لا يمكن القول ان الجلسة التشريعية لمجلس النواب التي انعقدت امس للمرة الثانية في قصر الاونيسكو، خارج مقر المجلس في ساحة النجمة، افضت الى مفاجأة مدوية لمجرد تعليقها بفعل استعصاء الانقسام الطائفي حول اقتراح قانون العفو العام حتى على القدرات الباهرة المشهودة والأرانب التسووية التي يتقن رئيس المجلس نبيه بري اطلاقها في لحظات الحشرة. ذلك ان هذه النتيجة كانت شبه مؤكدة مذ بدا واضحاً ان اقتراح العفو قد ارتبط بتوازنات طائفية وليس بمفاهيم ثابتة وجامدة حيال معايير العفو عن سائر الفئات التي يطاولها، الامر الذي استتبع مساومات فشلت في الاحتكام الى هذه المعايير وطغت عليها في المقابل حسابات المردودات الطائفية، فظهرت المعادلة السيئة التي فرزها المشروع كأنها بين كتل إسلامية تريد اطلاق سجناء في ملفات إلارهاب وامن الدولة والتهريب والمخدرات، وكتل مسيحية تريد إعادة ألوف اللبنانيين الذين هربوا الى إسرائيل قبل عشرين عاماً. وقد تعذر على الرئيس بري والمساعي الحميدة للآخرين تجنب استفحال الانقسام الطائفي والمقايضات على معيار طائفي قبل ان تنجز الجلسة ما تبقى من مشاريع فأطاح الانقسام العفو، فيما أطاح سقوط العفو ما بقي من جدول اعمال الجلسة التشريعية التي لن يكون ممكنا تحديد جلسة أخرى تتبعها قبل فتح دورة استثنائية للمجلس بعد انتهاء دورته العادية الحالية.
ورسم سقوط اقتراح قانون العفو، واقع التشرذم واختلاط حابل الحسابات السياسية بنابل عجز الكتل عن التوصل الى حل لملف حيوي كهذا، مع ان مجريات الجلسة في البنود والمشاريع التي جرى إقرارها في الجلسة النهارية كانت على قدر اكبر من المرونة ولو شابتها حدة عالية في المناقشات حيال بعض المشاريع الأساسية. وارتسمت معالم الخيبة في هذا السياق على الرئيس بري شخصيا الذي شهد له الرئيس سعد الحريري كما آخرون بانه حاول جاهدا تمرير كلمة السر التوافقية لاقرار مشروع العفو، ولكنه اخفق مصطدما بواقع طائفي نافر ساد المداولات وحال دون تسوية تمرر المشروع بكل تناقضاته. وعقب انسحاب الرئيس الحريري وكتلته من الجلسة اعتراضا على ما وصفه الحريري “محاولات البعض لإعادتنا الى نقطة الصفر” رفع بري الجلسة لغياب مكون طائفي أساسي عنها. ولاحظ مصدر نيابي بارز في “كتلة المستقبل” ان الرئيس الحريري لعب دورا محوريا على جبهتي قانون ألية التعيينات الذي قدمه النائب جورج عدوان باسم “كتلة الجمهورية القوية” وأيده الحريري وكتلته واقتراح قانون العفو. وقال المصدر ان قرار الانسحاب من الجلسة “قطع الطريق على محاولات الابتزاز من بعض الجهات السياسية وعبر عن رفض كتلة المستقبل لاعادة النقاش حول الاقتراح الى نقطة الصفر”. وأضاف ان “الكتلة لن تسمح تحت أي ظرف بتغطية سياسات الظلم والتعسف التي طاولت الكثير من السجناء الإسلاميين”.
رفع السرية المصرفية
في أي حال، فان المجريات البارزة للجلسة لم تقف عند نهايتها التي اتسمت بطابع سلبي اذ ان ما اعتبر حصيلة دسمة او مثمرة للجلسة النهارية لم يحجب فعليا ملابسات والتباسات تشريعية وسياسية واكبت إقرار بعض القوانين البارزة ولو انها تحمل عناوين براقة وجذابة خصوصا في مجال مكافحة الفساد والإصلاحات. ومعلوم ان الحصيلة الأساسية للجلسة تمثلت في إقرار عدد وافر من مشاريع واقتراحات القوانين من ابرزها فتح اعتماد إضافي في الموازنة بقيمة 1200 مليار ليرة لبنانية للمساعدات التي تنوي الحكومة تقديمها في قطاعات إنتاجية واجتماعية في ظل مواجهة ازمة الانتشار الوبائي لفيروس كورونا، وإقرار قانون رفع السرية المصرفية عن سائر العاملين في الحقل العام وقانون آلية التعيينات في وظائف الفئة الأولى والوظائف العليا في الدولة. وجاء إقرار هذه القوانين ليعكس الى حدود بعيدة مناخا سياسيا مأزوما ومتفلتا اختلطت معه حسابات الكتل اختلاطا غريبا بما عكس واقعيا حالا من الوهن لدى القوى الموالية او المشاركة في السلطة والحكومة من جهة، وانعدام وزن حقيقي لدى قوى يفترض ان تجمعها المعارضة المبدئية من جهة أخرى. ولذا برزت مفارقة لافتة في حضور الرئيس الحريري نهارا ومساء الى الجلستين مفعلا بقوة دور كتلته. كما ان دور قوة معارضة أخرى هي “القوات اللبنانية ” اتخذ وهجا واضحا من خلال تصويت المجلس مع مشروعها لاعتماد آلية التعيينات التي عدها رئيس حزب “القوات ” وكتلتها النيابية سمير جعجع “انتصارا”.
وفي ظل هذه الأجواء اكتسب التصديق على مشروع رفع السرية المصرفية عن العاملين في الشأن العام دلالات بارزة اذ يشكل هذا القانون الذي دفع به “تكتل لبنان القوي” واقعيا، عنوانا متقدما في ملفات الإصلاح السياسي ومكافحة الفساد. ولكن المواقف والملابسات التي واكبت إقراره اثارت الجوانب المتوجسة من سوء استخدام السلطة الأحادية وإمكان فتح معارك الكيدية وتصفية الحسابات السياسية من خلال توظيف القانون خصوصا وسط التشكيك الواسع في استخدام النفوذ السياسي وممارسة الضغوط على القضاء بما يحتم أولوية اقامة القضاء المستقل ضمانا لتنفيذ قانون رفع السرية المصرفية تنفيذا مستقلا وعادلا. وعلى رغم إقرار القانون برفع الايدي، فان مداخلة نارية للنائب الاشتراكي وائل أبو فاعور عكست الى حد بعيد المناخ الملتبس الذي رافق اقراره اذ تساءل في معرض تشكيكه بواقع القضاء تحت سيطرة التدخل السياسي “هل لنا ان نتحدث عن وزير عدل سابق يرفع السماعة لاحد القضاة ويقول له cheri بدنا حكم على ذوقك! “. وذهب أبو فاعور في اثارته لموضوع “تغول السلطة على القضاء “الى القول ان “بعض القضاة لا يؤتمن على هكذا مهمة يراد منها الانتقام السياسي رغم قناعتنا بوجود عدد كبير من القضاة أصحاب النزاهة والجدارة”. وليس بعيدا من ذلك اثار النائب اللواء جميل السيد بدوره موضوع ممارسات النيابات العامة متهما إياها بإذلال الناس والمس بكراماتهم”الامر الذي دفع الرئيس بري الى شطب كلامه من المحضر لان “المجلس يجب ان يحترم السلطة القضائية”.
كما ان موقف رئيس حزب الكتائب النائب سامي الجميل عكس التشكيك في تنفيذ قانون رفع السرية المصرفية انطلاقا مما أوضحته مصادر الحزب بان ما تم اقراره غير قابل للتنفيذ عمليا طالما القضاء حرم من حق رفع السرية فيما نيطت هذه الصلاحية بهيئة مكافحة الفساد. اما في موضوع قانون العفو فأوضحت مصادر الكتائب ان مقاربة الحزب له ليست طائفية او مذهبية لا سيما لناحية الملفات المتعلقة بالإسلاميين والمخدرات والمبعدين الى إسرائيل بل من زاوية متطلبات دولة القانون وتحصين القضاء وضمان العدالة وليس من زاوية الهوية الطائفية للمستفيدين.