادر اسباب ذلك الى ما سمّتها مداخلات غير منظورة، داخلية وخارجية تحرّكت بشكل مكثف في الايام الاخيرة، واحبطت الإيجابيات التي ضخّها الرئيسان قبل نهاية الاسبوع الماضي. ونقلت المسار الحكومي في الاتجاه السلبي في الوقت الذي كان عون وميقاتي يؤكدان مضيّهما في السعي لتوليد حكومة في وقت قريب.
وبحسب معلومات “الجمهورية” فإنّ الرئيسين كانا قبل هذا التراجع بصدد الدخول في مرحلة الجوجلة والروتشة الاخيرة لاسماء المرشحين، تمهيدا للاعلان عن التشكيلة الحكومية في غضون ايام قليلة.
لماذا تراجع التأليف؟
وفيما حصرت مصادر سياسية سبب احباط التأليف بشروط ومطالب مفاجئة تقدم منها بعض الاطراف، سواء لناحية تعديل الاسماء او وضع فيتوات على بعضها او المطالبة بحقائب اضافية، ربطت مصادر اخرى هذا السبب بوصول الرئيس المكلف الى حائط مسدود مع عون جراء تمسك الاخير بمطالب ترفع حصته مع فريقه السياسي الى ما فوق الثلث المعطل في الحكومة. هذا في وقت كانت مصادر وسطية تشير الى ان الرئيس المكلف قرر الانكفاء بعد اعلان الامين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله عن ابحار سفينة المازوت الايرانية في اتجاه بيروت، وهو امر لا يستطيع الرئيس المكلف ان يتحمله او يغض الطرف عنه، او ان يقدم غطاء له.
ولعل اجتماع السبت في القصر الجمهوري برئاسة عون وحضور رئيس حكومة تصريف الاعمال حسان دياب ووزير المال غازي وزني ووزير الطاقة ريمون غجر (عبر الاونلاين)، وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، شَكّل، كما قالت مصادر سياسية مسؤولة لـ”الجمهورية”، اشارة جدية الى عدم استعجال على تأليف حكومة.
واشارت المصادر الى ان ما تقرر في هذا الاجتماع، يفترض ان تتخذه حكومة مجتمعة، اي حكومة نجيب ميقاتي في بداية حكمها. امّا وقد اتخذ هذا القرار، فمعنى ذلك ان لا استعجال على تشكيل حكومة، وبالتالي يمكن اتخاذ قرارات اخرى عندما تدعو الحاجة في اجتماعات مماثلة.
ودعت المصادر الى التوقف عند مسألتين:
الاولى، ان هذا الاجتماع بدا كاجتماع حكومة مصغرة، اتخذت فيه قرارات لها صلة بملف الكهرباء وفتح اعتمادات، تاركاً اقرارها لاحقا لمجلس الوزراء على سبيل التسوية، ويجب هنا التمعن في إيكال تلاوة مقررات المجلس المصغر الى امين عام مجلس الوزراء القاضي محمود مكية.
الثانية، عند الدافع الحقيقي الى هذا الاجتماع ، وما اذا كان ردا من رئيس الجمهورية على عدم تعاطي المجلس النيابي كما يجب مع رسالة رئيس الجمهورية خلال جلسة مناقشتها يوم الجمعة الماضي، حيث جاء رد المجلس بالدعوة الى تسريع تشكيل حكومة والاسراع بالبطاقة التمويلية وتحرير السوق من الاحتكار، ام ان الدافع الحقيقي لهذا الاجتماع جاء بنصيحة او كان مغطّى برعاية خارجية له، خصوصا ان القرارات التي انتهى اليها لا تبدو وكأنها محاولة لترييح السوق المحلي للمحروقات، بقدر ما هي تنطوي على محاولة ضمنية يُراد منها استباق باخرة “حزب الله”، بحلول ولو تخديرية ومؤقتة، تجعل من تلك الباخرة بأنها لم تعد ضرورة.
عون
وقد اطلّ رئيس الجمهورية بكلمة بعد الاجتماع برّر فيها عقده، وقال: لأن الدستور حَصر دعوة مجلس الوزراء برئيسه، أو بموافقته في حال ارتأى رئيس الجمهورية ضرورة الدعوة إلى جلسة استثنائية، لم ينعقد المجلس بالتالي، ولم نتمكن من اتخاذ القرار المناسب. لذك، لم يعد أمامي إلا أن اطلب من مجلس النواب أن يتخذ المبادرة في معالجة هذه المسألة، فوجهت اليه رسالة شرحت فيها كل الوقائع، وطلبت مناقشتها واتخاذ القرار أو الموقف المناسب. ولكن، مع الأسف، أتى موقف مجلس النواب بصورة عمومية من دون أي خطوات عملية تنفيذية. وهو اكتفى بالدعوة إلى تشكيل حكومة وإصدار البطاقة التمويلية، وبعد ذلك رفع الدعم.
اضاف: مرة جديدة، لم نصل إلى نتيجة عملية، وقد استخدمت كل صلاحياتي الدستورية: مجلس الوزراء لم ينعقد، ومجلس النواب لم يتخذ اجراء عملياً، والوضع اليوم هو كما ترونه وتعيشونه. لقد احببت أن أصارحكم بالواقع كي تعرفوا أن هناك عرقلة لكل فكرة أو اقتراح أو مبادرة، كأن المطلوب هو المزيد من تدهور الأوضاع والمعاناة والعذاب للمواطنين، ووقوفهم في طوابير الذل.
وقال: أنا أعرف أن المطلوب خطوات عملية، يجب أن نأخذها. ومن جهتي تشاورت مع دولة رئيس الحكومة، ودعونا الى اجتماع اليوم (السبت) في قصر بعبدا، تَقرّر فيه: دعم المحروقات على أن تتحمل الخزينة اللبنانية جزءاً من الكلفة، وإعطاء موظفي القطاع العام مساعدة اجتماعية عاجلة، بانتظار إعادة النظر في الرواتب والأجور وفقاً للأصول، وضمن خطة تَعاف شاملة. أما بالنسبة إلى الحكومة، فستتشكل بإذن الله، وبالتعاون بيني وبين الرئيس المكلف. والأساس هو أن تكون حكومة قادرة على القيام أصلاً بالإصلاحات، وحاصلة على ثقة الكتل النيابية”.
وختم عون: اطمئنكم أنني سأظل أعمل حتى نبلغ الحلول، ولن أتأثر بالمزايدات ولا بالحملات الإعلامية، كما ولن أتخلى عن واجباتي ومسؤولياتي. للأسف، تعطلت كل أجهزة الدولة المفروض فيها أن تتخذ القرارات، فأخذت أنا المبادرة لحل الأزمات الضاغطة والمشاكل الطارئة. أحبائي، الوضع صعب لكن بتضامننا نحن قادرون أن نصل تدريجياً إلى النتائج المرجوة.
نصرالله: سفينة ثانية
في هذا الوقت، ألقى الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله كلمة مساء اليوم، في حفل أقيم في مجمع سيد الشهداء في مدينة الهرمل، لمناسبة مرور أسبوع على وفاة أحد القادة العسكريين في الحزب عباس اليتامى، أعلن فيها أن “السفينة الثانية ستبحر بعد أيام، وستلحق السفينة الأولى التي صارت في عرض البحر”، مؤكدا “مواصلة هذا المسار طالما أن البلد محتاج، وبهدف تخفيف معاناة الناس”.
واشار الى أن “النفط الذي نأتي به هو لكل اللبنانيين والمستشفيات والأفران، ونحن لسنا بديلا عن الدولة، ولسنا بديلا عن الشركات التي تستورد المحروقات ولسنا في مجال التنافس مع أحد”.
كما اكد “أننا نريد كسر السوق السوداء للمحروقات وتخفيف معاناة الناس، والاستمرار بالمطالبة بقضايا الناس”، موضحاً أنه سيعلن عن آلية عمل السفينة وسبل تفريغها قريبا.
وكشف أن “عشرات ملايين الليترات من البنزين ومثلها من المازوت تحتكرها الشركات لبيعها لاحقا بأسعار خيالية”، مطالباً بـ”اعتقالها وسجنها وليس فقط المداهمة، وان يشمل ذلك المحتكرين والمهربين”. وجدد مطالبته المسؤولين بـ”اتخاذ خطوات تخفف أعباء الناس”.
وخَلص إلى القول: اذا لم يكن هناك شركات من أجل الحفر خوفاً من العقوبات الأميركية نستطيع أن نحضر شركة إيرانية. نقترح على الحكومة إذا قبلتم هناك شركات إيرانية قادرة على استخراج النفط والغاز. وقال: الشركات التي لدينا لا تخاف القصف الإسرائيلي وهي تستطيع استخراج الغاز والنفط وبيعه.
تسوية حتى نهاية ايلول
لم تفضِ “التسوية”، كما سَمّتها رئاسة حكومة تصريف الاعمال، والقاضية برفع دولار المحروقات من 3900 الى 8000 ليرة، وبدء العمل فورا بالتسعيرة الجديدة، الى حلحلة تُذكر في موضوع طوابير الذل الطويلة. ورغم ارتفاع اسعار المحروقات بنسبة تصل الى حوالى 70 %، الا ان المادة لم تكن متوفرة في الاسواق حتى مساء امس سوى بكميات زهيدة. مصدر مالي رفيع كشف لـ”الجمهورية” ان التوصّل الى هذه التسوية، والتي ستكلّف مصرف لبنان 225 مليون دولار لدعم سعر المحروقات حتى ايلول، لن تكون من حساب الاحتياطي الالزامي الذي يرفض المركزي المَس به.
واعتبر المصدر انّ الاتفاق مُنصف للجميع لأنه يلبّي السياسة التي تمّ التوافق عليها منذ رفع تسعيرة الدعم الى 3900 ليرة، حيث اتفق على رفع تدريجي للدعم بانتظار بدء العمل بالبطاقة التمويلية، حين يصبح تحرير الاسعار بالكامل متاحاً بفضل الدعم المالي الذي ستتلقاه العائلات المحتاجة.
وفي المعلومات، انّ ازمة البنزين وطوابير الذل التي بقيت امس، ستتراجع بعض الشيء في الايام المقبلة، بفضل فتح اعتمادات جديدة لبواخر تنتظر في عرض البحر. وسوف تواصل القوى الامنية، وعلى رأسها الجيش، مهمة مراقبة محطات الوقود لمنع محاولات التخزين مجدداً، خصوصا ان مهلة الدعم معروفة، وبالتالي قد تفتح شهية المحتكرين على محاولات جديدة لتخزين المحروقات المدعومة على امل بيعها بعد تحرير الاسعار نهاية ايلول، وتحقيق ارباح غير مشروعة قد تصل نسبتها الى حوالى 150 % بين ليلة وضحاها.
الراعي
الى ذلك، اكد البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي “ان المطلوب واحد، وهو ان يحب المسؤولون لبنان وشعب لبنان ويحفظوا الولاء له دون سواه ويضحوا بمصالحهم الخاصة من اجله”.
واضاف الراعي في عظة قداس الاحد في الديمان: “بات واضحا ان الغاية من ترك الشعب يجوع في دولة تعطل فيها القضاء هي دفع الاجيال والعائلات إلى هجرة وتفريغ المجتمع من طاقاته بغية وضع اليد على البلاد. ويا لتعاسة شعب يهمل المسؤولون فيه سماع كلام الله، وهنا تكمن مأساة شعب لبنان، فبعد سنة وشهر يظهر انّ المسؤولين لا يريدون حكومة ويتبادلون التهم ليلا نهارا”.
وتوجّه اليهم بالقول: “أوقفوا التلاعب بمشاعر الشعب والعبث بالدولة واختلاق شروط جديدة كلما حلت شروط.” وتساءل: “أين الشرعية من الثوابت الوطنية والحفاظ على الدستور؟ أين تمسكها باستقلالية القرار الوطني؟”. وقال: “لقد بات واضحا انكم جزء من الانقلاب على الشرعية والدولة، وانكم لا تريدون حكومة مركزية وتتقصدون إلى دفع الشعب لأن يحكم نفسه”.
واكد دعمه لـ”الثورة الحضارية بما تمثّل من امل لتغيير الاعوجاج، وحرصنا على الشرعية لكونها تعبيراً عن وحدة الكيان اللبناني”.
عودة
وقال متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عودة، في عظة قداس الاحد في كنيسة مار جاورجيوس في بيروت: “صحيح أننا وصلنا إلى حال تشبه الجحيم، لكن علينا ألا ندع اليأس يغلب الرجاء الذي فينا”.
واشار الى ان ّ”ما يتحمله اللبناني، منذ عقود، والذي وصل حاليا إلى أوجه، لا يستطيع أحد أن يتحمله: فقر، مجاعة، ظلمة شاملة، فساد ضخم، وغيرها من الأوزار والأعباء”.
وقال: “هل الزعماء هم مصدر الطعام والدواء والخبز والماء لكي يمنعوه عن الشعب؟ هل هم أصحاب النفط والمازوت والموارد الطبيعية ليمنعوها عن الشعب؟ كيف يستعبد الشعب نفسه لبشرٍ نَصّبوا أنفسهم آلهة؟”.
اضاف: “المطلوب من الشعب حاليا قفزة مثل قفزة الرسول بطرس داخل بحر هذا الوضع الهائج في بلدنا. يجب أن يساعد شعبنا مسؤوليه على الإستيقاظ من وهم السلطة، لأن المسؤول الحقيقي ليس إلهاً يستعبد الشعب ويقاصصه ويجوّعه ويميته بلا دواء أو غذاء. المسؤول الحقيقي هو خادم للشعب الذي انتخبه وأوكل إليه مهمة العناية بأموره المالية والصحية والغذائية والتربوية… نحن في دولة لا تستطيع تأمين الضروري للعيش الكريم، والشعب يتخبط في آلامه ويأسه فيما ذوو السلطة يتنافسون على تقاسم قالب حلوى الحكومة الذي أصبح بلا طعم، مختبئين وراء شعارات عناوينها لافتة لكن مضمونها ضحل، لأنها تهدف إلى المصلحة الشخصية أو الحزبية أو الطائفية وما تستتبع من زبائنية تعيق الحكم عوض تسهيله. الإجتماعات لا تهم اللبناني الذي يريد أن يطعم أولاده ويضيء لياليهم. الشعارات لم تعد ذات معنى فيما الدولة تذيق أبناءها العذاب والذل والموت. سيتحول لبنان كله إلى رماد بعد بيروت وعكار، والزعماء ما زالوا يجتمعون ويصرحون. شعب لبنان ليس منذوراً للموت أو للتصدير. شعب لبنان يستحق الحياة.