الداخل اللبناني غارق في رمال السياسات العبثية التي ابتلعت كل المساعي والجهود الرامية إلى كسر حيطان التعطيل القابضة على رئاسة الجمهورية، وقوّضت فرص إخراجه من أزمة مهلكة له، فيما عادت المنطقة إلى التموضع على مفترق احتمالات وسيناريوهات مجهولة، ربطاً بالتطورات الخطيرة في الداخل الفلسطيني.
كل المؤشرات تؤكّد انّ احتمالات التصعيد تحوم في سماء المنطقة، غداة العملية الاسرائيلية في غزة فجر الثلاثاء الماضي، التي استهدفت بالاغتيال ثلاثة من قيادات «سرايا القدس»، وخلقت واقعاً متفجّراً، تصاعد بالأمس إلى عمليّات حربية وقصف مدفعي وصاروخي عنيف، وسط مخاوف جدّية من تمدّدها إلى تصعيد اوسع وتوترات في اكثر من ساحة، حيث تتبدّى نذر ذلك في الهجوم على الكنيس اليهودي في تونس، الذي ادّى إلى سقوط قتلى وجرحى..
هذه المستجدات التصعيدية تنثر في أجواء المنثر سيلاً من علامات الاستفهام، حول توقيت هذا التصعيد ومراميه، وما إذا كان التصعيد الاسرائيلي يرمي إلى فرض وقائع جديدة في المنطقة، مخرّبة للانفراجات الاقليمية التي توالت على الخط السعودي -الايراني وكذلك على الخط العربي- العربي، الذي تُوّج بإعادة سوريا إلى مقعدها في الجامعة العربية بعد إبعادها عنه منذ بداية الأزمة في سوريا قبل أكثر من عشر سنوات، واستُكملت بالأمس في توجيه دعوة من الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز إلى الرئيس السوري بشار الاسد للمشاركة في القمة العربية التي ستُعقد في جدة في التاسع عشر من الشهر الجاري.
وعلى الرغم من الدعوات الأممية والدولية إلى وقف العمليات الحربية، الّا انّ التقارير التي تُنقل من الداخل الفلسطيني، تتحدث عن استعدادات لتصعيد اكبر، خصوصاً من الجانب الاسرائيلي. حيث تتقاطع مقاربات الخبراء والمحلّلين عند حاجة حكومة بنيامين نتنياهو إلى هذا التصعيد، لسببين أساسيين، الأول، هو الهروب من الأزمة الداخلية التي تعصف بهذه الحكومة، والتي تجلّت باعتراضات وتظاهرات غير مسبوقة ضدّها، والثاني، محاولة فرض وقائع جديدة، تقطع الطريق على ما يسمّيه الخبراء والمحلّلون «المسار الذي أحبط السعي الاسرائيلي إلى التطبيع الشامل مع الدول العربية، وتحديداً الخليجية، وأنعش في الوقت ذاته أعداءها وحلفاءهم في المنطقة» وعلى وجه الخصوص ايران، بعد الاتفاق بينها وبين السعودية، وصولاً إلى الانفتاح العربي والخليجي على سوريا».
وفيما عكس الإعلام الاسرائيلي جواً من الحذر يسود الداخل الاسرائيلي، وانّ توجيهات وجّهها الجيش الاسرائيلي إلى المستوطنين في المدن والمستوطنات القريبة من نقاط الاشتباك، وكذلك المستوطنات على الحدود الشمالية مع لبنان، بملازمة منازلهم والأماكن الآمنة، تحسباً من قصف صاروخي محتمل، ليس من قطاع غزة فحسب، بل من خارجها، حيث كشف الإعلام الاسرائيلي انّ الطاقم الأمني والعسكري الاسرائيلي يضع في حسبانه إمكان تعرّض تلك المستوطنات إلى رشقات صاروخية من الجانب اللبناني، وانّه وضع خططاً لمواجهة ذلك، الّا انّ الصورة من الجانب اللبناني، تعكس وضعاً طبيعياً، ولا شيء يوحي بأي استنفارات او تحرّكات لأي جهة، في وقت لوحظ فيه تكثيف لنشاط ودوريات قوات «اليونيفيل» على امتداد الحدود الجنوبية.
قلق حقيقي
هذا الجو المفتوح على احتمالات مجهولة، أشاع جواً من الحذر في الداخل اللبناني. وفي هذا السياق، عبّر احد الخبراء المختصين بالشؤون الاسرائيلية عن مخاوف كبرى من نوايا عدوانية اسرائيلية لإعادة اجواء الحرب إلى المنطقة، وأبلغ إلى «الجمهورية» قوله: «الوضع في منتهى الخطورة، ويوجب اتخاذ أقصى درجات اليقظة والحذر من أي مفاجأة اسرائيلية، لا اقول على مستوى المنطقة فقط، بل على مستوى لبنان الذي لا يمكن عزله عمّا تتأثر به المنطقة، فضلاً عن انّه كان ولا يزال على مرمى التصويب الاسرائيلي، وتبيت له عدوانية دائمة، وليست صدفة في هذا السياق، المناورة العسكرية التي بدأتها اسرائيل قبل ايام، وأخطر ما فيها انّها تحاكي حرباً على لبنان، وانّها اختارت قبرص موقعاً لإجراء هذه المناورة لتشابه التضاريس القبرصية مع التضاريس اللبنانية».
وفيما تحدث اكثر من مصدر عن «استنفار غير معلن لـ«حزب الله» على امتداد الحدود مع فلسطين المحتلة، لم تُرصد اي حركة علنية للحزب، رفضت مصادر الحزب تأكيد ذلك او نفيه، وأبلغت إلى «الجمهورية» قولها: «المقاومة كانت وما زالت حاضرة في موقعها، ولا كلام علنياً حول ما يمكن ان تقوم به. وعلى ما قال الأمين العام السيد حسن نصرالله فإنّ اسرائيل تدرك الثمن الباهظ جداً الذي ستدفعه ازاء أي اعتداء على لبنان».
مراوحة وتشويش
على انّ التطورات المتسارعة في الداخل الفلسطيني، تواكبت مع مراوحة سلبية في الملف الرئاسي، يُمرّر فيها الوقت بحراكات سطحية ولقاءات شكلية لا جدوى منها، واجترارات لذات المواقف الصدامية، فيما حركة المساعي الصديقة والشقيقة لا يبدو انّها دخلت فقط في استراحة مؤقتة إلى ما بعد قمة جدة، بل يُخشى ان تفرض تطورات المنطقة جدول اعمال جديداً في المنطقة، تصبح معه حركة المساعي ثانوية، هذا إذا لم تعطلها.
وإذا كانت الحركة الديبلوماسية الاخيرة، والتي اندرج في سياقها حراك السفير السعودي في لبنان وليد البخاري، قد رسمت خريطة إتمام الانتخابات الرئاسية، على قاعدة ان يتحمّل اللبنانيون مسؤولياتهم الوطني على هذا الصعيد، الّا انّ الوقائع الداخلية ما زالت معاكسة لهذا المنحى، ورافضة سلوك اي معبر داخلي نحو التوافق على رئيس. على انّ اللافت للانتباه في هذا السياق، ما بدت انّها محاولة جديدة لإرباك الداخل، والتشويش على الايجابيات التي تولّدت عن تلك الحركة، إن من خلال العودة إلى اغراق البلد بشائعات وتخيّلات، كمثل الحديث عن انّ تلك الحركة سعت إلى ترويج خيارات رئاسية واسماء جديدة لرئاسة الجمهورية، او تفسيرات قديمة – جديدة، تؤوّل الموقف السعودي ما لم يقله، وتحديداً حول رفض وصول رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية إلى رئاسة الجمهورية، وصولاً إلى الحديث عن حوار رئاسي خارج لبنان.
على انّ هذه الشائعات والتفسيرات والتخيّلات، تعتبرها مصادر مطلعة عن كثب على حركة المساعي الديبلوماسية بأنّها «نوع من التسلية حتى لا نقول اختلاقات، في الوقت الضائع». وقالت لـ«الجمهورية»: «هذا الامر ليس مستغرباً من المتضررين من الحل الرئاسي، الذي سيكون مفاجئاً للجميع، وفي مدى غير بعيد، وهو ما تؤكّد عليه الأجواء الصديقة والشقيقة، بوجوب حسم الملف الرئاسي في لبنان في غضون اسابيع قليلة».
التحصين اولاً
يتقاطع ذلك، مع ما يؤكّد عليه مرجع سياسي لـ«الجمهورية»، بأنّ الظروف المحلية والخارجية باتت تحتّم حسم الملف الرئاسي اليوم قبل الغد.
واعتبر المرجع، انّ التطورات الاخيرة في فلسطين، تشكّل دافعاً قوياً جداً إلى تحصين الداخل اللبناني اكثر من اي وقت مضى، كون المنطقة برمتها على كف عفريت. وتوجّه عبر «الجمهورية» إلى كل الاطراف السياسية في لبنان من دون استثناء احد، قائلاً: «شبع البلد فراغاً، وانبعاثات سياسية مسمومة من هنا وهناك، فلا شعبويات قادرة على انتاج رئيس، ولا مناكفات ومزايدات قادرة على تغليب فريق على فريق، وكل الحسابات الداخلية والحزبية اثبتت عقمها وفشلها، وكل الرهانات الخارجية اثبتت انّها بلا أي رصيد، ومن هنا علينا النظر اولاً إلى حال بلدنا المهترئ، والتمعن ثانياً في ما يجري في المنطقة، التي يحوم حولها المجهول، حيث انّها باتت قابعة على برميل بارود، واسرائيل تسعى إلى تفجيره، واما لبنان فيشكّل الحلقة الأضعف بين دول المنطقة، وهو في حالته الراهنة في ظلّ ازمة مالية واقتصادية خانقة، ووضع سياسي مفكّك، ولا رئيس للجمهورية، ولا حكومة قادرة على العمل والإنجاز، بات امام خيارين اثنين لحماية مصيره، لا ثالث لهما؛ فإما ان يُحَصّن بانتخاب رئيس للجمهورية وإعادة تكوين السلطة فيه، وهو الامر الذي يمدّه بشيء من المناعة امام ايّ عواصف محتملة، واما ان يُترك رهينة الانقسام والسياسات العابثة، التي تشكّل قوة رفد ودفع لأي عاصفة خارجية، لا تزيد فقط من ضعفه وتفاقم أزمته، بل تكسر قدرته على البقاء والاستمرار».
بري: لرئيس منتصف حزيران
ولفت في هذا السياق، موقف رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي ادلى به امس خلال استقباله وفداً موسعاً من تجمّع «مستقلون من أجل لبنان»، اكّد فيه أنّ إنتخاب رئيس للجمهورية هو بداية البدايات، لافتاً إلى وجوب انجاز انتخابات رئاسة الجمهورية كحدّ اقصى في 15 حزيران المقبل، إذ لا أحد يمكن ان يعرف إلى اين يتجّه البلد من خلال الإمعان في حالة الشغور في موقع رئاسة الجمهورية .
واضاف رئيس المجلس قائلاً: «لا يجوز ان تذهب المنطقة العربية نحو التفاهمات والإنسجام ونحن في الداخل نذهب للتفرّق عن وحدتنا وعن حقنا وعن ثوابتنا في الوحدة ورفض التوطين ورفض دمج النازحين وصون السلم الاهلي».
وجدّد الرئيس بري التأكيد على أنّ علّة العلل هي في الطائفية المتجذرة في كل مفاصل حياتنا السياسية وفي كل مفاصل الدولة، مؤكّداً أنّ الحاجة باتت أكثر من ضرورية من أجل العمل للوصول إلى قانون إنتخابي خارج القيد الطائفي وتنفيذ ما لم يُنفّذ من إتفاق الطائف، لا سيما البنود الاصلاحية فيه. معتبراً أنّ إتفاق الطائف إذا ما طُبّق فهو يعبّد الطريق لولوج لبنان نحو الدولة المدنية بشكل متدرج.
واعتبر الرئيس بري أنّ تطوير لبنان وإنقاذه يكون بأن يخطو الجميع بجرأة وشجاعة وثقة باتجاه الدولة المدنية، وألف باء ذلك هو قانون إنتخابي غير طائفي على أساس النسبية وفقاً للدوائر الموسعّة، وإنشاء مجلس للشيوخ، وتطبيق اللامركزية الإدارية الموسعة وإقرار الكوتا النسائية في أي قانون إنتخابي.
وقال الرئيس بري: «لا نقبل ولا يجوز القبول باختيار حاكم لمصرف لبنان دون ان يكون لرئيس الجمهورية كلمة في هذا الامر. والامر كذلك ينسحب على موقع قياده الجيش». آملاً ان يشكّل الشعور بالمخاطر الناجمة عن الوصول إلى الشغور في موقع حاكمية مصرف لبنان، حافزاً لكافة الاطراف من أجل تذليل كل العقبات والعوائق التي تحول دون انتخاب رئيس للجمهوريه بأسرع وقت ممكن .
وأشار رئيس المجلس إلى انّ المناخات الإقليميه والدولية حيال الإستحقاق الرئاسي مشجعة وملائمة.
التيار: البعد الداخلي
الى ذلك، اعتبر «التيار الوطني الحر» في بيان لمجلسه السياسي إثر اجتماعه الدوري الذي عقده برئاسة النائب جبران باسيل «أنّ التحولات الحاصلة في الشرق الأوسط والخليج منذ توقيع الإتفاق السعودي – الإيراني ستكون لها إنعكاسات هامة وايجابية على دول المنطقة ومن بينها لبنان».
ودعا التيار إلى «الإستفادة من هذه التحولات لتكون في صالح لبنان، ويعبّر عن خشيته من مخاطر تخريب التسويات الحاصلة على يد المتضررين في مقدّمهم إسرائيل». وأبدى «ارتياحه لمسار العلاقة بين المملكة العربية السعودية وسوريا». كما دعا «الكتل النيابية الى أخذ العِبَر من مواقف الخارج بموضوع رئاسة الجمهورية، وإعادة الإستحقاق الى بُعده الداخلي وبالتالي الإسراع في الاتفاق على برنامج إصلاحي يرعى رئيس الجمهورية الجديد تنفيذه بالإتفاق مع الحكومة ومجلس النواب».
ورأى أنّ «من واجب الجميع الإستفادة من المناخ الإقليمي الجديد للسير بمشروع بناء الدولة على أسس الحداثة والاصلاح بما يتوافق مع الإتجاهات الجديدة في المنطقة». وجدّد «تمسّكه باستقلالية قراره وخياره في الشأن الرئاسي»، رافضاً منطق مرشحي المواجهة «والممانعة»، ومؤكّداً على الحوار مع الجميع ليتمّ إنتخاب رئيس إصلاحي يتمتع بشرعية شعبية ونيابية مسيحية، على ان يحظى طبعاً بأوسع قبول وطني من الكتل النيابية. وأكّد التيار تجاوبه مع الكثير من مبادرات التوافق على اسماء مقبولة ولها قابلية النجاح في المشروع الاصلاحي.
مصادر بكركي
وفي هذه الأجواء، أفادت مصادر بكركي أن البطريرك طلب من السفيرة الفرنسية المساعدة على معالجة الموقف المسيحي من الشأن الرئاسي، ولم يذهب أكثر في المطالبة حسبما تسرّب عن الإجتماع، علماً أن مصادر أخرى تفيد بأن فرنسا لا تزال على موقفها من أن المعترضين المسيحيين لم يتفقوا على مرشح، وبالتالي إعتراضهم غير محق.
موقف اوروبي
كرّر ممثل الاتحاد الاوروبي في لبنان رالف طراف في مناسبة «يوم اوروبا»، التأكيد على «ضرورة استعادة قدرة لبنان على وجه السرعة، على اتخاذ القرارات السياسية والإدارية وتنفيذها»، مشيراً إلى انّ ثمة فهماً مشتركاً على أنَّ ذلك يتطلَّب على الأقل انتخاب رئيس، وتشكيل حكومة كاملة الصلاحيات، والتوصّل إلى اتفاقات بشأن تعيين مسؤولين كبار آخرين.
وشدّد على انّ من الضروري دفع أجور مناسبة للعاملين في القطاع العام، بما في ذلك القوى الأمنية، وضمان عملها ووقف هجرة الأدمغة. وقال: «يريد البعض الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك، ويطالب بمراجعة شاملة للنظام السياسي ككل. لكن هذا نقاش يجب أن يجريه اللبنانيون في ما بينهم في المقام الأول».
أضاف: «نتفق جميعاً على ضرورة أن يجد لبنان حلاً للأزمة الاقتصادية كأولوية. ومن شأن الإصلاحات النقدية والمالية أن تعيد السيولة الضرورية جداً إلى الاقتصاد، وأن توقف الانزلاق إلى اقتصاد غير نظامي، وأن تعيد بناء النظام المصرفي المتأزم. ومن شأن تنفيذ التدابير المتفق عليها مع صندوق النقد الدولي منذ أكثر من عام أن يفتح الطريق أمام برنامج للتعافي الاقتصادي، بمساعدة من الصندوق والأسرة الدولية، بما في ذلك أوروبا».
إعتقال عنصرين للحزب
من جهة ثانية، أعلن الادّعاء العام الألماني امس، اعتقال شخصين تابعين لـ«حزب الله»، كانا مسؤولين عن تنظيم والتعامل مع الخدمات اللوجستية للحزب في مدينة بريمن.
ونقلت «وكالة الصحافة الفرنسية» عن الادعاء الالماني قوله، إنّ أحد الموقوفين لبناني الجنسية، بينما الموقوف الآخر يحمل الجنسيتين اللبنانية والألمانية. وقد عرّف عنهما الادعاء بإسمي «حسن م.»، و«عبداللطيف و.».
وقال الادعاء العام الألماني، إنّ عبداللطيف انضم إلى «حزب الله» عام 2004، ويرأس منذ 2012 «جمعية المصطفى» في مدينة بريمن، التي تمّ حظرها في عام 2022. وهو عضو في «كتيبة الرضوان» التي تقاتل مع «حزب الله» في سوريا.
فيما انضمّ حسن للحزب عام 2016، وهو «مسؤول عن الفروع الخارجية خصوصاً في مدينة بريمن». ومن المقرر أن يمثل المشتبه فيهما أمام قاضٍ «سيقرّر ما إذا كان سيبقيهما في الحجز».