كتبت صحيفة “الجمهورية” تقول: بعد الانتخابات الرئاسية دعا الرئيس نبيه بري الى طيّ صفحة الخلافات والتشنّجات السابقة لها، وفتح صفحة جديدة من التعاون والتفاهم في ظلّ العهد الرئاسي الجديد.
بري، الذي كان، كما هو معلوم، مؤيّداً لترشيح النائب سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، انطلق من دعوته هذه آنذاك، من تسليمه باللعبة الديموقراطية ومن رغبةٍ في التعاون مع رئيس الجمهورية وفق ما تقتضيه مصلحة البلد.
وكما انتهت مرحلة التحضير لرئاسة الجمهورية في يوم الانتخاب، يقول بري، يجب أن تنتهي مرحلة التحضير للانتخابات النيابية بكل تشنّجاتها، في يوم الانتخاب.
فبصرف النظر عن النتائج التي ستفرزها الانتخابات والحجم النيابي الذي سيحصل عليه كل طرف سياسي، فإنّ الأولى لا بل الأمر الأكثر من ضروري وملحّ هو أن تُطوى صفحة ما قبل الانتخابات وتُفتح صفحة ما بعدها، وبالتالي الانطلاق بالبلد سياسياً على أرض تفاهمية تضع في أولويّتها كيفية دفع البلد نحو مسار طبيعي لاستعادة بعض الحياة السياسية والاقتصادية له.
ما ينصح به بري هو ألّا تُسحب خلافات ما قبلها الانتخابات الى ما بعدها، إذ إنّ الدوران في الإشكاليات لا يقدّم إلّا سلبيات، ومن شأن ذلك أن يعيق انطلاق الدولة، ويعقّد تشكيل أيّ حكومة مقبلة. فكأنّ البلد في هذه الحالة انتخب التعطيل.
القاعدة الأساس التي ينطلق منها بري هي «أني ملتزمٌ بمبدأ في حياتي السياسية، وهو أنّ في السياسة لا توجد عداوات إنما توجد خصومات، وهذه الخصومات ليست دائمة خصوصاً أنّ الصيغة اللبنانية التي لا قدرة لأيِّ طرف مهما كبر حجمه أن يلغي الطرف الآخر مهما كان حجمه صغيراً، وبالتالي توجب على الجميع الالتقاء في مساحات مشتركة.
دعوة بري هذه، تشبه صرخةً في واد خصوصاً مع الوضع السياسي المقطّع الأوصال، والمحكوم بخلافات عابرة للأزمنة بين معظم الأطراف. فهل يمكن أن تلقى مَن يستجيب لها؟
عند إعداد القانون الانتخابي، جرى الترويج لمقولة إنّ هذا القانون سيعطّل المحادل والجرافات التي كانت تتحكّم بالانتخابات النيابية في الزمن الأكثري الماضي، وبناءً على هذه المقولة ثمّة مَن صار يعتبر أنّ طريق المجلس النيابي صارت مفروشةً بالورود أمام الجميع ومن دون استثناء.
لكن بعد أن دخل القانون الجديد حيّزَ التطبيق، وبدأت عجلاتُ الماكينات الانتخابية بالدوران تحضيراً للانتخابات في أيار، «ذاب الثلج وبيّن المرج» على ما يقول المثل الشعبي، بحيث إنّ طريق المجلس مفروشة بالأشواك أمام بعض الشرائح اللبنانية، إذ تبيّن بما لا يقبل أدنى شك، أنّ محادل وجرافات الزمن الانتخابي الماضي التي كانت تطيح بما يعترضها لاستحواذها المسبَق على الأكثرية في الدوائر، وفاخر بعض السياسيين بأنها تعطلت أو أُلغيت، استُبدلت بنوع آخر يُسمّى «محادل وجرافات المصلحة المتبادلة» بين القوى السياسية، بحيث يتكوّن ركابها من قوى متناقضة جمعتهم مصلحة ظرفية، تجري ترجمتها بتحالفات موضعية على طريقة «حكلّي لحكلّك»، للعبور الى مجلس النواب، وبالتالي قطع الطريق على كل الآخرين من مستقلّين أو قوى سياسية صغيرة الحجم.
هذه المحادل والجرافات، وكما هو واضح، هي التي تؤسّس في المرحلة الانتقالية الى ما بعد انتخابات 6 أيار المقبل، لرسم خريطة المجلس النيابي الجديد، بلوحة سياسية جديدة وموازين قوى وقواعد جديدة للعبة السياسية.
وواضحة هنا محاولات كل طرف لحجز موقعه وتحديد حجمه من الآن في تلك اللوحة ومدى تأثيره فيها. لكنّ العلامة الفاقعة هنا أنّ محاولات بعض الأطراف تنطلق من مبدأ الـ«انا» أولاً، ومن بعدي «بطيخ يكسّر بعضو».
تلك اللوحة تبقى غير واضحة المعالم الى أن تقول صناديق الاقتراع كلمتها النهائية وترسم الأحجام الدقيقة والحقيقية لكل طرف، وبالتالي تُخرجها من دائرة التكهّنات المتضاربة التي تحيطها:
– بعضُ المتكهّنين يميل بدفة هذه اللوحة نحو جهات سياسية معيّنة تغلّب سعد الحريري وفريقه.
– بعضٌ آخر، يميل بها في اتّجاهٍ آخر يغلّب «حزب الله» وحلفاءه.
– بعضٌ ثالث، يجعل التيار الوطني الحر صاحب الكلمة العليا في اللوحة السياسية ما بعد الانتخابات، ومتقدّماً بمسافات عن سائر القوى المسيحية.
– بعضٌ رابع، يراها حلبةً لتصفية الحسابات بين الخصوم والأصدقاء والحلفاء القدامى والجدد. والتيار سيكون أحد الأطراف الأساسيين في هذه الحلبة سواءٌ معه أو عليه.
– بعضٌ خامس، يراها استكمالاً للمرحلة السياسية الحالية بكل الاهتزازات التي تعتريها، ومتاثرة بالاشتباك السياسي المفتوح بين حركة «أمل» والتيار الوطني الحر، وبالفتور السياسي بين التيار وسائر القوى السياسية وعلى وجه التحديد مع «القوات اللبنانية»، من دون أن ننسى بعض الفتور الذي يُقال انه بدأ يشوب العلاقة بين التيار ورئيسه جبران باسيل و«حزب الله».
– بعضٌ سادس، يُلقي على لوحة ما بعد الانتخابات نظرةً تفاؤلية، فيرى فيها القوى السياسية كلها محكومة بإعادة «شدشدة» التسوية الرئاسية، التي تستبطن ضمناً تسوية سياسية تتّسع للجميع، وتوجب عليهم المساكنة والتعايش معها.
تلك التكهّنات تصعّب رسم الصورة الدقيقة لمرحلة ما بعد الانتخابات، وإن كانت تقديراتُ القوى السياسية على اختلافها تُلقي على تلك المرحلة نظرةً قاتمة بالنظر الى التعقيدات المرتقبة فيها، ربطاً بالصورة السياسية المهتزّة حالياً.
هذه الصورة المهتزّة، بحسب التقديرات، هي التي ستطبع حكماً مرحلة ما بعد الانتخابات، ولن يكون خارجها بطبيعة الحال الاشتباك المفتوح بين «أمل» والتيار وارتداداته، وكذلك الارتجاج في العلاقة بين تيار المستقبل و«القوات اللبنانية»، التي مازالت تعاني من ندوب أزمة استقالة الحريري وملابساتها، الى حدٍّ أكّد عمق الأزمة بين الطرفين رغم كل الجهود من الداخل والخارج لتضييقها واحتوائها.
كما لن يكون خارجها، وفق التقديرات نفسها، ما يُقال إنه تشتّت العلاقات بين القوى المسيحية التي تشهد انقساماً واضحاً بين التيار و«القوات» وتيار المردة، وحزب الكتائب، والذي يتعرّض لمحاولات تفرض فيه مقولة الغالب والمغلوب.
فالتيار الوطني الحر يتصرّف من موقع القوي الممسك بزمام الواقع المسيحي، مدعوماً من موقع الرئاسة الأولى. ومن هنا سعيه في الانتخابات لاجتياح العدد الأكبر من المقاعد في غالبية الدوائر، وخصوصاً المقاعد المسيحية وعلى حساب كل الآخرين.
وفي المقابل، يبدو أنّ «القوات اللبنانية»، لم تعد نائمةً على حرير التفاهم مع التيار، وبالتالي هي لم تُؤخذ بشعار «التيار القوي» الذي رفعه التيار الوطني الحر، لذلك ينصبّ جهدَها لأن تجعل من الانتخابات فرصةً تفرض فيها نفسها «الرقم الصعب مسيحياً» بتوسيع رقعة تمثيلها في المجلس النيابي. والأساس بالنسبة الى «القوات»، أنها ترفض أن تتجرّع كأسَ تجاوزها، أو التبخيس من حجمها في مرحلة ما بعد الانتخابات أو في أيّ محطات أو استحقاقات مقبلة.
بدوره يبدو تيار المردة وكأنه دخل في مرحلة تأسيسية لما بعد الانتخابات تقوم على ربحٍ نوعيّ فيها، بمواجهة التيار الوطني الحر وما يطمح اليه رئيسُه باسيل رئاسياً، بحيث تشكّل هذه الانتخابات ونتائجُها فرصةً للعبور من جديد الى الرئاسة الأولى، عبر التأكيد على إظهار النائب سليمان فرنجية يمتلك كل الأهليّة والمشروعية ومواصفات المرشّح الماروني المؤهّل لتبَوُّء موقع الرئاسة الأولى.
يبقى حزب الكتائب، الذي يبدو أنه امام محطة مصيرية، إذ بعيداً من الإطلالات الإعلامية لرئيسه، وللمنطق الشعبوي الاعتراضي الذي يستخدمه، فإنّ الانتخابات ستكشف حجمَه الحقيقي نيابياً، الذي قد يختلف جذرياً عمّا كان عليه في المجلس النيابي الحالي.
واضح على المسار المسيحي أنّ إمكانية التقاء هذه الأطراف المسيحية قد لا تكون أكثرَ من خجولة، تبعاً لمصالح وأهداف كل طرف، ولعلّ الدافعَ الأساس الى عدم الالتقاء بينهم هو مشاريعهم الرئاسية، التي يتعاطى بعضُهم من خلالها وكأنّ الانتخابات الرئاسية حاصلةٌ غداً.
والأكثر وضوحاً أمام الوضع المسيحي هذا، أنّ بكركي تقف على الحياد إن في ما خصّ الانتخابات النيابية المقبلة، أو ما خصّ الاستحقاق الرئاسي. ربما لأنها تفضّل حالياً السيرَ بين النقاط.
الجمهورية