أجمع المراقبون والمهندسون بأن إهراءات القمح التي كانت ترتفع شامخة في قلب مرفأ بيروت قد حمت بيروت وأهلها من الزلزال المدمر الذي ضرب أجزاء منها في 4 آب الماضي ، هذه العنابر الخرسانية المكونة من الإسمنت المسلح قاومت الإنفجار ووجهته بغالبية عصفه التدميري نحو البحر ، ما ساهم في خفض الأضرار الى حد كبير ، بالرغم من فداحة ما حل بالعديد من الأحياء البيروتية التراثية المجاورة للمرفأ.
وعلى الرغم من الأضرار الفادحة التي ألمّت بالمدينة وأصابت العديد من الأحياء قرب المرفأ بدءأ من الصيفي صعوداً نحو الجميزة فالأشرفية ، إلّا أن مبنى الإهراءات المتصدّع الذي بقي واقفاً رغم الدمار محاذياً المرفأ، وإستطاع أن يمتص جزءاً كبيراً من ضغط الإنفجار الكارثي، ليجنب مدينة بيروت المزيد من الخراب والضحايا .
صور تعود للأهراءات اثناء تشييدها وتسليحها بالحديد
لماذا الإهراءات في المرفأ؟
على غرار معظم الدول التي تستورد قمحها ولا تزرعه، كان لا بد من وجود هذه الصوامع في الميناء كي تكون قريبة المناولة من السفن الناقلة بسرعة وعملانية وبكلفة زهيدة ، ويعود بناء هذه الإهراءات إلى أواخر ستينيات القرن الماضي، ففي عهد الرئيس شارل حلو، إتّخذت الحكومة في عام 1965 قرار بناء صوامع لتخزين القمح في المرفأ، وقد أُوكلت مهام البناء الى شركة تشيكية إستمرت في مشروع البناء لمدة خمس سنوات ، وشاركت في التصميم والتنفيذ أيد لبنانية من ناحية التخطيط والهندسة والتسليح، فيما كان التمويل عبر هبة قدمتها دولة الكويت الشقيقة في عهد أميرها المغفور له آنذاك الشيخ صباح السالم الصباح الذي حكم الإمارة مابين عامي 1965 و 1977، ليتم إفتتاح هذه الإهراءات في عام 1970، بحضور أمير الكويت شخصياً.
واستمرارا للجهود الطيبة لدولة الكويت عادت واعلنت على لسان ولي العهد الشيخ نواف الأحمد الجابر المبارك الصباح بُعيد الإنفجار عن تعهد دولة الكويت إعادة بناء إهراءات القمح كما شيدتها في المرة السابقة .
وفي لمحة تاريخية يلاحظ بأن عملية تخزين الحبوب والقمح في المرفأ ليست بجديدة، وهي تعود لعشرات السنين قبل بناء الإهراءات، وتحديداً في عام 1948، إلّا أنها كانت تتم عبر مخازن خشبية أو بلاستيكية، ما كان يسبب تلف المواد المخزنة لإرتفاع نسبة الرطوبة عند مستوى الشاطئ وفي المدينة ، كما انه يعرضها لإمكانية دخول القوارض والحشرات والفتك بالحبوب المخزنة .
وكانت هذه الإهراءات تمتاز بقدرة إستيعابية عالية، إذ تتسع لحوالي 120 الف طن من القمح والحبوب ، كما كان يتمتع هيكلها إجمالاً بصلابة عالية نتيجة لمتانة بنائه، وللقواعد والأساسات الضخمة المدعمة بالحديد والإسمنت المسلح ، كما يوجد أسفل المبنى أروقة مدعّمة بالإسمنت المسلّح أيضاً ، تم إنشاؤها أيام الحرب الأهلية في عام 1975، بهدف إختباء الموظفين في داخلها هرباً من القذائف التي كانت تطال المرفأ في بعض جولات الحرب المشؤومة .
خزان القمح الإستراتيجي للبنان
تضم الإهراءات 48 مخزناً كبيراً ، يستوعب كل منها 2500 طن، وكذلك تضم 50 مخزناً صغيراً يستوعب كل واحد منها حوالي 600 طن ، وهي تخزّن ما نسبته 85% من حبوب لبنان وقمحه ، وبعد الإنفجار خاف المواطن اللبناني الذي أصيب برزقه وبقوت عياله وبمسكنه لفقدان المخزن الرئيسي للقمح في لبنان بالكامل، وتناثر الكميات التي كانت موجودة بأكملها وتلوثّها بالحريق والمواد الكيماوية، إلّا أن سوء الأزمة المالية التي يعاني منها لبنان كانت سبباً مهماً في عدم تخزين كميات كبيرة يوم حصول الإنفجار، بحيث قُدرت الكمية الموجودة حينها بـ15 الف طن فقط لحسن الحظ .
كلفة تقريبية لإعادة الإعمار
وبالنسبة لعملية إعادة الإعمار، فقد تضاربت الأرقام في الآونة الأخيرة، بحيث تفاوتت ما بين الـ3 مليار والـ15 مليار دولار لأحياء العاصمة المنكوبة كلها ، إلّا أن الأرقام المتداولة غير دقيقة بحسب الخبير الإقتصادي جاسم عجّاقة، الذي ذكر في حديث سابق مع جريدة “الأنباء” أن “كلفة إعادة ترميم المرفأ، بما فيه البنية التحتية والأرصفة والعنابر والإهراءات تقدّر بما بين الـ200 والـ300 مليون دولار، وقد تصل إلى حدود الـ500 مليون دولار كحدّ أقصى بحال تضرر أرضية المرفأ”، مذكّراً بتجربة ترميم لمرفأ مماثل في تركيا، بحيث لم يتعد المبلغ المرصود 500 مليون دولار. وعن الأرقام المذكورة أعلاه، يشير عجاقة إلى أنها “خسائر تتعلق بغياب الفرص الإقتصادية، وهي خسائر غير مباشرة، كتضرر الشركات المحاذية للمرفأ، تراجع التصدير، تأثُر القطاع السياحي، وغيرها من الخسائر”.
ويُذكر أن هذه الإهراءات، كما هي حال بيروت ، شهدت عقوداً من الحروب الأهلية والإجتياح الإسرائيلي وإحتلال أول عاصمة عربية ، وهي جزء من تاريخ لبنان المعاصر، وقد برزت في هذا السياق دعوات على مواقع التواصل الإجتماعي لتحويل هذا المبنى إلى موقع سياحي شاهد على واحد من أضخم إنفجارات التاريخ.
خضر ماجد
وزارة الاعلام – مديرية الدراسات والمنشورات اللبنانية