الطاقة هي عصب كل القطاعات الاقتصادية. ولذلك، فإن من حرم كهرباء لبنان من الأموال إنما أسهم تلقائياً في ضرب هذه القطاعات. نواب “القوات” و”الاشتراكي” تحديداً ادعوا البطولات عندما تمكنوا من تخفيض قيمة سلفة الخزينة المخصصة للمؤسسة من مليار دولار إلى 200 مليون، فكانت النتيجة المزيد من العتمة. تزامن ذلك من بداية الصيف، ما أدى إلى ضرب موسم سياحي كان واعداً. لكن الضرر طال أيضاًَ المستشفيات والمصانع والزراعة… كانت الكلفة على الاقتصاد باهظة، إذ يعتبر البنك الدولي أن كل ألف ميغاواط ساعة غير منتجة من مؤسسة كهرباء لبنان تكلف الاقتصاد خسائر تُقدّر بـ4 مليارات دولار سنوياً. وإذا كان كل ذلك حصل بدافع حماية احتياطات مصرف لبنان، فإن النتيجة كانت استنزاف هذه الاحتياطات على دعم غير مجد اقتصادياً واجتماعياً. أولاً كلفة إنتاج الطاقة من المولدات أكثر بمرتين من كلفة إنتاجها من معامل الدولة. وثانياً دفع الناس 15 ضعفاً فارقاً في ثمن الكيلو واط المنتج من المولدات بالمقارنة مع ما يدفعه للمؤسسة
عندما كانت المزايدات تتصدر المشهد في اجتماعات اللجان النيابية في آذار الماضي بشأن سلفة الكهرباء، لم يكن أحد يهتم لما يمكن أن تُسبّبه هذه المزايدات. الصراع السياسي كان أولى من إيصال الكهرباء للناس. “القوات” و”الاشتراكي” بشكل خاص، ومن خلفهما “حركة أمل” و”المستقبل”، وقفوا سداً منيعاً في وجه اقتراح القانون الذي تقدّم به نواب من تكتّل لبنان القوي لإعطاء سلفة خزينة لكهرباء لبنان بقيمة 1500 مليار ليرة. لكن تحت ضغط الخوف من العتمة، بعدما توقف حينها معمل الزهراني عن الإنتاج لعدم توافر المحروقات، وبعدما حذّر وزير الطاقة حينها من إطفاء كل المعامل في نهاية آذار إذا لم يؤمن الفيول، أقر المجلس النيابي، على مضض، سلفة لا تزيد على 300 مليار ليرة. كان التهديد صريحاً بأن المجلس لن يوافق على إقرار سلفة أخرى، بحجة رفض المس بأموال المودعين.
بالنتيجة، كان مبلغ الـ200 مليون دولار النفس الأخير الذي يفترض بكهرباء لبنان أن تستعمله لإنقاذ التغذية، علماً أنها خلال الأشهر الثلاثة الأولى من السنة تمكّنت المؤسسة من استعمال ما تبقى لها من سلفة العام 2020 (بسبب الانخفاض الشديد الذي طرأ على أسعار النفط). وقد عمدت المؤسسة إلى تقنين الإنتاج لتتمكن من الاستفادة من السلفة لأطول وقت ممكن. كما تكفّلت بدفع ثمن إحدى الشحنات من أموالها، بعدما جمد المجلس الدستوري قانون السلفة للبت بطعن قدمه نواب “القوات”. فالقوات ظلت تلاحق السلفة بحجة حماية أموال المودعين من دون أن تقدم أي اقتراح لكيفية تأمين الكهرباء للناس وكيفية تحقيق الإصلاح الذي تنادي به. لكن بالنتيجة، حُررت السلفة في نهاية أيار وأعيد العمل بالقانون، قبل أن تأتي العرقلة هذه المرة من مصرف لبنان، الذي رفض صرفها من دون الحصول على موافقة استثنائية من رئيسي الجمهورية ومجلس الوزراء، لتغطية سلفة الكهرباء عبر الاقتراض من المصرف بالعملات الأجنبية. كان ذلك في السابع من حزيران، وكانت حينها وصلت التغذية إلى الحضيض. وبدلاً من تأمين الدولارات لكهرباء لبنان، وهي لا يمكنها أن تحصل على حاجتها من العملة الأجنبية إلا من مصرف الدولة، فقد ذهب المصرف إلى دعم مافيا المحروقات، التي كانت تمتهن التخزين وتحرم الناس حتى من كهرباء المولّدات، والتي كان أحد أبرز أعضائها إبراهيم الصقر، الذي ضبط لديه مخزون استراتيجي عجزت القوات أن تجد له تبريراً، سوى السعي إلى اللعب على الوتر الطائفي، لتبرير فعلة أحد أبرز مموليها.
وحتى عندما صار الدعم على سعر 3900 ليرة، ومؤخراً على سعر 8000 ليرة، لم يتغير شيء. ظلت “الكهرباء” محرومة من الفيول، مع بارقة أمل وحيدة تتمثّل بوصول الفيول العراقي. لكن ذلك لا يكفي حتى لثلث حاجة المعامل، ما يعني أن التقنين الشديد مستمر، ببركة رافضي دعم المؤسسة. لكن مشكلة هؤلاء أنهم لم يفهموا أن تأثير حجم كهرباء الدولة كان كارثياً على كل الصعد، ومنها:
- لم يُخفّف حرمان كهرباء لبنان من هدر احتياطات مصرف لبنان، طالما أنه استمر بدعم مازوت المولدات الخاصة، بالرغم من أن كلفة الإنتاج في هذه المولدات يزيد على كلفته في المعامل. فبالحد الأدنى يحتاج إنتاج كل كيلو واط من المولدات إلى محروقات أكثر بـ30 في المئة من معدل حاجة المعامل مجتمعة للفيول. لكن هذا الفارق قد يزيد على 100 في المئة، إذا ما قورن بالمعامل الأكثر فاعلية. فمن المعروف أن معملي صور وبعلبك هما الأكثر استهلاكاً للمحروقات (300 غرام من المازوت لإنتاج كل كيلوواط ساعة) ولذلك لا يتم تشغيلهما إلا عند الضرورة القصوى، في حين أن معملي الزوق والجيّة الجديدين، إضافة إلى الباخرتين التركيتين هما الأكثر فعالية في استهلاك الوقود (نحو 200 غرام من الفيول لإنتاج كل كيلوواط ساعة). ومع احتساب الفارق بين سعر طن المازوت (نحو 750 دولاراً) وسعر طن الفيول (نحو 450 دولاراً)، ومع الأخذ في الاعتبار أن إنتاج الكليوواط من المولدات يحتاج إلى نحو 320 غراماً من المازوت، تكون النتيجة أن سعر الكيلو واط في المعامل الجديدة وفي البواخر تصل إلى 9 سنتات، مقابل 24 سنتاً للمولدات. أي أن كل دولار يحرمه مصرف لبنان والكتل التي تدعمه لكهرباء لبنان، يمكن أن يدفعه 2.4 دولار للمولدات. أي أن من حرم الناس من كهرباء الدولة بحجة توفير 800 مليون دولار من الاحتياطي إنما أسهم باستهلاك ما معدّله ملياري دولار من الاحتياطي نفسه سنوياً! وحتى مع اعتماد المصرف التقنين في فتح اعتمادات المازوت، بالتالي انعكاس ذلك تقنيناً قاسياً من قبل المولدات، فقد كان بالإمكان مضاعفة معدل التغذية لو أعطى المبالغ نفسها لكهرباء لبنان.
- تأثير حرمان الكهرباء من الأموال، لم يقتصر على استهلاك أموال مصرف لبنان على المازوت، بل طال بشكل أساسي الناس والمشتركين في المولدات. هؤلاء تضاعفت فاتورة المولد لديهم عشرة أضعاف ومرشحة لتصل إلى عشرين ضعفاً. فقد وصل سعر الكيلو واط سابقاً إلى 213 ليرة، وقبل تخفيض الدعم كان معدل السعر ألف ليرة، ثم ارتفع إلى 2000 ليرة على سعر 3900 ليرة للدولار، ويتوقع أن يتضاعف هذا الشهر بعدما صار الدعم على 8000 ليرة، ويمكن أن يصل إلى عشرة آلاف ليرة ربما في حال رفع الدعم بالكامل.
وبحسب ما ورد في خطة الكهرباء ربطاً بدراسات أعدّها البنك الدولي، فإن اللبنانيين يتكلفون حوالي مليار دولار أميركي سنوياً على المولدات الخاصة لكل ألف ميغاوات ساعة غير منتجة من مؤسسة كهرباء لبنان. ومع افتراض أن الحاجة تُقارب 3000 ميغاواط، كانت المولدات الخاصة تؤمن بالحد الأدنى ألفي ميغاواط منها، فإن الخسارة تقارب ملياري دولار سنوياً. وحتى مع افتراض أن التقنين الذي لجأت إليه المولدات، أدى إلى انخفاض إنتاجها إلى 1000 ميغاواط، فإن الخسارة السنوية تبقى مليار دولار، يسهم مصرف لبنان في جزء كبير منها (سعر المازوت).
- حرمان كهرباء لبنان من الأموال، لم يسهم فقط في تكليف المشتركين في المولّدات أموالاً باهظة، فالأثر الأكبر كان على الاقتصاد. كل القطاعات أصابها الشلل من جراء انقطاع الكهرباء. الاستشفاء والزراعة والصناعة والخدمات… وغيرها الكثير. اللافت أن الحريص على الاحتياطات، هو الذي حرم البلد من العملات الأجنبية التي كان يمكن أن يؤمنها القطاع السياحي. فكل المؤشرات تؤكد أنه سيكون واعداً (ارتفاع كبير في حجوزات الطيران والفنادق). ففي بداية الموسم، وتحديداً في حزيران، تفاقمت أزمة الكهرباء والمحروقات، فانهار قطاع النقل، وأُقفلت الكثير من الفنادق والمطاعم أبوابها، فيما تراكمت سيارات الإيجار التي ألغيت حجوزاتها لعدم توافر البنزين. كل ذلك يبدو متعمداً. فهل فعلاً ثمة من سعى إلى إيصال البلد إلى هذا الدرك؟
بالعودة إلى ورقة سياسة قطاع الكهرباء التي أقرت في العام 2010، فهي تشير، نقلاً عن تقديرات للبنك الدولي إلى أن ”الخسارة غير المباشرة التي تكبدها الاقتصاد اللبناني جرّاء عدم تأمين الكهرباء من قبل الدولة واضطرار المؤسسات إلى اللجوء إلى المولدات الخاصة تصل إلى حوالي ? مليارات دولار أميركي سنوياً لكل ألف ميغاواط ساعة غير منتجة من مؤسسة كهرباء لبنان”. وإذا كانت المولدات تؤمن في ذلك الحين نحو 1000 ميغاواط، فقد وصلت بعد حرمانها كهرباء لبنان من الأموال، إلى ألفي ميغاواط، قبل أن تنخفض من جرّاء التقنين إلى ألف ميغاواط مجدداً، بما يعني أن الحرص على 800 مليون دولار من الاحتياطات، كلّف بالحد الأدنى 4 مليارات دولار سنوياً، من دون احتساب الخسائر المباشرة المتعلّقة بكلفة دعم مازوت المولّدات، ومن دون احتساب التكاليف الهائلة على المشتركين، والتي ستصبح خارج السيطرة بعد رفع الدعم تماماً.
اللافت أنه أمام النتائج الكارثية التي نتجت من عدم تأمين الفيول لكهرباء لبنان، لا يزال ثمة من يحاضر في صوابية قراره حرمان المؤسسة من الأموال. وهو مستعد أن يكرره، إذا قُدّم أي اقتراح جديد. ولذلك، لا تزال وزارة الطاقة مترددة في طلب أي سلفة جديدة، علماً أن أياً من النواب لم يتجرأ على تقديم أي اقتراح بهذا الصدد. وعلى ما تؤكد مصادر مطلعة، فإن وزير الطاقة لن يقدم على أي خطوة قبل أن يعرض الواقع على رئيسي الجمهورية والحكومة. أما اعتبار أن أي سلفة ستكون باباً للهدر، فليس صعباً مواجهته بإجراءات تضمن أعلى درجات الشفافية، كأن تقوم الدولة بعقد اتفاقات من دولة لدولة، كما فعلت مع العراق، أو حتى أن تكلف جهات دولية مراقبة تنفيذ العقود، أو اللجوء إلى إدارة المناقصات لشراء الفيول، أو فرض إجراء إصلاحات لقاء تأمين الأموال، لكن أن يكون البديل هو حرمان البلد فقط لمجرد اعتبار أن الكهرباء هو حصة التيار الوطني الحر، بالتالي فإن تدميرها يقع في خانة تدمير التيار الوطني الحر، فلن تكون تداعياته سوى المزيد من الانهيار الذي يطال كل اللبنانيين والمقيمين، إضافة إلى الاقتصاد، من دون أن يحمي احتياطات مصرف لبنان.