كتبت صحيفة “الجمهورية”: يبدو المشهد اللبناني وكأنّه قد مُنح استراحة ممّا شهده في الآونة الأخيرة من المَوجات المكثفة من التسريبات الإعلامية والسياسية من مصادر داخلية وخارجية، التي عبثت بأعصاب البلد ووضعته أمام احتمالات ثقيلة وسيناريوهات تصعيدية خطيرة. وانتقل إلى حافة الترقّب لما قد تشهده الأيام القليلة المقبلة من مجريات وتطوّرات، من شأنها أن تحدّد مساره؛ إمّا في اتجاه العودة إلى واقع مضطرب والتخبّط في التقلّبات الحادة سياسياً وأمنياً وما قد يصاحبها من تجاذبات وانقسامات داخلية، وإمّا في الإتجاه المعاكس للمناخ التصعيدي، حيث يبرز التعويل الرسمي اللبناني على أن يؤسّس الإجتماع الثاني للجنة «الميكيانيزم» بعد تطعيمها بمدنيِّين المقرَّر في 19 من الشهر الجاري، لمرحلة جديدة تُشكِّل بداية كسر فعلي للمناخ الحربي وفاتحة لمسار معاكس لاحتمالات التصعيد.
تراجع الاعتداءات… ولكن؟
على المستوى الميداني، يبدو جلياً التراجع الملحوظ في العمليات العسكرية الإسرائيلية ضدّ المناطق اللبنانية عمّا كانت عليه في الأيام الأخيرة، إلّا أنّ القراءات تتفق على أنّه أمر لا يبدو ثابتاً، إذ ليس ما يضمَن عدم تجدُّدها بوتيرة عنيفة، طالما لا يوجد رادع جدّي للإعتداءات الإسرائيلية حتى الآن. وإذا كان ثمة من ردّ هذا التراجع إلى عامل الطقس والمناخ الشتوي الذي يصعّب مهام «المسيّرات القناصة»، إلّا أنّ مصدراً سياسياً مسؤولاً أكّد لـ«الجمهورية»، وجود ما سمّاها همسات ديبلوماسية تجزم برفض أميركي لتصاعد الأمور نحو تدهور يُخشى أن يتدحرج بسرعة ككرة نار، مقرون بضغط في هذا الاتجاه، لتحقيق أمرَين:
الأول، إضفاء فعالية ملحوظة لمهمّة لجنة «الميكانيزم» بصورتها الجديدة التي رسمتها واشنطن بإشراك مدنيِّين فيها.
الثاني، توفير معبر آمن للجنة في مهمّتها الجديدة بعيداً من التوتير المعرقل لها، ذلك أنّ أي توتير قد يحصل على شاكلة الإعتداءات الإسرائيلية المكثفة التي استهدفت عدداً من القرى والبلدات اللبنانية غداة الإجتماع الأول للجنة بتشكيلتها الجديدة، لا يخدم تلك المهمّة، بوصفها فرصة لما يصفه الأميركيّون بـ»حوار مدني مستدام إلى جانب الحوار العسكري، تهدف إلى تحقيق الأمن والإستقرار والسلام لجميع المجتمعات المتضرّرة من النزاع»، بل يُصعّبها، ويصبّ في الوقت عينه في مصلحة المشكّكين باللجنة، ويزيد من تصلّب «حزب الله».
فرصة لبلورة حلول
وفي سياق التهدئة والنصح باعتماد مسار الحلول السياسية، والتعبير عن دعم فرنسا الكلي لقرار الحكومة بحصرية السلاح وتحقيق الهدف الأساس فيها المتمثل بسحب سلاح «حزب الله»، باعتبار ذلك يُشكِّل إطفاء لفتيل أي تصعيد وعمليات حربية، تندرج زيارة الموفد الفرنسي جان إيف لودريان إلى بيروت، التي استهلّها بلقاء رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون الذي يغادر في زيارة رسمية إلى سلطنة عُمان، على أن يتابع الموفد الفرنسي لقاءاته اليوم، فيلتقي رئيس مجلس النواب نبيه بري عند الحادية عشرة قبل الظهر.
وخلال اللقاء مع لودريان، أبلغه الرئيس عون أنّ «لبنان يُرحِّب بأي دور فرنسي في إطار لجنة «الميكانيزم»، يساهم في تحقيق الأهداف الأساسية للمفاوضات التي تجري في إطار هذه اللجنة، وتهدف إلى وقف الأعمال العدائية، والإنسحاب الإسرائيلي من الأراضي الجنوبية التي تحتلّها، وإطلاق الأسرى اللبنانيِّين، وتُصحِّح النقاط العالقة على الخط الأزرق».
وأشار إلى أنّ «الإجتماع المقبل للجنة، يُفترَض أن يباشر البحث في النقاط المطروحة، وفق الأولويات المحدّدة»، مضيفاً: «موقفنا من تحريك اجتماعات «الميكانيزم»، يعكس رغبتنا في التفاوض لإيجاد حلول ديبلوماسية، لأنّنا لا نريد مطلقاً اعتماد لغة الحرب، ولعلّ ردود الفعل الإيجابية التي تلت موقف لبنان من الدول الشقيقة والصديقة، تعني التأييد لهذه الخطوة، وتُخفِّف حتماً الضغط الذي كان سائداً مع استمرار الإعتداءات ضدّ لبنان».
الجيش يقوم بدوره كاملاً
وجدّد الرئيس عون أمام لودريان، رفضه للإتهامات التي تدّعي عدم قيام الجيش اللبناني بدوره كاملاً في جنوب الليطاني، مؤكّداً أنّ «هذه الإدّعاءات لا أساس لها من الصحة، وقول مرفوض جملة وتفصيلاً، لأنّ الجيش منذ انتشاره قبل سنة من الآن، نفّذ مهمّته كاملة في كل المناطق التي حلّ فيها وسقط له 12 شهيداً».
ولفت إلى أنّ «القوات الإسرائيلية تواصل تدمير المنازل والممتلكات، ولا تفتح في المجال أمام الجيش و«اليونيفيل» ولجنة «الميكانيزم» للتأكّد من خلوّها من العناصر المسلّحة»، مؤكّداً على «التنسيق الكامل القائم بين الجيش و«اليونيفيل»، لافتاً إلى ضرورة توفير العتاد والتجهيزات الضرورية ليتمكن الجيش من تنفيذ المهام الموكلة إليه، التي لا تقتصر فقط على جنوب الليطاني، بل تشمل كل الأراضي اللبنانية».
وأعرب عن «أمله في التوصّل إلى تحديد موعد للمؤتمر المقترح لدعم الجيش والقوات المسلحة من الدول المانحة، وذلك خلال الاجتماع المرتقب في باريس في 18 كانون الأول الجاري بين ممثلين عن فرنسا والولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية».
وفي مجال آخر، أكّد الرئيس عون أنّه «ورئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس مجلس الوزراء نواف سلام، مصمِّمون على إجراء الانتخابات النيابية في موعدها الدستوري، وأنّ وزارة الداخلية والبلديات تُنجِز التحضيرات اللازمة لذلك، ومسألة تعديل القانون المعمول به حالياً أو عدم تعديله تعود لمجلس النواب وليس للسلطة التنفيذية».
إيجابيات في الأفق
والواضح دولياً، أنّ الإجتماع الثاني للجنة «الميكانيزم» بصورتها الجديدة، يُقارَب دولياً على أنّه يُشكّل تأسيساً لبلورة حلول، وهو ما أكّد عليه مصدر ديبلوماسي غربي لـ«الجمهورية»، بضرورة تعزيز الفرصة المتاحة عبر «الميكانيزم» لفتح مسار ترسيخ الأمن والاستقرار بين لبنان وإسرائيل، مشيراً إلى أنّ «الولايات المتحدة الأميركية جادة في الدفع بهذا المسار لتحقيق هذه الغاية بما يحقق مصلحة جميع الأطراف».
وأشار الديبلوماسي عينه، إلى أنّه «متفائل بمرحلة إيجابيات تلوح في الأفق»، مضيفاً: «المرحلة ليست مظلمة بالقدر الذي يُروَّج له، صحيح أنّ الوضع دقيق إنّما هناك أمل في انتقال الأمور إلى الأفضل، فيما لو استُغِلّت الفرصة المؤاتية والمتاحة عبر لجنة «الميكانيزم»، لتبديد هواجس الجميع، وذلك لا يمكن أن يتحقق سوى بحوار جدّي وموثوق بين مختلف الأطراف».
ويبرز في هذا السياق، ما ألمح إليه السفير الأميركي في لبنان ميشال عيسى بعد زيارته وزارة الخارجية أمس، بقوله: «لم ننتظرالسلام من الإجتماع الأول، فعلى الأطراف أن تلتقي ومن ثم يُقدّمون على الطاولة ما يمتلكون»، كاشفاً «أنّ اتصالات تجري لإتمام زيارة قائد الجيش العماد رودولف هيكل إلى واشنطن، جازماً بأنّ هذه الزيارة ستتمّ».
انقشاع الغيمة
وفيما تبدو غيمة تعيين السفير السابق سيمون كرم كرئيس مدني لوفد لبنان في لجنة «الميكانيزم» قد انقشعت، وسُجِّل تراجع ملحوظ لحدّة التجاذبات والالتباسات التي رافقته، أكّد مصدر رفيع لـ«الجمهورية» أنّ «هذا الأمر أصبح خلفنا، وليس المهم هو الشخص، بل الهدف المرجو بتحقيق الموقف الرسمي والثوابت التي تؤكّد عليها المرجعيات السياسية والرسمية لجهة الإلتزام الكلّي باتفاق وقف الأعمال العدائية والقرار 1701، ووقف الإعتداءات الإسرائيلية، وتحقيق انسحاب الجيش الإسرائيلي من الأراضي اللبنانية المحتلة، ولاسيما من النقاط الخمس أو الست أو السبع، والإفراج عن الأسرى اللبنانيِّين، وإتاحة المجال أمام اللبنانيِّين في القرى والبلدات الحدودية للعودة إليها وإعادة إعمار بيوتهم».
وإذ شدّد المصدر الرفيع على رفض لبنان القاطع القبول بشكل من الأشكال بأي قواعد أو إجراءات يُريد الإسرائيلي فرضها في المنطقة الجنوبية، لفت إلى مسؤولية الحكومة اللبنانية بأن تبادر إلى لعب الدور الوطني المطلوب منها بعيداً من أي ذرائع أو اعتبارات.
ورداً على سؤال عن موقف «حزب الله»، أوضح: «على رغم من الكلام العالي النبرة الصادر عن أمينه العام الشيخ نعيم قاسم ضدّ إشراك مدني في لجنة «الميكانيزم»، إلّا أنّ الحزب لم يقم بأيّ إجراء أو خطوة ممانعة لذلك، إذ بدا وكأنّه قد سلّم بالأمر الواقع، مع ترك الكرة في ملعب الحكومة لكي لا تقع في الخطأ القاتل».
دعم أوروبي
وفي سياق متصل، كان لافتاً في الساعات الماضية ما كُشف أمس عن وثيقة للاتحاد الأوروبي، تُفيد بأنّ الاتحاد يدرس عدّة خيارات لتعزيز قدرات قوى الأمن الداخلي في لبنان، بهدف تخفيف العبء عن الجيش اللبناني، حتى يتسنّى له تركيز الجهود على نزع سلاح «حزب الله». ووفق الوثيقة، فإنّ «المشاورات ستتواصل مع السلطات اللبنانية، وإنّ بعثة استطلاع ستتمّ في أوائل عام 2026 بشأن المساعدة الجديدة المحتملة لقوى الأمن الداخلي في البلاد».
تضيف الوثيقة «أنّ جهود الاتحاد الأوروبي يمكن أن تُركِّز على المَشوَرة والتدريب وبناء القدرات»، مشيرةً إلى أنّ التكتل لن يتولّى مهام قوة الأمم المتحدة الموقتة في لبنان (اليونيفيل)، التي من المقرّر أن ينتهي تفويضها في نهاية عام 2026 حيث يُتوقع أن تبدأ عملية تستمر عاماً لخفض حجمها تدريجياً والإنسحاب من لبنان، إذ «يمكن للإتحاد الأوروبي المساهمة في النقل التدريجي لمهام الجيش اللبناني إلى قوى الأمن الداخلي، ممّا يسمح للجيش بالتركيز على مهامه الدفاعية الأساسية».
البطريرك في بعبدا
إلى ذلك، زار البطريرك الماروني مار بشارة الراعي أمس، رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون في القصر الجمهوري في بعبدا، ودعاه إلى المشاركة في قداس عيد الميلاد. وهنّأه بزيارة البابا لاوون الرابع عشر إلى لبنان ونتائجها، وعلى تعيين السفير السابق سيمون كرم في لجنة «الميكانيزم». وطمأن أنّ كل كلام عن هوّة بين بكركي ورئاسة الجمهورية، غير صحيح.
ورداً على سؤال، استبعد الراعي «أن نشهد حرباً جديدة»، مضيفاً: «من الجيّد أن تحصل المفاوضات، لأنّها على الأقل تبقى أفضل من الحرب، وهذا نقرأه على أنّه من نتائج قداسة البابا، فنحن في زمن سلام وعلينا أن نعيشه، وهو ما يُشكِّل فرحة للبنانيِّين، فعهد الحرب والنزاعات والصدامات قد ولّى، وبدأ عهد الجلوس والتفاوض معاً وهو أمر مدعوم دولياً».
وعن موقف «حزب الله» الذي لا يزال رافضاً للتفاوض وتسليم السلاح، أمَلَ الراعي: «أن يستوعب الجميع موقف رئيس الجمهورية والمفاوضات، والأخذ في الإعتبار أنّ المفاوضات لا تعني أنّنا ذاهبون إلى اتفاق مع إسرائيل، بل هي أولية، ولن يبقى أحد جانباً، ولا أحد يمكنه أن يضع جانباً أياً كان. هم يقولون إنّهم لا يرغبون في تسليم كل شيء إلى إسرائيل، وهذا أصلاً أمر غير وارد، والمفاوضات أولية ولهم دورهم والرئيس يستمع إليهم، وأعتقد أنّ لا خَوف من هذا الأمر، فهم ليسوا على الهامش، ومن حقهم التعبير عن رأيهم، وحق رؤساء الجمهورية ومجلسَي النواب والوزراء التأكّد من هذا الأمر ووضعهم في الأجواء. أعتقد أنّ جو السلام هو المفضّل وهم سيرتاحون إلى هذا الجو».
خليل يردّ
إلى ذلك، أكّد المعاون السياسي لرئيس مجلس النواب النائب علي حسن خليل، أنّ إجراء الانتخابات النيابية في موعدها «مسألة ثابتة»، مشيراً إلى أنّ «مَن يُريد تعطيل الانتخابات هو مَن يحاول ربطها بشروط جديدة». وأضاف أنّ ما يجري حالياً «ليس تصويباً تقنياً بحتاً، بل محاولة لاستغلال لحظة سياسية».
وفي سياق الردّ على مواقف رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، أكّد خليل: «نذكّر جعجع بأنّ كتلة القوات هي التي عطّلت اقتراحاً لتعديل قانون الانتخابات. ونذكّر جعجع بأنّ صلاحية رئيس المجلس لا تقبل المسايرة. مَن يُريد الانتخابات حقاً، فليتوقف عن استخدامها كسلاح».
وزارة الإعلام اللبنانية