بينما يتواصل الانهيار تحت أقدام اللبنانيين ملتهماً آخر ما تبقى لهم من مقدرات عيش ومقومات صمود، وأمام “الانحلال التام الذي وصل إليه الوطن وجريمة الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب اللبناني”، رفع الجسم القضائي صوته في وجه “الزعماء السياسيين (…) إذ لا يمكن الاستفادة من ترف السلطة وغسل الأيادي عند جوع المواطنين”، فخلص القضاة الذين اجتمعوا أمس في قاعة “شهداء القضاء” لدى محكمة التمييز إلى إعلان حالة “اعتكاف قضائي شامل من دون استثناءات” بدءاً من بعد غد الاثنين ولمدة أسبوع كخطوة تحذيرية مبدئية لحث المسؤولين على “تحمل مسؤوليتهم المعنوية بحدها الأدنى”، في ظل ما وصلت إليه أحوال “الغالبية الساحقة من المواطنين، بمن فيهم القضاة والمساعدين القضائيين، من عجز عن تأمين قوتهم اليومي”.
وفي المقابل، لا تزال الطبقة الحاكمة مستغرقة في حالة الإنكار والهروب إلى الأمام عبر ابتداع المزيد من الخزعبلات والمناورات لتجنّب السير في سكة الإصلاح ومكافحة الفساد، فجاء الرد حاسماً بالأمس من المقر الرئيسي لصندوق النقد الدولي في واشنطن على مسمع من وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال عبدالله بو حبيب ومفاده: “الصندوق لن يتمكن من مساعدة لبنان من دون إقرار الإصلاحات الضرورية بما يشمل إقرار الموازنة والكابيتال كونترول وتعديل قانون السرية المصرفية وخطة استراتيجية للقطاع المصرفي وتقييم الموجودات الخارجية لمصرف لبنان”، على أن يكرر رئيس بعثة صندوق النقد إرنستو راميريز هذه الرسالة على مسامع جميع المسؤولين اللبنانيين خلال زيارته المرتقبة إلى بيروت في حزيران المقبل.
لكن على نهج المحاصصة نفسه الذي أوصل من خلاله العهد وتياره اللبنانيين إلى الدرك الأسفل من جهنم، خلص “البازار التشريعي” الذي خاضه رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل مع “حزب الله” إلى تسليم الأول بضرورة رفع “الراية البيضاء” على حلبة انتخابات الرئاسة الثانية في مواجهة الرئيس نبيه بري، والمضي قدماً في خيار النائب الياس بو صعب لمنصب نيابة الرئاسة الثانية “ليكون مرشح “التيار الوطني” و”حزب الله” لهذا الموقع من دون تقديم أي التزام من جانب بري بتصويت كتلته لبو صعب أسوةً بعدم تصويت التيار لرئيس المجلس”، حسبما لخّصت مصادر مواكبة نتيجة الاتفاق الذي تم التوصل إليه في هذا الإطار، معتبرةً في الوقت نفسه أنّ “بري خرج رابحاً من هذه المعادلة خصوصاً وأن بو صعب هو مرشح “الثنائي الشيعي” المفضّل لخلافة إيلي الفرزلي، فيكون التالي قد وصل إلى مبتغاه من دون الحاجة حتى إلى إبرام مقايضة في الأصوات مع باسيل بين رئاسة المجلس ونيابة الرئاسة”.
أما عن الأسباب الداخلية التي دفعت باسيل إلى إعلان ترشيح بو صعب رغم أنه كان يدفع باتجاه ترشيح النائب جورج عطالله للموقع، فكشفت المصادر أنّ “الانقسام داخل صفوف كتلة “التيار” كان له الأثر الراجح في كفة اتخاذ القرار لصالح بو صعب لا سيما وأنّ الأخير أبدى نيته الصريحة بالترشح لنيابة الرئاسة الثانية بمعزل عن قرار الكتلة مدعوماً من عدد كبير من أعضائها الأمر الذي جعل رئيس الكتلة يرضح لترشيحه ويصرف النظر عن ترشيح عطالله”.
وعن الحاصل الانتخابي الذي سيحظى به بو صعب، أوضحت المصادر أنّ “الساعات المقبلة ستكون كفيلة بحشد “حزب الله” ما أمكنه من أصوات الحلفاء لصالح مرشح “التيار الوطني” مستفيداً بشكل أساس من عدم وجود مرشح تغييري في المقابل يحظى بدعم قوى الأكثرية النيابية الجديدة لموقع نائب رئيس المجلس”.
اجتماعياً، بلغت لعبة السوق السوداء أمس مداها في حرق أعصاب وأموال المواطنين، مع بلوغ “هستيريا” الدولار مستويات قياسية في سوق الصرافين نهاراً ناهزت عتبة الـ40 ألف ليرة، قبل أن يتدارك المصرف المركزي الموقف ويسارع إلى كبح جماح السوق بلجام التعاميم، فبادر إلى إصدار تعميم جديد شهر فيه سيف “صيرفة” في وجه “الصيارفة” معلناً الجهوزية لتلبية “طلبات جميع حاملي الليرة من مواطنين ومؤسسات من أجل تحويلها إلى الدولار على سعر منصة “صيرفة” خلال 24 ساعة بدءاً من الاثنين عبر المصارف”، التي عاد وطلب منها في بيان آخر أن تبقي فروعها وصناديقها مفتوحة يومياً حتى الساعة السادسة مساءً ولثلاثة أيام متتالية بغية تلبية طلبات المواطنين من شراء الدولارات.
وسرعان ما هبط سعر صرف الدولار في سوق الصرافة بشكل دراماتيكي ليتراجع إلى ما دون الـ30 ألفاً مساءً مقلصاً الفارق بين السوق الموازية وتسعيرة “صيرفة”، على أن تبقى العبرة وفق الخبراء الاقتصاديين والماليين في “مدى قدرة مصرف لبنان على مواصلة لعبة “شد الحبال” مع الصرافين واستمراره في ضخّ الدولارات في السوق، وإلا فإنّ السيناريو نفسه سيتكرر وسيعود سعر الصرف إلى التحليق بلا سقف”.