كتبت صحيفة “الأخبار” تقول: يدفع مصرف لبنان في اتجاه تسعير صفيحة البنزين بالدولار النقدي، ما يعني أنه يدفع في اتجاه التخلّي عن الليرة اللبنانية كعملة تسعير للخدمات الأساسية. إذ سبقها دولرة المازوت نقداً، ودولرة جزئية للدواء، ولا ينقص سوى دولرة الخبز أيضاً. بهذا المعنى، فإن مصرف لبنان يتخلّى عن المهمّة الموكلة إليه في المادة 70 من قانون النقد والتسليف التي توجب «المحافظة على سلامة النقد اللبناني، والمحافظة على الاستقرار الاقتصادي». تحرير الأسعار من الليرة يعني دفع الليرة نحو مزيد من التدهور، وتآكل المداخيل أكثر فأكثر
في ضوء الحديث عن قرب تخلّي مصرف لبنان عن تمويل استيراد البنزين بالدولارات، يكون الحاكم رياض سلامة قد بلغ الخطوات الأخيرة ضمن مسار تفريغ مصرف لبنان من أهمّ وظائفه القاضية بتأمين العملة الصعبة لزوم استيراد السلع الأساسية، والتخلّي عن دوره في حماية الليرة اللبنانية وفي الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي. فمن دون أي خطّة أو رؤية واضحة للهدف الذي يأخذ لبنان نحوه، يتّخذ سلامة قرارات استنسابية تدفع سريعاً في اتجاه تدمير النقد والاقتصاد. فهو بدلاً من أن يعمل على إيجاد طرق للإمساك بالأزمة، طالما أنه يحمل تفويضاً نهائياً بذلك من قوى السلطة، يعمل بالعكس نحو تسريع مفاعيل الانهيار من خلال نقل الاقتصاد المحلي نحو الدولرة النقدية. وها قد حان وقت دولرة البنزين بعد المازوت والغاز والدولرة الجزئية للدواء أيضاً. انعكاس ذلك سيكون هائلاً على هذه السلع الأساسية، وسيترك أثراً تضخمياً في المدى المنظور يأكل المزيد من مداخيل المواطنين ومدخراتهم وأصولهم. وقرارات كهذه، تقود مباشرة نحو الاستنتاج بأنه يتعمّد ذلك، لا سيما أن البنك الدولي كان قد أشار في تقارير سابقة إلى أن «مصرف لبنان هو صانع السياسات الوحيد»، فضلاً عن أن ما يحصل في لبنان هو «السقوط المتعمّد».
التخلي عن الليرة، في هذا الوقت، أي بعدما تجرّع المقيمون في لبنان خسائر التضخّم وتكيّفوا معها، يعني تحرير السوق من كل أنواع التوجيه الذي يفترض أن تقوم به الدولة اللبنانية تجاه السلع الحيوية الممنوع التلاعب بها، وذات هامش الربح المحدد مثل البنزين والمازوت والدواء والخبز. والأخطر من ذلك، هو سعي مصرف لبنان إلى إحلال عملة أجنبية محلّ العملة الوطنية. فبذلك، يتم إرسال إشارات بأن الهدف ترك الليرة تنهار أكثر من دون أي تدخّل رسمي لتأمين الحماية الاجتماعية والاقتصادية، وهو أمر بديهي في أوقات الأزمات. وعلى منوال أهداف الحاكم، يمكن فهم قرار وزير السياحة وليد نصار بتشريع تسعير فواتير المؤسسات السياحية بالدولار. هذه الإجراءات تهدف إلى فرض وصفة الإفقار والانهيار والتضخم وتعزيز المنحى التصاعدي لأسعار السلع، وقد تكون خاتمتها بتسعير رغيف الخبز.
في الواقع، ليس قرار وقف دعم البنزين، أو وقف تأمين قسم من الدولارات للشركات المستوردة للنفط عبر منصّة صيرفة، قراراً مفاجئاً. فمنذ أكثر من سنة يتحدّث المصرف المركزي عن رغبته هذه. وقد استأنف كلامه قبل الانتخابات النيابية، إلا أنه وقف على خاطر رئيس الحكومة نجيب ميقاتي لتأجيل القرار. وقبل أسبوع استعاد الحاكم الكلام نفسه، إذ تواصل مع وزارة الطاقة والشركات المستوردة لإبلاغهم أن لا قدرة له بعد الآن على تأمين الدولارات المقدرة بنحو 150 مليون دولار شهرياً، مقترحاً تسعير الصفيحة بالدولار النقدي. أي رفع سعر صفيحة البنزين من 700 ألف ليرة إلى 800 ألف ليرة على أن «يكون التسعير يومياً ومرتبطاً بسعر الدولار في السوق الموازية» وفق عضو نقابة أصحاب محطّات المحروقات جورج براكس. ويضيف: «سلامة أبلغنا نيته وقف دعم البنزين على منصة صيرفة لكنه لم يحدّد تاريخاً لذلك»، لكن مصادر في وزارة الطاقة قالت إن سلامة «ينوي القيام بذلك في أسرع وقت ممكن».
عملياً، لم يتّخذ القرار بعد ليس لأنه قرار غير شعبوي وسيرفع الأسعار، إذ إن الحاكم ومن يقف وراءه لم يعودوا قلقين من أي تحرّك شعبي ضدّ خطوات كهذه، بل لأن عملية التسعير والتوزيع والمبيع فيها عدد من الجهات يتقاسمون الكلفة والأرباح بنسبة مختلفة. فجدول تركيب الأسعار سيتضمن سعر صرف محدّد حتى يتاح لمحطات المحروقات تقاضي الثمن بالليرة. لكن من يحدّد سعر الدولار في السوق الموازية؟ هل هو مصرف لبنان؟ وماذا إذا تغيّر سعر الصرف بوتيرة حادة خلال اليوم نفسه، هل يصدر الجدول مرتين؟ من يربح بهذه العملية ومن يخسر؟ طبعاً المستهلك سيكون الخاسر الأكبر، لكن ما بين المستورد وصاحب المحطّة هناك خسائر يفترض توزيعها والاتفاق عليها مسبقاً، ولا سيما أن السعر مرتبط أيضاً بالأسعار العالمية لبرميل النفط.
لا يعتقد البراكس أنه يجب إجبار المحطات على البيع بالليرة، لأن ذلك، «سيعيد إنتاج أزمة طوابير أخرى، أو سيضطر أصحاب المحطات التوقف عن البيع كما حصل عند تسعير المازوت بالدولار». من جهته يقول رئيس تجمع الشركات المستوردة للنفط مارون شماس: «لا حديث رسمياً عن رفع الدعم حتى الساعة لكن سئلنا عن حجم السوق وعن سبل تنفيذ قرار تحرير البنزين في حال اتخاذه». أما عن طريقة احتساب سعر الصفيحة، فسيكون عبر جدول تركيب أسعار في ظل بقاء قرار التسعير بيد الدولة. على أن اقتراح الشركات كان «الدفع بالدولار وأن يكون هناك سعر صرف محدد له مما يتيح للمستهلك الدفع بالعملة الأجنبية أو بالليرة اللبنانية. وثمة وسيلة لضبط أي موضوع متعلق بتقلب سعر الصرف بطريقة علمية عبر وضع هامش للفروقات».
«الدولرة مخالفة لقانون النقد والتسليف وقانون حماية المستهلك» بحسب وزير الاقتصاد السابق منصور بطيش. لكن الموضوع أعمق، إذ إن قرارات كهذه تعني «تحلّل الدولة التي تخسر مقوّمات حماية المواطنين، ما يؤدي إلى المزيد من التجويع». وهذا المسار لم يتوقف منذ اليوم الأول للأزمة. بحسب الخبير الاقتصادي شربل قرداحي، فإن حاكم مصرف لبنان «ما زال ضمن المسار نفسه القائم على الحدّ الفاصل ما بين الماضي والمستقبل: أي الودائع والقروض والالتزامات بالدولار التي لا قدرة له على دفعها ويعمل على تذويبها برفع سعر الصرف والتدخّل في السوق شارياً للدولار». وفي بال سلامة أن «تذويب الماضي سيخوّله البدء مجدداً كما حصل في حقبة التسعينيات. فما بين الخسارة والفجوة التي راكمها والتي يرغب بإطفائها بالليرة، وما بين الدولرة الشاملة في المستقبل، ثمة مسار نعبر فيه اليوم كما يريده الحاكم بلا خطّة، وضمنه مسار تحرير سعر البنزين وزيادة الطلب على الدولار في السوق».