حقق ليو فينغاي ثروة من تجارة العاج. وفي فترة من الفترات، كان لديه فقط 25 عاملا في مصنعه لعاج الأفيال في مدينة “هاربين” شمالي الصين.
يشتري فينغاي العاج الخام، ثم يصنع منه المُعلقات وثقالات الورق والتماثيل التي كانت تمتلئ بها الأرفف في متجره، بالإضافة إلى الأنياب المنحوتة التي يفتخر بعرضها في المتجر.
وفي ذروة ازدهار تجارة العاج، كان فينغاي يبيع منتجات مصنوعة من العاج تقدر قيمتها بعدة آلاف من الدولارات.
لكن الصين قررت الآن وضع نهاية لهذه التجارة المربحة والبشعة والدامية في نفس الوقت، وهو ما أثار الارتياح لدى المنظمات المعنية بالدفاع عن البيئة.
لكن فينغاي (48 عاما) يشعر باستياء شديد لهذا القرار، ويقول: “أشعر بالحزن. لا أشعر بالرضا على الإطلاق. هذا التقليد متوارث منذ آلاف السنين، لكنه الآن سينتهي على أيدي جيلنا.”
وأضاف: “أشعر وكأنني مذنب. وفي غضون بضع مئات من السنين (من الآن) سيُنظر إلينا على أننا قد أذنبنا في حق التاريخ“.
في واقع الأمر، قد يعود تاريخ نحت العاج في الصين إلى قرون مضت، لكنه خلال معظم هذه الفترة كان يأخذ شكلا متخصصا من أشكال الفن وقلما كان للصينيين تأثير في التجارة العالمية للعاج.
وطوال القرنين التاسع عشر والعشرين، كانت القوى الاستعمارية الغربية تنفذ عمليات القتل الجماعي للأفيال، ثم تبعها بعد ذلك أصحاب المشاريع من أمريكا الشمالية.
وأدى الطلب الغربي على الحلي، والمجوهرات، ومفاتيح البيانو، وكرات البليارد المصنوعة من العاج إلى خفض أعداد الأفيال في أفريقيا، من أكثر من 20 مليون فيل في عام 1800 لمليونين فقط بحلول عام 1960.
وجاء بعد ذلك فترة الازدهار الاقتصادي في اليابان بعد الحرب، واستمرت عمليات قتل الأفيال خلال فترة السبعينيات والثمانينات من القرن الماضي، بحيث أصبحت الأفيال على حافة الانقراض.
لكن بعد أن فُرض حظر دولي على تجارة عاج الأفيال في عام 1989، تراجعت عمليات قتل الأفيال لفترة وجيزة.
لكن بعد ذلك، حدث تحول كبير في النظام المالي العالمي، والذي كان بمثابة كارثة أخرى في مجال صيد الأفيال، وهذا التحول كان بروز الصين كقوة اقتصادية كبرى.
وبسبب تزايد الثراء، بجانب مزيج من الفساد والرأسمالية القائمة على المحسوبية في الحزب الشيوعي الحاكم في الصين، أصبح العاج مصدرا لإظهار القيمة من خلال التفاخر بالإنجازات ومنح الهدايا المميزة.
وفي غضون بضع سنوات، تحول العاج من شكل من أشكال الفن إلى صناعة، وأصبحت الصين تمثل 70 في المئة من الطلب العالمي على العاج.
ونتيجة لزيادة عمليات الصيد الجائر في هذه الأيام، أصبحت الأفيال تواجه مرة أخرى خطر الإبادة الكاملة، إذ اشارت التقديرات إلى أن أعدادها تقلصت لأقل من نصف مليون فيل في أفريقيا. وقد تختفي الأفيال البرية خلال فترة لا تتجاوز عقد من الزمن.
وإذا كان فينغاي يشعر بالذنب بسبب خسارة فن قديم، فما هو الذنب الأكبر لخسارة نوع من الحيوانات موجود منذ زمن بعيد بسبب وشم العاج الذي يجري إنتاجه بكميات كبيرة، وفي الغالب باستخدام آلات النحت، ويُطبع على غالبية المنتجات التي تُباع في الصين اليوم؟
“تغيير قواعد اللعبة“
يغلق نصف مصانع ومتاجر العاج المعتمدة من الحكومة الصينية أبوابها للأبد.
وسيزور فريق يمثل اتفاقية التجارة الدولية في الأنواع المهددة بالانقراض التابعة للأمم المتحدة هذه المصانع، ليكون شاهدا على إغلاقها.
وستختفي التجارة الشرعية للعاج في الصين تماما بنهاية هذا العام، عن إغلاق إجمالي 34 مصنعا و138 متجرا.
ووصف المدافعون عن حقوق البيئة هذا القرار، الذي يمثل بادرة رمزية للغاية، بأنه “تغيير في قواعد اللعبة”. وأشاد الأمير ويليام، نجل ولي عهد بريطانيا، الذي يُعد من أبرز الأصوات المعارضة بقوة لتجارة العاج، بقرار الحكومة الصينية علنا ووصفه بأنه “تعهد مهم“.
والحقيقة التي قد تكون مثيرة للسخرية هو أن أسلاف ويليام لعبوا دورا في الترويج لهذه التجارة، إذ أن هناك أكثر من ألف قطعة من العاج لا تزال موجودة ضمن المقتنيات الملكية.
وإغلاق ورش ومنافذ نحت العاج في الصين هو أمر مهم جدا، ليس فقط لصالح الصين، بل لأن هذه التجارة الشرعية تُستخدم كغطاء لسوق تجارة سوداء أكبر بكثير.
سُمح للصين في عام 2008، وفقا لنظام اتفاقية التجارة الدولية في الأنواع المهددة بالانقراض، بشراء 62 طنا من العاج الأفريقي المُصادر.
وكان الهدف من ذلك هو أنه من خلال مراقبة دقيقة ونظام رسمي لمنح الاعتمادات، فإن هذا المخزون قد يوفر كميات محدودة لمصانع العاج في الصين. لذا، سيتراجع الطلب على العاج غير الشرعي من خلال المساعدة على إبقاء أسعاره منخفضة.
لكن هذا الإجراء كان له تأثير عكسي، إذ أنه على ما يبدو شجع الطلب من خلال منح المستهلكين الضوء الأخضر لشراء العاج. وبسبب سوء تطبيق القواعد، والفساد، والشهادات المزورة، فقد غزت كميات كبيرة من العاج غير الشرعي، الناتج عن عمليات الصيد الجائر للأفيال، السوق الصينية، وبعضها تحت غطاء المخزون المسموح به وفقا للاتفاقية الأممية.
وزاد الطلب على العاج، وكذلك الأسعار، بشكل هائل. وتشير الأبحاث إلى أن المخزون غير القانوني من العاج في الصين قد يصل حاليا إلى ألف طن أو أكثر، وهو ما يزيد بشكل كبير عن الكمية المحدودة القانونية التي سُمح بشرائها في عام 2008.
والآن، وبالرغم من أن هناك بالتأكيد عوامل أخرى مؤثرة، ليس أقلها تراجع الاقتصاد الصيني والحملة التي أطلقتها السلطات على الكسب غير المشروع الرسمي ومنح الهدايا، فإن الإعلان عن الحظر القانوني لهذه التجارة يساعد على ما يبدو في وضع نهاية للمضاربة الكبيرة في هذا المجال.
وبعثت السلطات برسالة قوية للمستهلكين والتجار بأن هذه اللعبة قد انتهت، وتراجعت أسعار العاج مؤخرا من أكثر من ألفي دولار للكيلو في عام 2014، إلى نحو 700 دولار للكيلو هذه الأيام.
لكن هناك أسئلة لا تزال قائمة. وكما هو الحال في أسواق أخرى، مثل بريطانيا، فإن الإعلان الصيني على ما يبدو يسمح باستمرار تجارة التحف الفنية، وهو ما يخشى المدافعون عن حقوق البيئة بأن يكون ثغرة.
لكن الحكومة الصينية لم تحدد الإجراء الذي ستتخذه إزاء المخزون المتبقي من العاج المسموح بتداوله قانونا، وكيف ستمنع تدفقه إلى السوق السوداء.
وبالرغم من أن السياسة الجديدة قد تؤدي إلى زيادة النشاط السري للتجارة غير الشرعية للعاج، فإن السيطرة عليها ستعتمد على الأدوات المتاحة لوكالات إنفاذ القانون في الصين.
ووفقا للبحث الذي أجريناه، فإنه لا توجد رغبة قوية بشكل كاف لمحاربة الجرائم التي تُرتكب ضد الحياة البرية.
وحظرت الصين بشكل تام، على مدار أكثر من عقدين، الاتجار في قرن حيوان وحيد القرن، وصدرت عقوبات مُغلظة تصل إلى السجن مدى الحياة ضد كبار المجرمين الذين يتورطون في بيع وشراء ونقل قرن هذا الحيوان.
لكن بالرغم من ذلك، فإنه ومن خلال بحث سريع عبر الانترنت، يمكن العثور بشكل علني على تجار يعرضون قرن وحيد القرن للبيع كقطع كاملة، أو كمجوهرات، أو للاستخدام في الطب الصيني.
ولا توجد مخاطر تذكر تحيط بعملية بيع أو شراء قرون وحيد القرن.
وقال أحد البائعين على الانترنت بعد أن بعث بصور أساور مصنوعة من قرون وحيد القرن: “يُرجى أن تثق بي، إنني لم أواجه أي مشاكل من قبل“.
لكن الآن، وبعد عقود من الدفاع عن نحت العاج كمورد ثقافي غير مادي، بدأت الحكومة الصينية تدير ظهرها إلى هذا النشاط.
وقررت الحكومة الصينية بأن الميزة الدبلوماسية من الانضمام إلى الإجماع الدولي المتنامي تفوق بكثير القيمة الاقتصادية الصغيرة نسبيا لهذه الصناعة.
سيمثل قرار بكين ضغطا على تشريعات أخرى لا تزال تسمح بتجارة العاج محليا، لا سيما في اليابان وهونغ كونغ، بل ربما أيضا في دول مثل بريطانيا.
لكن مهما بلغت أهمية قرار الصين، فإنه لا أحد يعتقد أن هذا القرار سيضع حدا لصيد الفيل.
ولن يتحقق هذا الهدف إلا عندما يحدث تحول في موقف المستهلكين في الصين والبلدان الأخرى التي لا يزال الطلب فيها مرتفعا على العاج.
ورغم وجود أدلة واعدة تبين أن الحملات الإعلامية تؤتي ثمارها، فإن الأمر سيستغرق بعض الوقت.
سألت فينغاي في مكتبه الموجود أعلى متجره الذي يبيع العاج في هاربين، والذي يمتلئ بمساند أقدام مصنوعة من ساق الفيل المقطوعة، إذا كان يوافق على أن الفيلة تكون أكثر جمالا على قيد الحياة بدلا من قتلها.
ورد على سؤالي قائلا: “أنا لا أتفق مع ذلك (الرأي). العاج هو أفضل المواد لفن النحت، حتى لو كان صغيرا مثل حبة الأرز، يمكنك أن تنحت قصيدة عليه“.
وتابع: “لا يمكنك القول إن الفيل جميلا لكن قطعة العاج ليست جميلة”.