كتبت صحيفة “النهار”: كادت الحرب الشرسة بين “فتح” والإسلاميين في مخيم عين الحلوة تحجب ابرز حدث مصرفي ومالي ببعد سياسي ثقيل من الطراز الاثقل تمثل في نهاية ولاية حاكم مصرف لبنان السابق (هكذا تغدو صفته من اليوم وللمرة الأولى منذ ثلاثين عاما) رياض سلامة ومغادرته المصرف المركزي للمرة الأولى منذ مدة طويلة املتها ملاحقته القضائية على يد القاضية غادة عون، وانتقال صلاحياته وكالة الى نائبه الأول وسيم منصوري الذي سارع مع النواب الثلاثة الاخرين قبل يوم من الموعد الرسمي لتسلم مهماته الى الإطلالة على الرأي العام بما يفصح عن عناوين المرحلة الانتقالية المقبلة . ومع ان كل ما رافق اليوم الأخير من ولاية سلامة والتحضيرات لتسلم منصوري والنواب الثلاثة الاخرين للحاكم لم ينطو على أي مفاجأة، فان ابرز ما يستخلص من مجريات هذا الانتقال والمؤتمر الصحافي الذي عقده الحاكم الأول ومن ثم دعوته الى حضور مجلس الوزراء والشروع في تحضير مشروع قانون الاستدانة الجديد للحكومة من مصرف لبنان يتركز على معطيات جديدة ستكون قيد الرصد والاختبار في المرحلة الانتقالية التي يصعب تحديدها، علما انه بدا لافتا ان منصوري تحدث عن ستة اشهر لانجاز المشاريع والإجراءات الإصلاحية. المعطى الأول يتمثل في ان منصوري تحدث عن تسلمه لمهماته وفق ما ينص عليه القانون من دون أي تحفظات بما عكس اسقاطه والنواب الثلاثة الاخرين لكل ما اثاروه في الأسابيع التي سبقت نهاية تموز من تحفظات او تلميحات بالاستقالة وسواها من مواقف ذهبت مع نهاية ولاية رياض سلامة. المعطى الثاني يتمثل في تعمد النائب الأول تظهير الاختلاف الموعود في السياسات الإجرائية المالية بين ما كان سائدا وما سيكون بعد اليوم خصوصا لجهة رفض الانفاق خارج التغطية الحكومية النيابية الامر الذي يرسم واقعيا معالم شراكة ثلاثية ضمنا في السلطة المالية العليا يتوزعها المجلس المركزي لمصرف لبنان مع رئاستي الحكومة ومجلس النواب. المعطى الثالث ان الإجراءات المالية والنقدية وفي سوق القطع لن تشهد قفزات ومتغيرات انقلابية بل تبديلات تكتية بطيئة خشية تفلت زمام التحكم بالوضع الناشئ بعد مغادرة “مايسترو” الواقع المالي الذي كان يديره بسلطة شبه أحادية. ولكن اخطر المحاذير التي ستكون ماثلة في واقع “الشراكة” الجديدة يتمثل بتشريع استباحة بقايا ودائع المودعين التي وان تناول التشريع المطروح لاستدانة الحكومة من مصرف لبنان تقنين الانفاق، فان ذلك لا يحجب تشريع النزف الذي سياتي على حساب المودعين.
وفي يومه الأخير قال رياض سلامة خلال مغادرته المصرف امام موظفيه “بودّعكن، بسّ قلبي باقي مَعكن، مصرف لبنان صمد وسيبقى صامداً”. وفي وقت متزامن مع الوداع السريع كان النائب الأول لحاكم مصرف لبنان وسيم منصور يكشف في مؤتمرصحافي أنّ “المجلس المركزي في مصرف لبنان أصدر قرارًا يمنع المساس بالتوظيفات الإلزامية عام 2021 واكتشفنا قناعة لدى السلطة السياسية أن لا نية لديها للإصلاح . وفي تظهير لتمايز موقف نواب الحاكم عن السياسات السابقة قال منصوري “خيارنا كان ثابتا وواضحا وهو أنه مهما كانت الأسباب التي تدفع الحكومة لطلب أموال من المصرف المركزي فهي أسباب غير مبرّرة على الإطلاق ويجب أن يتوقّف هذا الاستنزاف نهائيا”. وقال: “نحن إما امام الاستمرار بالنهج السابق والسياسات السابقة فان موجودات المصرف محدودة لذا لا بد من الانتقال الى وقف تمويل الدولة بالكامل”. كما لفت الى “أننا مستعدون لنكون الى جانب النواب يوميا لتزويدهم بالأرقام والمعلومات”، قائلا: “فليكن التعاون قانونياً متكاملاً بين الحكومة والبرلمان والمصرف المركزي”. وأشار الى أنه “لن يتمّ التوقيع على أيّ صرف لتمويل الحكومة إطلاقاً خارج قناعاتي وخارج الإطار القانوني لذلك”. وأوضح أنه “لا يمكن للبلد أن يستمر من دون إقرار القوانين الاصلاحية خلال مدة الستة اشهر المقبلة، وهي موازنة العام 2023 التي الحكومة بصدد الانتهاء منها في جلسة اليوم ( امس) ولاحقا موازنة العام 2024 ضمن المهل الدستورية، وقوانين الكابيتال كونترول وهيكلة المصارف واعادة التوازن المالي”. وقال: “ننظر الى فترة انتقالية قصيرة تسمح بتمويل الدولة بموجب قانون”، مؤكدا ان “تشريع الصرف من التوظيفات الإلزامية من مصرف لبنان يجب أن يكون مشروطاً برد الأموال ويجب ان يكون التشريع لفترة محددة ومشروطة وسيسمح القانون بدفع الرواتب بالدولار وفق منصة صيرفة”. واكد ان “ما يعزز الاستقرار، هو القانون المقترح الذي ستطلب الحكومة اقراره، والذي يعزز قدرات المصرف المركزي على التدخل في سوق القطع في حال محاولة اي من المضاربين على التلاعب، مع التأكيد ان القضاء والقوى الامنية تراقب عن كثب اي محاولات للتلاعب في سوق القطع، سواء اكان اليوم ام في الغد او في الفترات المقبلة”.وتعهد منصوري بـ “الشفافية الكاملة في عملنا ونصرّ على رفع السرية المصرفية عن الجميع”.
وبدا لافتا ان رد الفعل السياسي الإيجابي الأول حيال مواقف منصوري جاءه من رئيس حزب “القوّات اللبنانية”سمير جعجع الذي سارع الى القول “ما سمعناه اليوم من النائب الأول لحاكم مصرف لبنان وسيم منصوري يبشّر بالخير”.
كما ان رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي الذي طلب من منصوري الحضور الى جلسة مجلس الوزراء عصرا في السرايا كرر في مداخلته في الجلسة انه: منذ بدء الحديث عن الموضوع كنت اقول اننا لا نقبل بحصول شرخ ولكن هناك اولويات من الضروري اخذها بالاعتبار حسب تسلسل المواد في قانون النقد والتسليف. ولما تعذر تعيين حاكم جديد ، اجريت مباحثات طويلة مع نواب الحاكم وخاصة مع النائب الاول وسيم منصوري، الذي، بحسب القانون هو الذي سيتولى منصب حاكمية مصرف لبنان”. وقال:” دعوت منصوري اليوم لحضور الجلسة ليعرض لمجلس الوزراء الافكار التي يريد مناقشتها ويطالب بها، وفي رأيي ان ما يطلبه يتطابق مع موقف الحكومة لجهة المشاريع الاصلاحية التي ارسلناها الى مجلس النواب. وهو يطلب اقرار تشريع يجيز للحكومة الاقتراض بالعملة الاجنبية من مصرف لبنان”. وأبلغ ميقاتي الوزراء بأن هناك مشروع قانون يرمي الى الإجازة للحكومة الاقتراض بالعملات الأجنبية من مصرف لبنان سيتم توزيعه عليهم تمهيدا لمناقشته في جلسة مقبلة متوقعة في وقت قريب جدا . كما تم توزيع كتاب من نائب رئيس الحكومة سعاده الشامي في الإطار ذاته.
الاستباحة الدامية
في غضون ذلك عاش مخيم عين الحلوة ومحيطه أمس يوما ملتهبا اخر في ظل اشتباكات عنيفة بأسلحة مختلفة على كل محاوره، بين عناصر من حركة “فتح” وعناصر إسلامية متشددة، في أعقاب كمين مسلح أول من أمس، أودى بقائد “الامن الوطني” في منطقة صيدا اللواء “أبو أشرف” العرموشي ومرافقيه الأربعة. ووفقاً لمعلومات من مصادر مختلفة، ارتفع عدد القتلى في اليوم الثالث الى ما يراوح بين 12 و15 قتيلاً وأكثر من 50 جريحاً بين مدنيين ومسلحين وقتل عدد من العناصر التابعين لمنظمات إسلامية . وفي انعكاس بالغ الخطورة لترجمة صراعات دموية ذات امتدادات إقليمية تعصف بالواقع الفلسطيني في لبنان بدت حرب عين الحلوة كأنها بلا ضوابط وحرب تصفيات عنيفة فيما تعجز الدولة والقوى الأمنية والعسكرية عن التدخل ويبقى الوضع مفتوحا على فصول جديدة من الاستباحة الأمنية والسيادية .
وفي ظل نزوح الاهالي من المخيم والمحيط خوفا من توسع رقعة الرصاص والقذائف، عقد إجتماع ظهراً في مقرّ التنظيم الشعبي الناصري في صيدا دعا إليه النائب أسامة سعد لمُحاولة ضبط الأوضاع ولجم المعارك التي تحصل داخل مخيّم عين الحلوة. واثر الاجتماع، قال سعد: حصل اتفاق بين الفصائل على تثبيت وقف النار ميدانيا فورا في عين الحلوة وسيعقد اجتماع ثان غدا وسيتم تسليم الجناة الضالعين في قتل مسؤول حركة فتح الى الجيش.
ونفى مصدر فلسطيني مسؤول ما تم تداوله، حول زيارة رئيس جهاز المخابرات العامة اللواء ماجد فرج لبنان، وعلاقة ذلك بما يجري من أحداث في مخيم عين الحلوة .واعتبر “انها مجرد محاولة لزج المخيمات الفلسطينية في حسابات سياسية داخلية، كما أن الهدف منها افتعال الخلافات بين الفلسطينيين لتلقي بظلالها على دعوة الرئيس محمود عباس، للأمناء العامين للقوى السياسية للاجتماع في مصر. وأكد المصدر، أن زيارة اللواء فرج “تمت بدعوة من المؤسسة الأمنية اللبنانية الرسمية في إطار العلاقات الثنائية البناءة والدائمة بين البلدين والشعبين لخدمة مصالح الشعبين والبلدين الشقيقين”. واستنكر “فبركة هذه الأخبار وتداولها بهذه الطريقة ومحاولة الدفاع عن الإرهابين ومحاولة تبرير ممارساتهم من قبل البعض” .
وكرر الرئيس ميقاتي في جلسة مجلس الوزراء القول “لا نقبل إستخدام الساحة اللبنانية لتصفية الحسابات الخارجية على حساب لبنان واللبنانيين،وبشكل خاص ابناء صيدا” . واكد ان “الجيش يقوم بواجبه لمعالجة هذه المسألة، وما يحصل مرفوض بالمطلق لكونه يكرّس المخيم بؤرة خارجة عن سيطرة الدولة، وعلى كل مقيم على الاراضي اللبنانية أن يحترم تحترم السيادة اللبنانية والقوانين ذات الصلة وأصول الضيافة. وقبل دخولي الى مجلس الوزراء اتصلت بالامنيين وخصوصا مخابرات الجيش واستوضحت منهم عن الوضع ، حيث تبين ان هناك وقفا جديا لاطلاق النار، لكن هناك جهات خارج هذا الاتفاق تقوم بخرقه بصورة مستمرة” .