“دود الخلّ منّو وفيه”… مصداقاً لهذا القول المأثور تكاد حكومة حسان دياب لا تحتاج إلى قوى معارضة من خارجها في ظل ما تعانيه من تصدع داخلي في أرضية توليفتها المتجانسة استراتيجياً تحت لواء 8 آذار، والمشرذمة ذاتياً بين مكونات متناحرة ومتخندقة في مواجهة بعضها البعض. فعلى قاعدة “حليف الحليف لا يصنع حليفاً” التي حكمت ولا تزال تحكم العلاقة بين رئيس مجلس النواب نبيه بري و”التيار الوطني الحر”، تواصل العلاقة سيرها المتعثر بين بري ورئيس الحكومة حسان دياب لتنسحب عليها هذه القاعدة نفسها باعتبار الأخير يتخندق في “الجبهة الباسيلية” في مواجهة رئيس المجلس حسبما بدا من أدائه ومواقفه وطروحاته وذوبان توجهاته عموماً في “الوعاء البرتقالي”. ورغم كل محاولات رئيس المجلس تبديد طابع تصدّره قائمة معارضي حكومة دياب وتعمّده في الآونة الأخيرة تسطير مواقف وتصريحات تموّه حقيقة عدم استساغته النموذج الحكومي الراهن بوصايته العونية، غير أنّ ما حصل بالأمس كان كفيلاً بتظهير المستور من هذه الحقيقة عبر تأنيب حاد وجّهه بري إلى دياب و”إلى مَن وراء دياب” حسبما لاحظت مصادر نيابية من رد رئيس المجلس النيابي الحازم على رئيس الحكومة، وما يختزنه هذا الرد من أبعاد تتعدى “الوكيل” لتطال “الأصيل” وفق مقولة “بحكيك يا حسان لتسمع يا جبران”.
إذ إنّ جلسة الأونيسكو التشريعية التي شهدت ما شهدته أمس من تجاذب في مختلف الاتجاهات، سواءً بين الخصوم أو حتى بين أبناء الصف الواحد وأحياناً “البيت الواحد” حسبما حصل مع إسقاط نواب “التيار الوطني” صفة العجلة عن اقتراح قانون قدمه النائب شامل روكز ويقضي برفض التنازل عن سندات اليوروبوند إلى الخارج، وبعدما كانت قد انطلقت بإقرار قوانين أبرزها قانون تخصيص اعتماد 450 مليار ليرة لمستحقات المستشفيات حمله النائب ابراهيم كنعان بصيغة اقتراح رئاسي، مقابل إسقاط مشاريع واقتراحات أبرزها يتعلق برفع السرية المصرفية ومحاكمة الوزراء ومكافحة الفساد، سرعان ما انتهت الجلسة “على زغل” بين بري ودياب على خلفية رفع رئيس المجلس الجلسة لفقدانها النصاب قبل طرح منح الحكومة اعتماداً مالياً بقيمة 1200 مليار ليرة، ما أثار امتعاض رئيس الحكومة فبادر إلى ترجمة امتعاضه من رئيس المجلس بمطالبته بعقد جلسة تشريعية ليلاً لإقرار هذا الاعتماد، الأمر الذي استفزّ بري واستدعى منه توبيخ دياب بالقول: “ما حدا بيعلمني شو بدي أعمل”… وعلى الأثر عاجل رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل بإسناد رئيس الحكومة في مواجهته غير المتكافئة مع رئيس المجلس فغرّد منتقداً “البعض الذي طيّر أهم قانون مقدّم من الحكومة”، لتعود فتتسع رقعة المواجهة لتنضمّ إليها نائبة رئيس مجلس الوزراء وزيرة الدفاع زينة عكر التي تردد أنّ أداءها وتعليقاتها أزعجت رئيس المجلس النيابي، فآثر إلحاق التوبيخ الشفهي للحكومة بآخر مكتوب صادر عن الأمانة العامة للمجلس أكد فيه أنه “على الحكومة أن تتعلم كيفية إرسال مشاريع القوانين إلى مجلس النواب قبل التطاول عليه”.
هذا على مستوى الجبهة الحكومية المتصدعة من داخلها، أما على مستوى قوى المعارضة من خارجها فلا تزال سهام رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط هي الأمضى في التصويب على التركيبة الحكومية الهجينة والتي وصفها أمس بأنها “محكومة من غرفة عمليات سوداء”، مجدداً الإضاءة على رفضها الخوض في الإصلاحات البنيوية المطلوبة لا سيما في قطاع الكهرباء لوقف الهدر والعجز. لكن على ما يبدو فإنّ “مزراب” الكهرباء سيواصل استنزاف الخزينة العامة تحت جنح هذه الحكومة والسلطة السياسية الراعية لها بمعزل عن كل مستلزمات المرحلة الإصلاحية والمالية والنقدية الراهنة، إذ كشفت مصادر مواكبة لهذا الملف عن طلب قدمته مؤسسة كهرباء لبنان مطلع الشهر الجاري إلى المصرف المركزي لفتح اعتماد لها بالدولار الأميركي وفق سعر الصرف الرسمي قيمته 312.9 مليون دولار، موضحةً لـ”نداء الوطن” أنه “بينما بات معلوماً أنّ عمليات فتح اعتمادات بالعملة الأجنبية من قبل المركزي أصبحت مقتصرة على تلبية الاحتياجات الحيوية في ظل الأزمة النقدية والاقتصادية القائمة في البلاد، كتمويل الفيول والتحويلات الخارجية لاستيراد القمح والنفط والأدوية والمستلزمات الطبية، قد يظنّ البعض للوهلة الأولى أنّ طلب “الكهرباء” مبلغاً بالدولار بهذا الحجم إنما هو مرتبط بشراء الفيول أو معدات ضرورية”، غير أنّ ما لفت انتباه المصادر هو أنّ “طلب اعتماد بنحو 313 مليون دولار بسعر الصرف الرسمي إنما هو محدد في غايته لسداد الأموال للشركات المشغّلة للمعامل تحت عنوان المصاريف التشغيلية”، وأردفت: “الكل يعلم كيف تمت عملية تلزيم تشغيل معامل الكهرباء لمحسوبين على الأوصياء السياسيين على القطاع، وبالتالي فإنّ الملايين من الدولارات المطلوبة يراد في واقع الأمر أن تذهب إلى جيوب هؤلاء، بحيث تبلغ حصة بعض الشركات المشغلة بموجب طلب الاعتماد 90 مليون دولار، وبعضها 40 مليون دولار، ولمقدمي الخدمات 81 مليون دولار، في وقت البلد بأمسّ الحاجة إلى كل دولار لا يزال في خزينته لتمويل احتياجات الناس”، مشيرةً إلى أنّ “المصرف المركزي لم يحسم بعد طلب الاعتماد، علماً أنه من بين المبلغ المطلوب قد يكون ما قيمته 20 مليون دولار فقط مبرراً لضرورة تأمين استمرار تشغيل المعامل سيّما وأنّ الكلفة التشغيلية المقدّرة شهرياً تراوح من 8 إلى 10 ملايين دولار”.