كتبت صحيفة “الأخبار”: تهيمن التساؤلات حول إمكانية نشوب حرب شاملة مع حزب الله على الأجواء في كيان العدو وفي لبنان أيضاً، وتتداخل فيها الشائعات مع الحملات الموجّهة في إطار الحرب النفسية التي يشنّها العدو وحلفاؤه، إضافة الى تعدد التقديرات والآراء التي تزيد الأمور ضبابية. وفي كل الأحوال، تستند هذه التساؤلات الى تطورات واقعية فرضت نفسها على جدول اهتمامات المسؤولين الأميركيين والإسرائيليين.تتعدد المداخل لمحاولة الإجابة عن سؤال الحرب، وتتعدد معها العوامل المؤثرة في هذا الاتجاه أو ذاك. ويحضر في هذا السياق، تقدير المصالح الذاتية والسياسية لرئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو، والتحولات التي أحدثها «طوفان الأقصى» في العقل الاستراتيجي الإسرائيلي. كما يحضر الموقف الأميركي، والإنهاك الذي أصيب به الجيش بعد حرب مستمرة منذ نحو تسعة أشهر، إضافة الى المخاوف من تداعيات هذه الحرب على مختلف الساحات الإسرائيلية واللبنانية والإقليمية. وضمن هذا الإطار، تحضر كذلك الخيارات والبدائل المطروحة وإمكانية التوصل الى صيغ ما تحول دون الانفجار.
نتيجة ذلك، حلّت جبهة لبنان مع فلسطين المحتلة في رأس أجندة المحادثات التي أجراها وزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت في واشنطن، حيث أكد كل المسؤولين الأميركيين على ضرورة السعي لتجنب الحرب بين إسرائيل وحزب الله. وهذه الأولوية، تعود بحسب وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، إلى أن الحرب ستكون كارثية للبنان ومدمرة لإسرائيل، محذّراً في الوقت نفسه من الانجرار الى حرب إقليمية ستكون لها تداعيات مُدمرة على الشرق الأوسط. وكرر المضمون نفسه رئيس أركان الجيوش الأميركية تشارلز براون.
خصوصية هذه المواقف أنها تمثل رأي المؤسسة العسكرية الأميركية، وتكشف خلفية موقف الإدارة الأميركية في التشديد على أولوية الحل السياسي في هذه المرحلة. كما تنطوي في الوقت نفسه على إقرار أميركي بالمفعول الردعي لحزب الله وجبهة المقاومة، من بوابة الأثمان الكبيرة التي ستتكبّدها إسرائيل والمصالح الأميركية في المنطقة، مع جدوى مشكوك بها على الأقل. عدا عمّا سيترتّب عن استدراج الولايات المتحدة إلى مواجهة كبرى وأثرها على مصالحها العالمية في مواجهة الصين وروسيا.
ما تقدّم يفسّر أيضاً مواقف المسؤولين الإسرائيليين حول أولوية الحل السياسي في هذه المرحلة على الأقل. إذ أوضح نتنياهو في مقابلة على القناة 14 أنه سيعمل على إعادة المستوطنين بالاتفاق، وإلّا بوسيلة أخرى. والأمر نفسه كرره مستشاره للأمن القومي تساحي هنغبي الذي تحدَّث عن مساعٍ سياسية قد تستغرق أسابيع في هذا الاتجاه. وصدر على لسان غالانت في واشنطن ما يقرب من ذلك أيضاً.
من الواضح أن مجمل هذه المواقف تؤكد أن الطرفين الأميركي والإسرائيلي سيعمدان في هذه المرحلة إلى تنشيط المسار السياسي في محاولة لتجنب التداعيات التدميرية لأيّ حرب شاملة مع حزب الله. وتكشف أيضاً عن حقيقة مهمة مفادها أنه الى جانب العوامل التي تدفع نحو المسار الحربي، هناك عوامل كابحة لا تقلّ أهمية.
في ما يتعلق بفرضية التدخل العسكري الأميركي المباشر للدفاع عن العمق الاستراتيجي الإسرائيلي لما يمتلكه الجيش الأميركي من قدرات نوعية وكمية تتجاوز ما لدى العدو الإسرائيلي، فقد أقرّ رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة الجنرال تشارلز براون بأن الولايات المتحدة ستجد صعوبة في مساعدة إسرائيل في الدفاع عن نفسها في حال نشوب صراع واسع مع حزب الله، وأن قدرتها على المساعدة ستكون أقلّ مما قدّمته في أثناء اعتراض الهجوم الذي شنته إيران بالصواريخ والطائرات المسيّرة على إسرائيل في نيسان الماضي. وبرر براون ذلك، بأنه «استناداً إلى مكان وجود قواتنا، وقصر المدى بين لبنان وإسرائيل، من الصعب علينا أن نكون قادرين على الدعم بالطريقة نفسها التي فعلناها في نيسان».
يعني ذلك، أيضاً، أن ما تزخر به وسائل التواصل ووسائل الإعلام من تحليلات عن أن الحرب وشيكة أو حتمية لا يستند الى أي مبرّر موضوعي، في هذه المرحلة، حتى في الجانب الإسرائيلي. ولكن هنا يجب التمييز بين حرب من دون ضوابط وسقوف، وبين تصعيد عسكري مضبوط، حيث تختلف التقديرات إزاء أرجحية أو استبعاد كل منهما.
مع ذلك، ينبغي تفكيك مفهوم الحل السياسي الذي تتحدث عنه الولايات المتحدة وإسرائيل وتحديد المقصود به. فإن كان يُقصد به إغلاق جبهة لبنان والاستفراد بقطاع غزة، واستمرار المجازر والتدمير بغضّ النظر عن المسمّيات، فإن ذلك يعني أنها محاولة جديدة لتفكيك ارتباط جبهة لبنان عن غزة تحت عنوان الحل السياسي، أو بتعبير آخر تحقيق الهدف الإسرائيلي بوسائل أخرى، بعدما بلغت التطورات مرحلة فاصلة. وبموجب ذلك، يتحول شعار الحل السياسي الى أداة تهدف الى الفصل بين الجبهتين، وإلقاء مسؤولية أيّ تصعيد عسكري على المقاومة.
أما في حال كانت التهدئة جزءاً من اتفاق يشمل قطاع غزة، فعندها يمكن الحديث عن فرص واقعية لتحقيق هذه النتيجة، وهو ما تطمح إليه المقاومة في لبنان، مع التأكيد أن هناك ثوابت أيضاً تتصل بالساحة اللبنانية في أكثر من عنوان وهي قضايا موضع تجاذب وبحث أيضاً.
رغم القيود التي يعترف بها الأميركي أمام خيار الحرب، إلا أن إسرائيل والولايات المتحدة غير مكبوحتين بشكل مطلق. ولكن من المستبعد، حتى الآن، نشوب حرب كبرى. ولا ينسحب هذا الاستبعاد بالضرورة على إمكانية حدوث تصعيد عسكري مضبوط وإن بسقوف متحركة، وسبق أن حدثت مستويات منه في مراحل سابقة. وهو خيار قد تلجأ إليه إسرائيل بنسبة أو بأخرى، ومعها واشنطن، في سياق المباحثات السياسية التي تجرى مع المسؤولين الرسميين اللبنانيين.
يبقى أن المرحلة التي تشهدها ساحتا غزة ولبنان بلغت مرحلة مفصلية، ما يفرض متابعة المتغيرات التي قد تدفع في هذا الاتجاه أو ذاك، وخصوصاً أن الساحات متداخلة، وخيارات العدو ضيقة، وهو بات مُلزماً بالتحرك بين بدائل متعذرة وأخرى مرفوضة. وتبقى بينهما بدائل مكلفة بدرجات متفاوتة، مع علامات استفهام حول جدوى كل من هذه الخيارات. أمام هذا الواقع، أصبحت معادلات القوة أكثر وضوحاً، وتحديداً بعد الفيديوات التي نشرها الإعلام الحربي في المقاومة الإسلامية، والتي أظهرت حجم المسح المعلوماتي الذي أجرته المقاومة للعمق الإسرائيلي ومنشآته الاستراتيجية.