د. سنا الحاج (رئيسة دائرة الدراسات والبحوث في مديرية الدراسات)
نسمة الحياة هو وظل الله المطلق، إنه الإنسان حامل الأمانة خلقه الله مثالاً له وخليفة، وهو ليس مجرد رتبة من مراتب الوجود في الطبيعة، بل هو الإنسان المفكر والعاقل والعارف الذي يعمل ويتغير ويتخلق ويتصف بصفات إلهية منحه إياها الخالق كالعدل والرحمة وغيرها من الصفات التي له قابلية الاتصاف بها كونه خليفته، وبذلك يستطيع أن يجتاز المراتب للإرتقاء والتكامل مجسداً فعل الإنسانية الحقة. ولإن طاقته الاستثنائية تمكنه من تجاوز وجوده وكينونته إلى مستويات أعلى من وجوده الأرضي، كما يقول الله تعالى في كتابه الكريم: “إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه”[1].
لذا، فهو يجهد ويسعى لتحسين أوضاعه البشرية وهو لا يهدأ ولا يقبل وجوده على ما هو عليه، بل يشاهد صورته في رؤيا مثالية، نحو صيرورته إنسانياً. حتى كان الإنسان النموذج الذي عبّر عنه قوله تعالى في القرآن الكريم: “لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم”[2]. وهذا ما أكده الكتاب المقدس في رسالة الرسول بولس إلى أهل رومية: “ولا علو ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة الله”[3]. وأكد هذا المعنى كذلك القديس أوغسطينوس في تعريفه للإنسان على أنه: “صنع الله الإنسان على صورته لأنه أعطاه نفساً ميزها بالعقل والذكاء، ورفعه فوق سائر حيوانات الأرض والحياة والجسد التي ليست لها نفساً كنفسه”[4].
فالإنسان إذن هو الأقرب إلى الله تعالى من الطبيعة، وهو الأشرف والأفضل والأسمى كذلك من سائر الموجودات الأخرى، قادر على أن يعمر هذا الكون ويجعل منه وجوداً متميزاً كما يعبّر القول المنسوب إلى الإمام علي (ع):
أتحسب أنك جرمٌ صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
ويؤكدون في المسيحية: “أن الإنسان شخص فريد، لا يتكرر ولا يمكن تبديله بغيره، وهو حر، وقادر على أن يتخذ موقفاً من تلقاء ذاته ويقرر بنفسه ما يريد أن يكون وجوده. كما وتدعوه بأن يلبي نداء الله لأن يكون الإنسان إنساناً”[5].
لا شك في أن دراسة الإنسان وماهيته وكيفية تكامله في المنظومات الفلسفية والدينية والاجتماعية التي تمّ طرحها بشمولية في هذا البحث، دفعتنا إلى إشكالية الواقع والمثال، بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون؛ لأن الإنسان من حيث ماهيته نظرياً يختلف عن الإنسان الذي يظهر في واقعنا المعاصر، ومن الطبيعي أن الطريق إلى تحقيق هذه الغاية التي نحلم بها، ستكون طويلة من خلال تجربة وقراءة فكرية واقعية تعي وجود هذا الإنسان، تجربة يتجسد فيها العمل كثيراً، ويقل فيها الكلام.
والجدير بالذكر بأن الحضارات القديمة التي سبقت الأديان السماوية، وقبل ميلاد السيد المسيح(ع)، تحدثت عن الإنسان وحقوقه، وعملت على تأصيل القيم وممارستها، وكذلك كانت بداية الفلسفة الإنسانية مع سقراط الذي ربط العلم والمعرفة الحقيقية في معرفة النفس الإنسانية، حيث خلّد سقراط الحكمة القديمة “أعرف نفسك بنفسك”[6]. وهكذا كانت الفلسفة التي تناولت الإنسان على مرّ التاريخ دراسة وتحليلاً وإن تعددت الاتجاهات الفلسفية لكنها أكدت على أن معيار التقويم هو الإنسان.
أهمية الموضوع:
أهمية الموضوع من أهمية الإنسان نفسه، كل إنسان كائن مقدس ذو كرامة، إذ انه من غير الممكن للإنسان أن ينأى عن المعاناة الإنسانية التي نشهدها اليوم، وقد اخترت هذا الموضوع للدراسة لأجل الإنسان، ولأجلي من منطلق الخوف والقلق على مستقبل تغيب فيه القيم، وتبسط فيه القوة أذرعها على أعناق الشعوب، وفي زمن انقلاب المعايير وانحدار الإنسانية، وفلسفة موت الإنسان وتدميره.
من هنا كانت أهمية هذا الموضوع وضرورته، كمحاولة للمساهمة في إيجاد السبل لتوحيد الناس في إطار الوحدة الإنسانية، وهي المهمة الأكثر إلحاحاً، والتي يواجهها كل منا اليوم، ألا وهي إعادة بناء الإنسانية بعيداً عن العنصرية والتمييز والتفرقة، بناء إنسان شرقي غربي، مسيحي إسلامي في آن.
وذلك من خلال ما قدمته النزعة الإنسانية في الفلسفة وفي الفكر المسيحي والإسلامي على مرّ العصور، حيث قيّمتِ الإنسان بوصفه كائناً غائياً بذاته، صانع الحضارات، قادراً على أن يغير مصيره ويرسم طريقه ببصيرة روحية وعقلانية، حيث تحكمه إرادة إنسانية مستمدة من خالقه صاحب الإرادة المطلقة.
الإشكالية:
إذا كانت الأحداث والتطورات المتسارعة التي حصلت وتحصل في كل يوم، وواقع النهايات المتلاحقة من نهاية اللاهوت مع نيتشه، ونهاية الإنسان وتفكيكه مع البنيوية، أي تيار فلسفة موت الإنسان، مع هيدغر وستروش وفوكو الذي قال بأن حقيقة الإنسان ما هي إلا أوهام وأساطير، ونهاية التاريخ مع فوكوياما، جميعها قد أفقدت العالم بعده الإنساني.
وإذا كان تقدم العلم والتكنولوجيا والتطور الصناعي لم يرقَ بالإنسانية إلى الغاية المتوخاة، لا بل جاءت النتيجة سلبية، حيث حلّ القلق والخوف وغابت القيم والعدالة والمساواة والسلام والأمن والحب والرحمة …
فهل بإمكان الدين بفكره المسيحي والإسلامي القيام بنهضة إنسانية، تبشّر ببناء إنسان آمن جديد، إنسان يتمتع بجميع حقوقه التي وهبه إياها الخالق؟ وبالتالي قادر على الحوار والانفتاح والتفاعل مع جميع شعوب العالم، ومواجهة أصحاب فلسفة موته وتفكيكه وتدميره، مع استعادة روحيته وقداسته وكرامته؟
المنهج:
لقد فرضت عليّ طبيعة البحث ووسعه اعتماد منهج التحليل والمقارنة في بعض المباحث، والمقاربة في مباحث أخرى، كالمقاربة التي اعتمدتها في مبحث ماهية الإنسان في الدين، حيث قاربت بين ما جاء في الكتاب المقدس، والقرآن الكريم، وكذلك في مبحث الأخلاق في الفكر المسيحي والإسلامي. وقد ساعدني استخدام هذه المناهج للوصول إلى نتائج تركيبية لهذه الأطروحة.
وقد واجهتني صعوبة في سعة الموضوع، وكثرة النظريات، فما من فيلسوف أو مفكر منذ العصر اليوناني حتى اليوم إلا وله رأي في الإنسان؛ لذا حاولت قدر الإمكان تجميع المادة وعدم الإسهاب والتحليل أو النقد في كثير من المباحث، والاقتصار على أهم وأبرز الأسماء والآراء.
وفي الواقع، إنَّ موضوع البحث ووسعَه كان أكثر تعقيداً مما قد توحي به الكلمة، إذ كان علي أن أحيط بالإنسان من كافة جوانبه ومنطلقاته لكي أقدم صورة واضحة عن وجوده وماهيته وعوامل تكامله.
أما في المصادر والمراجع، فكانت وفيرة ومستجدة في كل يوم. وبخصوص المصادر في اللغة الأجنبية ذات الصلة بالموضوع والتي احتجتها، كنت أجدها مترجمة ومتوفرة باللغة العربية، لذا عنونت صفحة المصادر والمراجع: “بالمصادر والمراجع العربية والمعربة”.
تقسيم البحث:
يتكونُ البحثُ من مقدّمةٍ وثلاثةِ أبواب في ستة فصول وخاتمة:
مهدنا في الباب الأول لماهية الإنسان وفهم جوهره فلسفياً وعقيدياًً، وتحدثنا في الهوية الإنسانية عبر مرّ العصور ابتداء من العصر اليوناني القديم، مروراً بالعصر الوسيط، وصولاً إلى الفكر المعاصر حيث استشرف الفلاسفة والمفكرون عصر الحداثة وما بعدها، ودخول البشرية عصراً جديداً، حيث قامت التيارات التي تبشر بموت النزعة الإنسانية.
وتحدثنا في الفصل الثاني من الباب الأول حول ماهية الإنسان في الدين على ضوء الكتاب المقدس والقرآن الكريم، وانطلاقاً من دمج الفلسفة بالدين، واستعرضنا الإصحاحات والآيات القرآنية مع أبرز نقاط الاختلاف في تعريفات الإنسان حيث وردت.
وفي الباب الثاني- الفصل الأول – تحت عنوان : عوامل تكامل الإنسان: أشرنا إلى كيفية ارتقاء البشر إلى الأنسنة عبر الشروط الأخلاقية لتكامل الإنسان، وفي الفصل الثاني، تناولنا أشكال العلاقة بين الأخلاق والدين، وفي مقاربة موضوعية بين الوصايا العشر ورسالة الحقوق للإمام زين العابدين بن علي(ع) التي حملت المعاني نفسها، ولكن لكل منها ترتيب ومصادر.
وقمنا في الباب الثالث بإلقاء الضوء على أبرز القضايا الإنسانية المعاصرة، والتي تشكل مشروع التوحيد الإنساني في ظل النهايات، وعلى الإنسان في المجتمع وتأثيره في بناء المجتمعات الإنسانية على ضوء النظرة المسيحية والإسلامية. ومن ثم تحدثنا في ما يتطلع إليه الإنسان من إصلاح على الصعيد الإنساني والحضاري، وفي كيفية الخلاص وإنقاذ الحضارة الإنسانية من السقوط.
النتائج:
بناءً على النوايا الطيبة الحسنة، والدوافع الإنسانية لدى مفكري المسيحية والإسلام، وتأكيدهم على قداسة الإنسان واحترامه، وصون علاقاته مع الآخرين لكي يلعبَ دوره الكونيَّ، أي دور خلافة الله في الأرض، وليعيش جميع جوانب وجوده، يمكننا أن نصوغ مشروعنا في إعادة إحياء النزعة الإنسانية عبر طرح النتائج الآتية:
أولاً: التأكيد على أن النزعة الإنسانية كانت وما زالت، وليس كما يقول البعض بأنها خاصة بعصر النهضة دون غيره؛ لأن النزعة الإنسانية تتجاوز حدود الدين والقوميات، والأعراق، وتصل إلى الإنسان في كل زمان ومكان، كما مرَّ ذكره آنفاً.
ثانياً: تبين بأنه لا يمكن للإنسان أن تتقوّم ماهيته وتتكامل إنسانيته إلا بشروطِ تحقق المعرفة والإيمان والأخلاق، والمحبة في ذاته، وبوعيه لوجوده وقيمته، وفي الوقت ذاته في فعله الإنساني وتطبيقه لتلك القيم والمثل في نفسه وفي مجتمعه وحياته السياسية والاقتصادية، وبذلك قد ينجح في معالجة الشر واستئصال فكرة كونه آلة استهلاكية مفرغة روحياً وفكرياً.
ثالثاً: انطلاقاً من هذا الإنسان الذي تقوّمت ماهيتُه الإنسانية، فإننا نستطيع أن نعمل على بناء حضارة إنسانية كونية يستعيد فيها الإنسان التوازن بين عقله وأخلاقه وروحيته عبر الدين الواحد برسالاته السماوية التي جاءت جميعها لخدمة الإنسان وصالحه وسعادته وحريته، وتستعيد فيها المجتمعات وحدتها الإنسانية، في مقابل مقولة هوبز:”الإنسان ذئب للإنسان” ، ونقول الإنسان أخ الإنسان في الخلق كما يقول الإمام علي (ع) :”الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق”.
رابعاًً: مواجهة ومقاومة الظواهر الدينية المتطرفة من أي مكان أتت، فنحن نعيش اليوم بين نوعين من التطرف، وأفعال كلا الطرفين تدل على سوء نية من قبلهما، الأول في التطرف الديني الغربي والعنصري الصهيوني، حتى ادعى أحدهم أنه يتلقى أوامره في شن الحروب مباشرة من الله، وفلسفة القوة والمال التي تستبيح حرمات الشعوب بإسم الدين. والثاني: التطرف الإسلامي، وهو دليل أيضاً على سوء النية، إذ أنهم يختزلون الإسلام بتطرفهم ومغالاتهم، بحجة ما وصل إليهم وما تسلموه كمجموعة من التقاليد والعادات. وندعو إلى الدين المنفتح، دين المعرفة والعمل، معرفة الإنسان وقيمته وقداسته وكرامته، والعمل على صونه وحمايته واحترامه على قاعدة أن الإنسان صفوة الله تعالى. وكما يقول المجمع الفاتيكاني الثاني في دستوره: “أن نقاوم بشدة كل استعباد اجتماعي أو سياسي”. وكما يقول توما الأكويني: “إن ازدراء حرمة الإنسان هو انتهاك لحرمة الله”، ويؤكدها الإسلام في نظرته إلى الإنسان على أنه أفضل من حرمة بيت الله (أي الكعبة). ويقول نبي الله محمد (ص): على المسلم في كل يوم صدقة، فقيل له: ومن يطيق ذلك يا رسول الله؟ قال: كف الأذى صدقة، تصدق على نفسك بكف الأذى عن الناس”.
ختاماً، وكما كان القلق الذي اعتراني وحدا بي إلى خوض غمار هذا البحر الواسع لأبحث عن جوهر ذاتي، وجبَ علي الاعترافَ بأن الطريق كانت مليئة بالصعاب، وبأن الشك والخوف من فقدان أي جزء من إنسانيتي لم يفارقني، طالما أشاهد يومياً في نشرات الأخبار كل تلك المظاهر غير الإنسانية، خصوصاً صور الأطفال المسلوبة حقوقهم، الذين يحيطهم الموت من كل جانب وهم يلوذون ببعضهم البعض مذعورين خائفين، ومن محاولات تدمير الإنسان وقتله وقهره عبر العدوان تلو العدوان والاحتلالات والحصار، ومن انتهاك حقوق الإنسان، وتفشي ظواهر الفقر والجوع والعوز التي تعم المعمورة مما يفقد المعنى الإنساني لوجود الخلق.
ولا شك أن الإنسان بالرغم من هذه الظروف القاهرة قادر على أن يؤسس لسياسة وفلسفة إنسانية معاصرة، خصوصاً وأن السياسات الكبرى والمشاريع الخطيرة صدرت عن رؤى ثقافية وخيارات فلسفية إيديولوجية.
إذ يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ” إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”[7].
[1] سورة
[2] سورة التين، آية : 4
[3] رسالة الرسول بولس، 8: 39
[4] القديس أوغسطينوس، مدينة الله، ترجمة يوحنا الحلو، دار المشرق، بيروت، ج1، 2002، ص: 100
[5] المسيحية في أخلاقياتها، منشورات المكتبة البوليسة، جونية، 1999، ص: 15
[6] مرحبا، محمد عبد الرحمن، تاريخ الفلسفة اليونانية، مؤسسة عز الدين، بيروت، 1993، ص: 215
[7] سورة الرعد، الآية11