في مكتبه المطل على الخليج من رأس الناقورة حتى حيفا، ثبّت قائد اليونيفيل مايكل بيري أربع ساعات كبيرة على الحائط، أولاها لتوقيت نيويورك حيث مجلس الأمن الدولي، وثانيها لدلغاني مسقط رأسه في إيرلندا، وثالثها لتوقيت قبائل الزولو في أفريقيا، ورابعها لتوقيت الناقورة التي تستوعبهم جميعاً. يخشى البعض أن يضيع الجنرال بين مواقيت العالم حتى يكاد ينسى أن مهمته وقواته وقرارات مجلس الأمن تمشي على توقيت الجنوبيين.
في جنوب الليطاني، سُجلت تحولات سلبية متتالية منذ تولي بيري منصبه في تموز الفائت. من دون سبب مباشر، قطع التواصل مع الجنوبيين فلم يقم بزيارات بروتوكولية إلى فعاليات محلية كما فعل أسلافه. جفاء أعقبته معلومات عن خطة لخفض عدد الموظفين المدنيين واللبنانيين. منذ مطلع العام الجاري، سجلت زيارة أربعة وفود من الأمم المتحدة لإجراء تقييم ودراسات في إطار المراجعة الإستراتيجية للمهمة الدولية (كانت تحصل دورياً كل عام أو عامين). و ما زاد من التوتر، استفزاز الأهالي الدائم من بعض أنشطة دوريات وتحركات اليونيفيل في بلداتهم وممتلكاتهم، ما أدى إلى ما يشبه القطيعة من بعض البلديات. على المستوى الأهلي، كان مستغرباً تنفيذ تدريب مشترك مع الجيش اللبناني، في مرجعيون، على «مكافحة الشغب والإضطرابات من أجل تعزيز الثقة المتبادلة بين اليونيفيل والجيش وتحسين مستوى التفاهم» كما جاء في البيان الإعلامي الذي وزعته اليونيفيل. الغضب الشعبي تفلت في بليدا قبل أيام عندما أزال الأهالي نقاط المراقبة التابعة للكتيبة النيبالية التي تراقب حركة المزارعين نحو حقول الزيتون المحاذية للخط الزرق. رغم ذلك كله، يبدو أن انعطافة بيري بدأت. يدعونا ممازحاً لأن نكون لطفاء معه. يؤكد أن أجندته في الفترة المقبلة مليئة بالأنشطة واللقاءات الإجتماعية
■ لماذا ابتعدت عن التواصل مع الفاعليات والأهالي منذ توليك منصبك في تموز 2016، حتى ساد انطباع بأنك أتيت لتنفيذ سياسة سلبية؟
ــــ لا أبداً. أملك تاريخاً طويلاً مع لبنان. خدمت هنا مرات متعددة ضمن الوحدة الإيرلندية المشاركة في قوات الطوارئ الدولية في جنوب لبنان في 1994 و1995 و1989.
من هنا، لديّ فهم جيد للبنان وسكان الجنوب خصوصاً، وللأطراف الموجودة. لكنني أحاول أن أفهم أكثر وأتعرف بتعمق الى الثقافة والعادات. على صعيد التواصل، أجريت لقاءين عامين منفصلين مع الفاعليات والبلديات والمخاتير في القطاعين الشرقي والغربي منذ وصولي. كما التقيت زعماء روحيين وقادة الأجهزة الأمنية ومحافظَي الجنوب والنبطية. وشاركت في لقاء في قانا لمناسبة عيد الميلاد مع السيدة رندة بري ورعيت مساهمة اليونيفيل في افتتاح مركز للأمن العام في شبعا. أرغب في أن أكون منفتحاً ومتواصلاً أكثر مع الجميع، وأن ألبي الدعوات التي أتلقاها من الفاعليات والبلديات، ولا سيما أن المائدة الجنوبية لذيذة. لكن، في الفترة الماضية، كنت مشغولاً بالمراجعة الاستراتيجية لليونيفيل، وكيف أدافع عن القوات وعديدها والميزانية المرصودة لها وللمشاريع الخدماتية والإنسانية. هذه الفترة المرهقة انتهت. من الآن وصاعداً، سأبدأ بالتواصل، وقد وضعت برنامج زيارات. وبما أن الوحدة الإيرلندية كانت مستقرة في تبنين، لديّ علاقة خاصة مع ميتم تبنين وصداقات شخصية مع بعض أبناء المنطقة من آل سعد وفواز.
■ كيف تقوّم عمل اليونيفيل في ظل التوتر الحاصل في المحيط، ولا سيما في سوريا؟
ــــ ندرك أنها مرحلة تحديات كبيرة. أدرك أن لنا دوراً في الحفاظ على الأمن والاستقرار لئلا يقع أي حادث بتأثير مما يحصل حولنا في المنطقة. نعمل مع الأمن العام والجيش اللبناني لضمان بقاء جنوب لبنان هادئاً كما كان منذ عام 2006. مرور عشر سنوات من دون وقوع أي نزاع أمر مهم جداً. لذلك، جهودنا منصبّة لتنفيذ ولايتنا بحسب القرار 1701، والأهم ضمان وقف إطلاق النار وألا يستخدم أحد جنوب لبنان للقيام بأعمال عدائية تؤدي الى نشوب نزاعات. بحسب اتصالاتي مع الأطراف كافة، يتوافق الجميع على الرغبة بعدم نشوب نزاع وتوتر. في هذا الإطار، فإن اللقاء الثلاثي الشهري أمر مهم لمنع تحوّل أي سوء فهم أو عمل غير محسوب أو حادث على الخط الأزرق إلى نزاع كبير.
تتكرر الإشكالات بين الأهالي وبعض وحدات اليونيفيل بسبب دخول دورياتها إلى الأحياء السكنية والأملاك الخاصة من دون مرافقة الجيش وقيام الجنود الدوليين بالتقاط الصور.
ــــ واجب اليونيفيل مراقبة الخط الأزرق لأن كل النزاعات تنشأ على هذا الخط وتبدأ منه كما حصل عام 2006. لذلك يجب أن نكون في الوسط بين الأطراف لكي ننزع فتيل التوتر. بالنسبة إلى الأهالي، نحن نحترم الأملاك الخاصة وهذا في صلب عملنا، كما نشدد على العمل مع الجيش اللبناني. لكن الجيش حالياً يواجه تحديات، وبالأخص في الشمال وفي عرسال لإبقاء الوضع تحت السيطرة، ولا يرافقنا في كل تحركاتنا. ننفذ يومياً حوالى 400 تحرك بين دوريات وأنشطة. الجيش يرافقنا في نسبة 10 في المئة منها. في لقائي الأخير مع وزير الدفاع يعقوب الصراف، تناقشنا في هذه الأمور وشددنا على ضرورة العمل مع الجيش وأن يكون شريكنا الاستراتيجي. نحن والجيش نحافظ على أمن الخط الأزرق لكي لا يحدث أمر ما يؤدي إلى ما هو أكبر. لكن ميدانياً، على مستوى نطاق عملنا، فإن الطرقات في البلدات صغيرة وآليات اليونيفيل كثيرة وكبيرة الحجم، ما قد يتسبب بانزعاج للمواطنين. نحاول أن نخفف من وطأة الضغط اليومي للدوريات. وأعطيت توجيهات صارمة للجنود باحترام خصوصية الأهالي وألا يلتقطوا الصور التي يلتقطونها في الأساس لغرض سياحي. نحاول أن نقوم بكل شيء لتستمر العلاقة الجيدة مع الجنوبيين، وهي جيدة في الأساس. في لقاءاتي مع الجنوبيين والبلديات والمخاتير، الكل يشدد على العلاقة الجيدة.
■ ما صحة أن اليونيفيل تبلغت من العدو الإسرائيلي نيته شن حرب على لبنان في ظل التحصينات التي يقوم بها على الحدود؟
ــــ هذه معلومات خاطئة. أتلقى تأكيدات من الجميع بأنهم يريدون السلام ويحترمون الخط الأزرق. التحصينات التي يقوم بها الإسرائيليون هي أعمال دفاعية وليست هجومية؛ دفاعية بمعنى تعزيز أمنهم.
وهم يقومون بها داخل أراضيهم، مثلما يحق للبنان أن يجري تحصينات مماثلة داخل أراضيه. في حادثة ميس الجبل الأخيرة (ثبت العدو جهاز تجسس قبالة أراضي البلدة) التي سببت قلقاً لدى السكان، توجه فريق من جهاز الارتباط الى المنطقة وعمل على تهدئة الأمور وقام بجهود كبيرة حتى تم نزعه. فوراً هدأ الوضع. واجبنا أن نلعب دور الحكَم بين الأطراف وأن نكون حياديين تماماً لكي نتمكن من حل الأمور. نحن والمنسقة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في لبنان سيغريد كاغ، هدفنا الأساسي بناء الثقة بين الأطراف والتوصل إلى وقف إطلاق نار دائم ودعم الجيش اللبناني ومساعدة الوزارات حتى تبسط سيطرتها في الجنوب.
فور اختيار جنرال إيرلندي لقيادة اليونيفيل، تشاءم بعض الجنوبيين، لأنه إبان الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، كان مواطنكم الجنرال وليم كالاهان في منصبكم هذا.
ــــ (ضاحكاً) من المؤكد لن يتكرر الاجتياح. أخيراً، ساد انطباع بأن اليونيفيل غيرت توجهاتها واتخذت مساراً صارماً تجاه الجنوبيين. أؤكد أن لا شيء تغير في عملنا. أحياناً يحصل سوء فهم. في النهاية، نحن قوة كبيرة في نطاق ضيق، 40 دولة وعشرة آلاف جندي و800 موظف مدني. بشكل دوري، يحصل تبديل للجنود ويأتي جنود لمدة قصيرة (كل ستة أشهر يحصل تبديل في وحدات الدول المشاركة) يحتاجون إلى وقت كي يتفهموا العادات المحلية. في هذا الصدد، أتوجه للسكان، في حال وقوع أي سوء فهم، للتواصل مع القادة الميدانيين وموظفي الشؤون المدنية والإنسانية لتصحيح الخلل. الجميع يؤيد القرار 1701 ونريد أن تكون العلاقة جيدة جداً مع الأهالي.
■ هل تلقيتم طلباً من العدو لنقل خط إمداداتكم من مرفأ بيروت إلى مرفأ حيفا المحتلة رداً على مواقف الرئيس ميشال عون الداعمة للمقاومة؟
ــــ الشائعات عن نقل الإمدادات الى مرفأ حيفا ليست صحيحة. نحن موجودون في لبنان بناء على طلب الحكومة اللبنانية وقرار مجلس الأمن الدولي. سنبقى كذلك، وخط إمداداتنا سيبقى في لبنان، في ظل التعاون الممتاز من كل الوزارات، ولا سيما وزارة الخارجية. لن نذهب من هنا إلى أي مكان آخر إلى أن يقول لنا لبنان: انتهى دوركم.
■ هل قمت برد فعل تجاه التهديدات الإسرائيلية ضد الرئيس عون؟
ــــ هي خارج عملنا. ما يعنيني الواقع على الأرض.
■ كيف تقوّمون الوضع الأمني في الداخل اللبناني، في ظل التهديدات الإرهابية المستمرة والاشتباكات المتكررة في مخيم عين الحلوة؟
ــــ التهديدات مصدر قلق لليونيفيل وللبنان. أعمل بشكل وثيق مع الأمن العام والجيش لضمان سلامة جنود حفظ السلام، رغم أن المسؤولية الأولى لحمايتهم تقع على عاتق الدولة اللبنانية. لكننا واعون تماماً لما يحصل في عين الحلوة، وخط إمداداتنا من بيروت يمر بمحاذاة المخيم. لدينا فريق أمني يراقب الوضع ونغيّر خطتنا وإجراءاتنا وفقاً للمعلومات الميدانية التي تصلنا، لأن سلامة عناصر اليونيفيل حاجة ماسة عندي، ومن واجبي أيضاً حماية سكان الجنوب.
هل تتلقون تهديدات مباشرة من «داعش» و»النصرة» باستهدافكم؟
ــــ حالياً، ليست هناك معلومات عن تهديدات. لبنان كله يواجه تحديات أمنية كبيرة، ونحن جزء من البلد. قائد الجيش الجديد العماد جوزف عون خدم في جنوب لبنان ويعرف المنطقة جيداً. علينا أن نكون حذرين ونراقب الوضع، ونحن حريصون على أن يحصل لبنان على دعم دولي قوي. حالياً، الوضع مستقر؛ رئيس جمهورية وحكومة جديدان، وقبلهما عشر سنوات من دون نزاع في الجنوب. هدفي أن أبقي الوضع على حاله.
■ هل ستخضع ميزانية اليونيفيل وعدد الموظفين والجنود لأي تعديل بعد المعلومات عن خطة لتقليص النفقات؟
ــــ ننتظر مناقشة المراجعة الاستراتيجية في مجلس الأمن الدولي في 15 آذار الجاري. لا أريد أن أستبق تقرير الأمين العام. لكنني لا أتوقع أي تغيير في عدد الموظفين المدنيين، بل زيادة. المجتمع الدولي يعرف كم أن لبنان بحاجة إلى الدعم، لذا لا أتوقع تغييراً جذرياً. بحسب المراجعة الاستراتيجية، سيخفف عدد الجنود في بعض المناطق ويعزز في مناطق أخرى بحسب الحاجة. لكن في العموم يبقى الوضع على ما هو عليه. لا نسعى إلى أن نكون بديلاً من السلطات المحلية، بل الهدف الدعم بإمكانياتنا من خلال التدريب والمشاريع. في عام 2016، أنفقت الوحدات المشاركة والأمم المتحدة ثلاثة ملايين ونصف مليون دولار على مشاريعها المدنية والإنسانية. وعلى صعيد آخر من الدعم، هناك 580 موظفاً لبنانياً من أصل 800.
■ كيف ترسم نهاية لولايتك قائداً لليونيفيل بعد عام ونصف عام من الآن؟
ــــ طموحي تحقيق السلام. أحب أن أرى الأطراف قادرة على التوصل الى اتفاق سلام. مهمتنا أمن الخط الأزرق، لكن ذلك لا يحل محل العملية السياسية. إنما يوماً ما سيحدث التغيير ويتبدل الوضع الحالي إلى وضع آخر. علينا أن نحاول حل الصعوبات للتوصل الى وقف إطلاق نار دائم. في هذا الإطار، عقدت اليونيفيل حتى الآن 100 اجتماع ثلاثي منذ 2006. من خلالها، استطعنا أن نحل الكثير من المشاكل.
■ لكن تلك الاجتماعات لم توقف الاعتداءات الإسرائيلية اليومية على لبنان براً وبحراً وجواً؟
ــــ (مقاطعاً) لا تسمى اعتداءات. الاجتماعات الثلاثية لا تستطيع حل المشاكل على المستوى الاستراتيجي، لكنها على الأقل تسمح للأطراف بأن تجلس وتناقش، وكل فريق يطرح مشاكله وهواجسه. إذ تمنحهم الاجتماعات منبراً للتناقش. نبحث ترتيبات خاصة لتسوية أزمة بئر شعيب في بليدا والانسحاب الإسرائيلي من الغجر الذي يقرره مجلس الأمن.
آمال خليل
صحيفة الأخبار