ترافقت العودة الأميركية إلى المنطقة من بابها العريض، مع كثيرٍ من الأحداث التي طالت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من الخليج وصولًا إلى المغرب. وشكّل تجميد مفاعيل الإتفاق السعودي – الإيراني شرارة الإنطلاق للعديد من الأحداث، التي طالت بنوعٍ خاص سوريا ولبنان. وبالتحديد، شكّلت حادثة الكحّالة والعقوبات على حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، مُنعطفًا كبيرًا في المسار الرئاسي والمالي في لبنان، مع تداعيات ستطال الساحة السياسية وستُعدّل من المواقف السياسية.
حزب الله وتعجيل الإستحقاق الرئاسي
تقول مصادر سياسية أن الضغوطات الأميركية سترتفع حدّتها في الأسابيع القادمة، حيث من المتوقّع أن تترافق عودة المبعوث الفرنسي في أيلول القادم، مع تهديد واضح من قبل المُجتمع الدولي بفرض عقوبات على كل من يُعطّل جلسات إنتخاب رئيس للجمهورية. وهذه العقوبات تُهدّد بالتحديد كل نائب ينسحب من الجلسة بعد الدورة الأولى، وهو ما يعني في ظل إستمرار الإصطفافات الحالية، وفي ظل ما تعتقده المعارضة، ان مرشحها سيصل إلى سدّة الرئاسة، كما تعتبر المعارضة ان هذا الامر يُشكّل هاجسا لحزب الله من باب طعن المقاومة في ظهرها. ومن هذا المُنطلق، أعاد حزب الله فتح قنوات الإتصال مع التيار الوطني الحرّ بحسب رأي المعارضة، بهدف الحصول على أصواته لصالح النائب السابق سليمان فرنجية.
عمليًا، خطّة الحزب تنصّ على حصول فرنجية على 67 صوتًا، بما فيها أصوات التيار الوطني الحرّ الذي، وبحسب المعلومات، أصبحت مضمونة، وبالتالي وفي حال الذهاب في أيلول إلى جلسة لإنتخاب رئيس للجمهورية، سيحصل فرنجية على 67 صوتًا تجعل وصوله إلى سدّة الرئاسة محسومًا في حال إكتمال نصاب الدوّرة الثانية. وهنا ترى المصادر أن قوى المعارضة و”التغييرين”، الذين هددّوا بتعطيل النصاب لمنع إيصال مُرشّح الثنائي إلى سدّة الرئاسة، سيكونون أمام عقوبات مُحتملة – إذا نفذت الولايات المُتحدة الأميركية تهديدها، وبالتالي سيكون هناك إمّا تعامل خاص من قبل الإدارة الأميركية مع هؤلاء عبر إعفائهم من العقوبات، أو أن يُعدّلوا من قرارهم ويؤمّنوا النصاب. وفي كلا الحالتين، يكون حزب الله قدّ طوّق الإستراتيجية الأميركية تجاه الإنتخابات.
وتقول المصادر نفسها، أن الوزير السابق جبران باسيل أعطى موافقته على السير بفرنجية، مُقابل العديد من المطالب التي وافق عليها حزب الله، لكن الإعلان عن هذا الإتفاق شبه – المُنتهي – لن يكون إلا ضمن خطّة الإسراع في دعوة إلى إنتخاب رئيس للجمهورية فورًا، بعد الإعلان عن الإتفاق المتوقّع قبل مُنتصف أيلول وهو ما يضّمن فعّالية الخطة.
أمّا على صعيد التيار، فتُضيف المصادر أن باسيل يعلم أنه من المُستحيل، لا بل من الخطر جدًا السير بقائد الجيش، نظرًا إلى أنه سيتكرّس زعيمًا على قسم كبير من مناصري التيار، الذين هم بالأساس يؤيدّون الجيش. وبالتالي تبقى زعامة فرنجية بحسب التيار محصورة في الشمال، وضررها أقلّ بكثير على شعبية باسيل. وتُضيف المصادر أن التيار يعلم أن هناك أقلّه 7 نواب تيار أتوا بأصوات الثنائي، وبالتالي لا يُمكن لباسيل إلا السير بخطّة الثنائي تحت طائلة تقليص حجمه إلى بضعة نواب يأتون بأصواته البحتة.
في مُقابل هذا الإطار، لا تخفي بعض المصادر أن هناك صعوبات جمّة تواجه ترشيح فرنجية، خصوصًا بعد حادثة الكحالة، التي قد تدّفع فريق المعارضة و”التغييرين” إلى الإستعانة بالخارج لزيادة الضغوطات على لبنان لمنع إيصاله ، لكن حزب الله لن يخضع ومستمر بترشيح فرنجية.
مخاوف أمنية
اللافت، أنه وخلال حفل تشييع الشهيد فادي بجّاني في الكحّالة منذ يومين، كان تصريح رئيس حزب “الكتائب” سامي الجميل لافتا ، اذ قال: “لبنان في موقع خطر، وقد وصلنا إلى نقطة اللاعودة، ولسنا مستعدين للتعايش مع ميليشيات مسلّحة في لبنان، وهذا ستتبعه خطوات عملية واجتماعات للمعارضة وقرارات ، وبالتالي نطلب من المعارضة الانتقال من الأسلوب التقليدي في العمل السياسي إلى موقع آخر وجودي كياني أساسي، فلبنان مطلوب منه أن يأخذ قرارات استثنائية”. هذا الكلام تركّ الباب مفتوحًا أمام تحليلات وتفسيرات. فهل تسعى المعارضة لجبهة سياسية؟ أو أن الأمور ذاهبة نحو مواجهات أمنية؟
في الواقع ،هناك مخاوف من أن يُترجم التوتر الإقليمي المُستحدث على الأرض اللبنانية كما حدث في مخيّم عين الحلوة، لكن هذه المرّة من باب فتنة أهّلية بين شركاء الوطن، قدّ تتحوّل إلى مواجهات مُسلّحة على الأرض في عدّة مناطق. إلا أن مصادر مُطلعة تقول لـ “الديار” أن المواجهة التي تحدّث عنها الجميّل هي سياسية، وأن الحديث عن جرّ الحزب إلى صراع داخلي غير منطقي، بحكم أن الأخير خياراته معروفة كما وان وجهته معروفة ايضا اي “إسرائيل”، أضف إلى ذلك أن ميزان القوى على الأرض ليس لصالح المعارضة و”التغييرين”.
وبالتالي تقول المصادر أنه حتى لو كان هناك أحداث أمنية، فإن الحزب لن ينجّر وسيترك الأمر للقوى الأمنية والجيش. من هذا المنُطلق، تؤكّد المصادر أن المواجهة هي سياسية بإمتياز ، حيث سيكون هناك مُحاولة (بدأت منذ الحادثة) لتشكيل جبهة سياسية تجمع قوى المعارضة و”التغييريين”، هدفها الإستعانة بالخارج أكثر منه تشكيل جبهة داخلية ، نظرًا إلى توازن القوى في المجلس النيابي.
التدقيق الجنائي
على صعيد آخر، من المتوقّع أن تستمر تداعيات تقرير التقدير الجنائي الذي قامت به شركة “ألفاريز آند مارسال” لوقت طويل. فالتقرير الذي أظهر الكثير من المُخالفات المحاسبية في حسابات المصرف المركزي، شكّل بحسب مصدر قانوني، إدانة واضحة للدولة. ففي هذا التقرير ورد جدول يُظهر أن الدولة اللبنانية ومنذ العام 2010 إلى العام 2021، إقترضت من المصرف المركزي ما مجموعه 47.8 مليار دولار أميركي (بالعملة الصعبة)، وهي الفجوة الموجودة في حسابات المصرف المركزي، بحسب التقرير.
ويُضيف المصدر القانوني، ان شركة كهرباء لبنان أخذت من المصرف المركزي عملًا بالقوانين ما مجموعه 19 مليار دولار أميركي ، بالإضافة إلى 5.6 مليار دولار أميركي لوزارة الطاقة والمياه، أضف إلى ذلك ما يُقارب الـ 24 مليار دولار أميركي للقطاع العام! وسأل المصدر هل للحكومة أن تقول للرأي العام أين صُرفت هذه الأموال؟
ويُضيف المصدر القانوني أن المسار الطبيعي هو نحو تدقيق جنائي في حسابات الدولة ، لمعرفة أين ذهبت هذه الأموال وأين صرفت، خصوصًا مع الفضائح التي تطال 27 مليار دولار أميركي مجهولة المصير في حسابات الدولة اللبنانية. إلا أن هذا المسار لن يُبصر النور بحسب المصدر ، لأن الجميع يده مُدّت على المال العام، وهو ما سيعني مُحاولة حصر المسؤولية بشخص رياض سلامة من دون تحمّل الآخرين مسؤولياتهم في الإنفاق غير المبرّر. وإذ إعتبر المصدر أن التقرير سيذهب إلى “مقبرة” اللجان النيابية، أشار إلى أنه من المستحيل على السلطة الحالية أن تُحاسب نفسها بنفسها.
أسابيع صعبة مُنتظرة
تُعتير الأسابيع القادمة أسابيع حاسمة بالنسبة للوضع في لبنان، سواء على الصعيد السياسي او الأمني او المالي أو النقدي. فعدم إنتخاب رئيس للجمهورية في شهر أيلول، سيؤدّي إلى تفاقم الضغوطات الدولية على لبنان (خصوصًا الأميركية منها)، وهو ما سينعكس على كل المستويات الإجتماعية بحسب مصدر وزاري. ويُضيف أن فرض عقوبات على رياض سلامة أرسل رسائل صارمة بإتجاه الطبقة السياسية الحالية وبإتجاه الطبقة السياسية البديلة التي يتم تحضيرها للمرحلة المُقبلة.
وأشار المصدر إلى أن إستعجال طرح تقرير التدقيق الجنائي على الوزراء والرأي العام، هو نتيجة فرض العقوبات الأميركية على سلامة، والتي أرعبت أكثر من سياسي لبنان.
إذًا مصير لبنان مُعلّق على أسابيع لا تُظهر المؤشرات أنها ستنتهي بتوافق لبناني – لبناني ، وهو ما سيترك تداعياته المحلّية بدون أدنى شك. إلا أن المخاوف الأساسية من هذه التداعيات، تبقى من ردود فعل محلّية تُترجم بتوترات أمنية غير محسوبة، هدفها شدّ العصب المذهبي وضمان بقاء المسؤولين في مراكز القرار.