كتبت صحيفة “الشرق الأوسط” تقول: لم يسبق للجيل الذي أنتمي إليه، وربما للجيل الذي سبق، أن وجد نفسه أمام جائحة مماثلة، تخرج بغتة من ظلماتها لتعصف بكل ما ناضل البشر لتحقيقه من مظاهر الرفاهية والتقدم، وبكل ما اختزنوه في دواخلهم من بريق الوعود وبراعم الأحلام.
صحيح أن الحياة على الأرض لم تكن وردية بالكامل، بل كانت مهدّدة على الدوام بأعتى أنواع الحروب والتدمير والقتل الجماعي الذي وصل إلى ذروته في حربي القرن العشرين العالميتين، ولكن ما نحن بصدده الآن هو عدوّ من نوع آخر يُعدّ لنا في الخفاء سموماً مجهولة المصدر تتكفل خلال أيام قليلة بنقلنا إلى الضفة الأخرى من الوجود.
هكذا فجأة تنقلب الأولويات رأساً على عقب، ويتراجع إلى الخلف صراع الهويات والطبقات والأجيال والنظم السياسية والآيديولوجية، تحت ضربات العدو الضاري الذي لا يميز بين جبروت الجلادين وهشاشة الضحايا؛ بين الجشع الصلف للمرابين وأصحاب الثروات، وبين النظرات المطفأة للفقراء والمعوزين، كما بين النخب الأكثر ثقافة والجموع الغارقة في جهلها المزمن.
إن الهلع الذي يثيره الوباء الجديد في دواخل البشر، متأتٍّ من إحساس لدى الجميع بأنهم يخوضون معركة غير عادلة مع المجهول واللامرئي ومتناهي الصغر. فأنت في حالة استنفار قصوى ضد لا شيء تقريباً. ولكن هذا اللاشيء قد يكون قادماً من جهة ابنك أو أبيك أو زوجتك أو حبيبتك، بحيث يتحول الناس الألصق بقلبك إلى مجرد فزاعات ناقلة لعدوى الوباء القاتلة. وهذا اللاشيء جاهز للإطاحة بك قبل أن تصحو من ذهولك، وقبل أن تجد جواباً عن المسوغ الأخلاقي و”القانوني” الذي يودي بك على حين غرة إلى مقصلة الإعدام. وإذا كانت الحياة تقلد الأدب في كثير من وجوهها، فنحن جميعاً شبيهون ببطل كافكا الذي اختزله صاحب رواية “القضية” بالحرف “ك”، والذي يساق إلى الإعدام ويتم شنقه دون أن يتبين الجرم الذي قاده إلى مصيره الفاجع. أوَلسنا نقف الآن بلا أسماء ولا أعمار ولا ألقاب، في مواجهة ذئب الخفاء هذا؟ أولسنا “كاءات” الألفية الجديدة التي لم تحمل لنا سوى براميل الاستبداد المتفجرة والسواطير المخيفة للظلاميات المتقابلة. ومن نجوا من هذه وتلك، يواجهون الآن عدوّاً أكثر هولاً وأشدّ إثارة للرعب.
لم يكن عهد بيروت، التي وفد إليها وباء “كورونا” قبل أسابيع قليلة، جديداً مع الكوارث. فهذه المدينة التي عُرفت لعقود خلتْ بـ”لؤلؤة الشرق”، لم يستقر تاريخها الطويل على حال واحدة من الرخاء أو البؤس، ومن الازدهار أو التلاشي… بل هي بدت شبيهة بأدونيس المقتول بأنياب الخنزير البري، والذي تعيده الآلهة إلى الحياة، استجابة لتضرعات حبيبته عشتروت، مطلع كل ربي. وقد بدأت أولى مآسيها زمن نبوخذ نصر، الذي عمد في نهاية القرن السادس الميلادي إلى هدم المدينة وإحراقها بشكل تام. ثم تجددت مأساتها بعد 4 قرون مع القائد السلوقي تريفون، الذي دمرها مرة أخرى وظلت من بعده خراباً لمدة قرن كامل. وفي القرن الرابع للميلاد، ضربها زلزال كبير، كان فاتحة لزلازل أشد هولاً ضربتها في منتصف القرن السادس، حيث تسبب أحدها في “تسونامي” بحرية ماحقة غمرت معظم أحياء المدينة وقتلت 30 ألفاً من سكانها. وإذا كان المؤرخون قد أسهبوا في الحديث عن نكبة المدينة بعد الزلزال، فإن الشعراء لم يتوانوا بدورهم عن التعاطف مع مدينة الشرائع والتحسر على مجدها الآفل. وكان أبرز هؤلاء أغاتيوس اليوناني الذي كتب في رثائها، وعلى لسانها: “ها أنا ذا المدينة التاعسة، كومة من الخرائب وأبنائي أموات. هل تبكون أيها العابرون الماشون فوق أطلالي؟ هل تأسون لمجد بيروت التي لا وجود لها؟ وداعاً يا ملاحي البحار. وداعاً أيتها القوافل الآتية من ورائها”.
وفي القرن الثالث عشر، إبان حكم المماليك، تعود الزلازل لتضرب المدينة من جديد، حيث يتحدث المقريزي عن تمكّن أحدها من إغراق الجزر الصغيرة الواقعة قبالة الشاطئ. ولم تكن بيروت بمنأى عن الوقائع الكارثية للمجاعة التي ضربت المنطقة في ذروة الحرب العالمية الأولى؛ حيث تعرض لبنان لحصار خانق، تبعته موجة غير مسبوقة من الجراد، الأمر الذي أدى إلى أن يخسر البلد الصغير نصف سكانه، في حين كانت الجثث المتلاحقة تتكدس في شوارع المدن والقرى ولا تجد من يدفنها.
وإذا كان ما تقدّم لا يعني بأي حال عقد مقارنة بين ما تعرضت له بيروت على امتداد العصور من كوارث ماحقة، وبين محنتها الحالية التي لم تبلغ بعد حدود الكارثة، فإن ما تعيشه المدينة منذ شهور عدة، ولبنان بوجه عام، هو أشبه بزلزال سياسي واجتماعي تسبب فيه نظام المحاصصة الطائفية والنهب المنظم الذي أوصل البلد إلى الإفلاس التام، وزاد الفقراء فقراً، ودفع بالطبقة الوسطى إلى الاضمحلال. وفجأة، ومن حيث لا يتوقع أحد، ظهر وباء “كورونا” الذي أخذه اللبنانيون في البداية على محمل الخفة والهزل، ورأوا فيه فرصة لارتجال النكات، ليتبين بعد أيام أنه الوباء الأخطر على الوطن الصغير وسكانه منذ مائة قرن كامل، وليجبر اللبنانيين على التزام بيوتهم، والسلطة على إعلان النفير العام وإغلاق جميع المنافذ التي تسمح للوباء بالتسلل.
ومع أن وضع بيروت ليس الأسوأ بين مدن العالم، إلا إن الوباء سقط على مدينة منهكة وفاقدة للمناعة ومثخنة بالطعنات. وهي لم تكن بحاجة لإعلان حالة الطوارئ الصحية وضبط حركة التجول في حدودها الدنيا، لكي تنغلق على ذاتها كالشرنقة وتستعيد ما اجتازته عبر تاريخها من أهوال. فأحياؤها شبه مقفرة، وشوارعها لا تعبرها سوى سيارات قليلة، وبعض المارة الذين يحدقون ذاهلين في الفراغ والصمت اللذين يلفّان كل شيء. وأولئك الذين تجرأوا على التجول، بداعي الفضول أو العمل أو المغامرة البحتة، يحدق كلّ منهم في الآخر بحذر وتوجس شديدين. لا بل إن مجرد عطسة من هنا أو سعال من هناك قد يحدثان حولهما الهلع نفسه الذي يمكن أن يحدثه اختراق طائرة معادية جدار الصوت، أو سقوط قذيفة في المكان. أما شارع الحمراء الذي أقطن منذ عقود عند طرفه الغربي فهو لم يعد يشبه نفسه أبداً، حيث المحلات بمعظمها مغلقة، والمفتوحة منها بلا رواد ولا بريق، والذين صادفتهم أثناء تجوالي هناك، كانوا بمعظمهم من المتسولين والمشردين، أو الخارجين للتمون خشية انقطاع المواد الغذائية والسلع الاستهلاكية الأساسية. أما مقاهي الرصيف التي ميزت المدينة في عصرها الذهبي، فكانت “خاوية على عروشها” تماماً ولا أثر فيها لأي حياة. وفيما أوى معظم المثقفين إلى منازلهم مكرهين، كان بعضهم يهيم على وجهه بلا وجهة واضحة في الشارع المهجور، بينما فوجئتُ ببعضهم الآخر يقف قبالة مقهى “الروسا” المقفل، “الهورس شو” سابقاً، كأنه امرؤ القيس يقف على أطلال “سقط اللوى”، التي استهل بذكرها معلقته الشهيرة. أما وسط المدينة، حيث رفعت قوى الثورة بيارقها وشعاراتها لأشهر عدة، فقد كان معظم الخيام المنصوبة بين جنباته خالية من المعتصمين، فيما أصرّ بعض الشباب على ملازمة خيامهم، لكيلا يسمحوا للوباء المستفحل بأن ينجح في إخماد شرارة الثورة التي عجزت السلطة عن إخمادها، كما عبّر أحدهم بشكل حرفي.
قد تجد مقولة سارتر الشهيرة “الجحيم هم الآخرون”، ما يسوّغها في فضاء المدينة التي شلّ سكانها الخوف من كل ما يلمسونه أو يصادفونه. فحتى الجمال يفقد في ظروف كهذه سلطته، ليدخل هو الآخر في خانة الاحتمالات الموبوءة والناقلة للعدوى. لكن ثمة وجهاً آخر للصورة يمثله أولئك الجنود المجهولون الذين تطوعوا بملء إرادتهم لدرء الخطر عن سكان عاصمتهم، كما يمثله كثير من الأطباء والممرضين و”فدائيي” القطاع الصحي و”فدائياته”. كما أن الوباء الجديد قد استطاع، بفعل ضراوته التي لا تميز بين الهويات والعقائد والطوائف والطبقات والأعمار، أن يحشد لمواجهته كل هذه القوى مجتمعة، حتى إذا نجحت المدينة لاحقاً في استئصاله، عادت السلطة إلى فسادها والثورة إلى الشوارع.