لم تخرج وقائع الأمس في ساحة النجمة عن مدار الأجندة الجهنمية نفسها التي ينتهجها أركان السلطة منذ انتفاضة 17 تشرين في سبيل تضييع غريم اللبنانيين وتمييع الحقائق وتجهيل المرتكبين في عملية النهب المنظّمة لأموالهم وودائعهم وإيصالهم إلى ما وصلوا إليه من ذل وفقر حال… تماماً كما لم يخرج المتظاهرون من ساحة رياض الصلح أمس بـ”حق ولا باطل” ولم يحصلوا سوى على باقة جديدة من الدجل والوعود الكاذبة بالعمل على تحسين أوضاع العسكريين المتقاعدين والأساتذة وعموم موظفي القطاع العام.
فبعد احتدام الاحتكاكات بين المتظاهرين والقوى الأمنية أمام السراي الحكومي، لم يتردد عناصر الخدمة الفعلية باستخدام القنابل المسيّلة للدموع لتفريق زملائهم المتقاعدين بالقوة تحت تأثير إصابة العديد منهم بحالات اختناق، بينما تولى رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي “ذرف دموع السلطة شاكياً ومتباكياً من عجز الدولة” أمام وفد العسكريين المتظاهرين الذي قابله لبحث مطالبهم، حسبما نقلت مصادر الوفد، مشيرةً إلى أنه استمهلهم حتى الاثنين المقبل لإدراج هذه المطالب على جدول أعمال جلسة مجلس الوزراء المقبلة.
وخلاصة المشهد بين ساحتي النجمة ورياض الصلح أنّ “العصابة المنظّمة” الحاكمة على حدّ وصف المتظاهرين لها، لا تملك في مواجهة الأزمة المعيشية والاقتصادية الطاحنة التي اشتدت وطأتها على اللبنانيين مع بلوغهم مرحلة الارتطام بقاع الانهيار، أكثر من الهروب إلى الأمام في “تقاذف المسؤوليات” كما بدا جلياً خلال مداولات اللجان المشتركة التي تعالت فيها أصوات المزايدات في تفهّم أوجاع الناس ومعاناتهم.
وعن أجواء الجلسة التي ترأسها نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب وحضرها نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي، ووزير المالية يوسف الخليل وممثّلون عن الإدارات المعنية وممثّل عن مصرف لبنان، لخّصتها مصادر نيابية معارضة بعبارة: على ما يبدو “الحق على الطليان”. وأوضحت أنّ “أحداً لا يملك تقديم أجوبة واضحة ومحددة حول الجهات التي تقف خلف عمليات التلاعب بسعر الصرف، فالحكومة تحيل الموضوع إلى حاكم المصرف المركزي والأخير يرمي الكرة في ملعب السلطة”، مشيرةً في الوقت عينه إلى “افتقار خطة التعافي الحكومية لأي إطار علمي ودقيق، الأمر الذي لا يُبشّر بالخير على مستوى الاتفاق المرتقب مع صندوق النقد الدولي“.
وإذ من المتوقع أن يلتقي وفد صندوق النقد اليوم سفراء دول مجموعة العمل لأجل لبنان ليعقد بعد ذلك مؤتمراً صحافيا يلخص فيه نتائج جولته على المسؤولين الحكوميين والنيابيين وممثلي قوى الانتاج والمجتمع المدني، علمت “نداء الوطن” من مصادر الوفد أنه يغادر لبنان بانطباعات “سيئة” بعدما لمس خلال لقاءاته “تقاذفاً للمسؤوليات”، مستغرباً كيف أن “كل طرف يقول إنه يريد الاتفاق مع الصندوق ملقياً المسؤولية في عرقلته على أطراف أخرى“.
وفي هذا الإطار، عُلم أنّ وفد صندوق النقد يعتبر فكرة صندوق استرداد الودائع التي يطرحها المسؤولون في السلطة “غير مفيدة ومضيعة للوقت”، واضعاً طرح هذه الفكرة في سياق محاولة “الهروب من تحديد الخسائر”، بينما نقلت أوساط مطلعة على أجواء النقاشات الجارية في هذا الإطار أنّ “عقدة كيفية رد الودائع تفخّخ الاتفاق مع صندوق النقد”، لافتةً إلى أنّ “القيّمين على الملف اللبناني في إدارة الصندوق يرون وجوب تحمّل المصارف الجزء الأكبر من الخسائر من دون التوسّع في استخدام أصول الدولة لإطفاء هذه الخسائر”، مع التمسك بضرورة “حماية الودائع حتى مبلغ 100 ألف دولار، على أن يصار إلى إيجاد معالجات مختلفة ومتنوعة للودائع التي تفوق هذا المبلغ مثل تحويلها إلى أسهم في البنوك“.
وختمت الأوساط نفسها بالتشديد على “صعوبة أن يقدم طرف مانح أو مستثمر على مساعدة بلد تبلغ فجوته المالية 72 مليار دولار، سيّما وأنّ سفراء الدول المعنية متوافقون على عدم وجود مساعدات للبنان من خارج صندوق النقد“.
وفي الغضون، أطلّ الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله أمس لإعادة الضرب على وتر “الاتجاه شرقاً” في عملية إنقاذ البلد، مجدداً الحديث عن “استثمارات صينية جاهزة” بمليارات الدولارات قادرة على حل الأزمة الاقتصادية اللبنانية غير أنّ الإدارة الأميركية تحول دون تنفيذ هذه المشاريع.
وأمام “الوتيرة البطيئة” في مقاربة الاستحقاق الرئاسي، اقترح نصرالله عقد “طاولة حوار اقتصادي” تبحث سبل إنقاذ الوضع المعيشي المتدهور في البلد، وهي دعوة رأت فيها مصادر سياسية معارضة “شقلبة للأولويات”، مذكرةً بأنّ “الأولوية الدستورية والأخلاقية في البلد يجب أن تكون للاستحقاق الرئاسي باعتباره مفتاح حل كل الأزمات الاقتصادية والمالية والاجتماعية والمعيشية، لكن عملياً ما يقوله الأمين العام لـ”حزب الله” هو باختصار: “إنسوا الرئاسة الآن وتعالوا لنعمل على إيجاد آلية تطبيع اقتصادية مع الفراغ الرئاسي بانتظار أن تخضعوا لانتخاب مرشحنا سليمان فرنجية“.