في السراء والضراء… لطالما كان لبنان الحلقة المستضعفة في العلاقة مع محور الممانعة الذي رفع منذ السبعينات راية القتال عن بُعد مع إسرائيل عبر “ريموت كونترول” لبناني يأتمر بأوامر عابرة للحدود من سوريا إلى إيران، ولطالما كانت الضربات التي يتلقاها هذا المحور تمر عبر خاصرته اللبنانية الرخوة في إطار حرب “تسجيل النقاط” على حلبة الصراع الإقليمي. واليوم بعدما انتقلت جبهة الممانعة بكامل عتادها وعديدها إلى الداخل السوري لإنقاذ نظام الأسد باعتباره عقدة وصل المحور الممانع في بلاد الشام، تحوّلت عدّة القتال من عسكرية إلى اقتصادية في سبيل إطالة عمر هذا النظام المترنّح ومحاولة إبقائه واقفاً على قدميه أطول فترة ممكنة حتى يحين موعد التسويات الكبرى في المنطقة. ولأنه أصبح ورقة لعب إيرانية على طاولة التفاوض مع الروس والغرب، تسعى طهران إلى فتح قنوات تمويلية بديلة لضخ العملة الصعبة في عروق النظام السوري من خلال الساحات المجاورة الخاضعة لنفوذها، لتبرز في هذا المجال عمليات التهريب “على الخطين” ذهاباً وإياباً بين لبنان وسوريا بشكل دوري مستمر في استنزاف الخزينة اللبنانية وتكبيدها خسائر بمئات ملايين الدولارات سنوياً.
وبينما يقدر الخبراء الاقتصاديون حجم التهرب الضريبي والجمركي في لبنان بنحو 4.5 مليارات دولار سنوياً، ويراوح حالياً مستوى العجز في ميزان المدفوعات عند نحو 5 مليارات دولار، فإنّ وضع الإصبع على النزيف المستمر في الخاصرة اللبنانية الرخوة يصبح “بيت الداء والدواء” في عملية معالجة التسرّب الحاصل في الخزينة العامة لمصلحة “كارتيل” التهريب عبر المعابر والمرافئ بين لبنان وسوريا. وتوضح مصادر مواكبة لهذا الملف لـ”نداء الوطن” أنّ حجم تهريب مادتي المازوت والقمح المدعومتين من مصرف لبنان يكبّد وحده الخزينة خسائر سنوية تقدر بـ700 مليون دولار، مشيرةً إلى أنّ المازوت المدعوم بنسبة 85% من مصرف لبنان يكلف دعمه مصرف لبنان 400 مليون دولار وبالتالي فإنّ تهريب هذه المادة الحيوية من لبنان إلى سوريا يستنزف الاحتياطي الموجود من الدولارات في المصرف المركزي الأمر الذي يؤدي حكماً إلى زيادة الطلب على الدولار لدعم استيراد المواد الأولية في السوق اللبناني ما يرفع تالياً سعر صرف الدولار مقابل الليرة.
أما على خط التهريب من سوريا إلى لبنان، فتؤكد المصادر أنّ عمليات التهريب عبر مرفأ اللاذقية باتجاه مرفأ بيروت تسير كذلك بوتيرة متصاعدة بحيث تدير مجموعات بات اللبنانيون يعرفون هويتها، بعضها متمركز في سوريا والبعض الآخر في لبنان، آلية “التهريب المنظم” لمختلف أنواع المواد الاستهلاكية لا سيما منها المواد الغذائية ومواد البناء التي يصار إلى تهريبها وإغراق الأسواق اللبنانية بها من دون إخضاعها لضريبة جمركية، الأمر الذي يخلّف تداعيات كارثية على الصناعات الوطنية ويشكّل منافسة غير مشروعة للمنتجات المحلية وللمؤسسات الوطنية التي تقفل أبوابها الواحدة تلو الأخرى نتيجة هذه المنافسة وغياب الدولة عن حمايتها، وهذا ما سينعكس تباعاً ارتفاعاً في مستويات البطالة وتراجعاً مطرداً في عائدات الدولة الجمركية خصوصاً وأنّ أرقام وزارة المالية أشارت إلى تراجع في هذه العائدات بنسبة تفوق الـ 40% وهو ما يفاقم بطبيعة الحال عجز الخزينة ويدفع الحكومة للجوء إلى فرض ضرائب إضافية للتعويض عن العائدات الضرائبية الضائعة تحت وطأة التهرّب والتهريب الجمركي.
وعلى وقع هذه “الثقوب السوداء” التي تنخر عميقاً في بنية المالية العامة، استأنف الجانب اللبناني اجتماعاته عبر تقنية “الفيديو كول” مع المسؤولين في صندوق النقد الدولي أمس، وقد تميّز الاجتماع الذي عُقد في وزارة المالية بمشاركة حاكم المصرف المركزي رياض سلامة بعد مقاطعته الاجتماع الأول بين الجانبين ربطاً باعتراضه على عدم دقة الأرقام المقدمة في خطة الحكومة والتي تفقّط ميزان الخسائر في حسابات المصرف. وعُلم من أوساط المجتمعين أنّ الاجتماع لم يخرج عن إطار التباحث التقني واستكمال استعراض الخطط والتوجهات الحكومية إزاء سبل الخروج من الأزمة الحالية، في حين أنّ وفد صندوق النقد لا يزال متريثاً في إبداء ملاحظاته بانتظار تبلور موقف موحد ونظرة شاملة تحظى بإجماع كافة الأفرقاء المعنيين في لبنان إزاء الورقة المالية والإصلاحية المقدمة ضمن إطار طلب برنامج دعم من الصندوق، وتم الاتفاق في هذا المجال على تكثيف الاجتماعات الدورية في الأسابيع الحاسمة المقبلة بغية الوصول إلى أرضية مشتركة يتم الانطلاق منها نحو طرح سلة من البرامج القابلة للتنفيذ في الحالة اللبنانية.
وتوازياً التأم أمس اجتماع تنسيقي لمؤتمر “سيدر” في السراي الكبير برئاسة رئيس الحكومة حسان دياب حضره سفراء الدول الغربية وممثلون عن السفراء العرب وممثلون عن الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والبنك الدولي، وبرزت في الاجتماع مضامين الرسائل الفرنسية سواءً عبر المداخلة التي ألقاها عبر “سكايب” السفير المكلف مواكبة تنفيذ مقررات “سيدر” بيار دوكان أو من خلال كلمة السفير الفرنسي برونو فوشيه لناحية تركيز مطالب باريس على وجوب الإسراع في الإصلاحات واعتماد دقة أكبر في تحديد الجداول الزمنية لتنفيذها في مختلف القطاعات البنيوية وفي طليعتها قطاع الكهرباء، فضلاً عن ضرورة المبادرة إلى إظهار الشفافية في التعاطي الحكومي مع الإصلاح ومكافحة الفساد.
وإذ أضاء فوشيه على التأخير غير المبرر في وضع الإصلاحات المطلوبة في مقررات “سيدر” موضع التنفيذ ونكث الجانب اللبناني بالوعود التي قطعها منذ نحو سنتين أمام المجتمع الدولي، لاحظت أوساط المجتمعين أنّ خلاصة الاجتماع أتت لتؤكد أنّ كل المساعدات الدولية وأموال برامج سيدر الموعودة لا بد وأن تمر بداية بإبرام اتفاق سريع بين الحكومة اللبنانية وصندوق النقد، بمعنى أنّ طريق “سيدر” بات محكوماً بالمرور عبر الصندوق وهذا ما شدد عليه السفير الفرنسي بتأكيده على أولوية تأمين تقدم سريع في المفاوضات مع صندوق النقد، وبمجرد تحقيق ذلك وبدء تنفيذ الخطة مع الصندوق يمكن حينها تركيز الجهود على برامج “سيدر”، واضعاً في هذا السياق خريطة طريق إلزامية تمهّد لتنفيذ مقررات “سيدر” بشكل يضمن شفافية تنفيذ عملية الإصلاح من جانب الحكومة عبر إنشاء موقع إلكتروني للإعلان عن تقدم المشاريع والإصلاحات وتحديد جدول زمني دقيق للإصلاحات التشريعية.