فيما يترقب الجميع تداعيات قانون العقوبات الأميركية الجديد “قيصر” الذي فرضته واشنطن على النظام السوري وجميع من يتعامل معه، والذي يبدو أقسى من سوابقه، ما يضع مجمل الوضع الاقتصادي المنهك اصلا في لبنان تحت دائرة خطر مستجد، ويضع الحكومة أمام مسؤوليات مالية كبيرة بحال حاولت التملّص منه، او اختراقه والتوجه شرقا، فإن المعاناة اليومية للبنانيين مقبلة على صعوبات أكبر في ظل أزمة الإعتمادات المالية التي بدا إنخفاضها يظهر جليا مع تراجع كميات النفط المستوردة أو المواد الأولية الحيوية ما يهدد أساسيات العيش.
وسط كل ذلك تتجه السوق المالية اليوم الأربعاء إلى تجربة عودة سوق الصيارفة إلى العمل. إذ بعد شهر من الإضراب إحتجاجا على توقيف عدد من الصرافين، وبعد الإتفاق مع رئيس الحكومة في إجتماع يوم السبت الماضي، كما مع مصرف لبنان، على آلية معينة للعمل النقدي في السوق، قررت النقابة العودة إلى مزاولة المهنة، والإلتزام بقرارات المصرف المركزي وتعاميمه.
إلّا أن الحل لا يكمن في العودة إلى العمل وفي التعاميم التقنية، التي قد تبقى حبرا على ورق، خصوصاً وأن التجارب السابقة لا تبشّر بأي خيرٍ، إذ حاول مصرف لبنان من قبل تنظيم مهنة الصيرفة، وملاحقة الصرافين غير الشرعيين، وضبط سعر الصرف، إلّا أنه حتى يومنا هذا، ما زال الدولار يحلق في مستوياته القياسية، ويلامس الـ4500 ليرة عند بعض الصرافين.
وتركّز الآلية الجديدة على الإلتزام بتعميم “المركزي” الذي ينص على تثبيت سعر الصرف في السوق عند حد الـ3200، إلّا أن التراجع في السعر لن يكون مباشرا، بل تدريجيا ضمن أيام، وقد أعلنت النقابة عن تحديدها يوميا، ولمرّة واحدة، للصرافين عن هامش متحرك لسعر الصرف بين شراء الدولار بحد أدنى وبيعه بحد أقصى، والإعلان مجددا عن السعر المعدل يوميا بحسب التطورات. فهل ستكون هذه الإجراءات حلول عملية تطبيقية لعودة السيطرة على سعر العملة الأجنبية؟
في إتصال له مع جريدة “الأنباء” الإلكترونية، يوضح الخبير المصرفي والاقتصادي نسيب غبريل أن “الحل لا يكمن بإجراءات موضعية ومؤقتة، إنما باستعادة الثقة، وهي فُقدت منذ صيف العام الماضي، وسبّبت أزمة سيولة حادة”. وهنا، يشير غبريل إلى أن أزمة الثقة لا تقتصر فقط على القطاع المصرفي والنقدي، بل على السلطة بشكل عام والحكومة والطبقة السياسية الحاكمة.
وفي التفاصيل، يعود غبريل إلى ما قبل الصيف الماضي، بل إلى السنتين الأخيرتين التي إتُخذت فيهما قرارات متهورة، أكان لجهة زيادة الضرائب، أو زيادة الأجور عبر سلسلة لم يتم درسها بالشكل المطلوب لتأمين مواردها، وهو يعود إلى تلك الفترة للتأكيد على عمق المشكلة التي يعاني منها لبنان، والتي لا يمكن حلّها بإجراءات تقنية.
وبحسب غبريل فإن “مفتاح ثقة المواطن اللبناني، القطاع الخاص، المغتربين، والمجتمع الدولي، هو إجراءات إصلاحية جدّية تلتزم بها الحكومة ضمن خطة إقتصادية لإحداث صدمة إيجابية، وبالتالي عودة ضخ رساميل في الأسواق المالية، فيما يحتل تراجع سعر الصرف وتوحيده المرحلة الأخيرة”. وبرأي غبريل، فإن “خطة الحكومة الحالية لا ترتقي إلى المستوى المطلوب في هذا السياق”.
ويتابع غبريل: “من ناحية المنصة الإلكترونية التي من المفترض أن يطلقها المصرف المركزي، او ضخ الدولار بسعر السوق، فهي إجراءات مرغم عليها مصرف لبنان، ومن شأنها أن تحد، مؤقتا، من التدهور الحاصل في سعر صرف الليرة، إلا أنها لا تتعدى المجال التقني، ولا تحل مكان الإصلاحات الجذرية المطلوبة لإستعادة الثقة”. ويلفت غبريل إلى أن “المسألة هي مسؤولية الجميع، إبتداءً من الصرافين، مرورا بالمركزي، وصولا إلى الحكومة، فالسلطة التنفيذية من واجبها التفاهم مع جميع الهيئات الإقتصادية الموجودة، لرؤية موحّدة وأولويات واضحة”.
وعن إمكانية الحد من أسواق الصيرفة غير الشرعية، نفى غبريل القدرة الكاملة على ضبط هؤلاء الصرافين، مؤكدا على أن “الحل يكمن في المعالجة الجذرية”.
من جهة أخرى، يرى مدير أنظمة الدفع السابق في مصرف لبنان رمزي حمادة أن ”عودة الصرافين إلى العمل اليوم لا تعني أن صرف الدولار سيعود وينخفض، إلّا مع مراقبة الدولة الصرافين غير الشرعيين، أو الذين لا يلتزمون بتعاميم المصرف المركزي”، مشيرا إلى أن “الكلام عن محاولات ضبط لا ينفع، بل المطلوب إجراءات قاسية وخطة”، مستبعدا أن يتراجع سعر صرف الدولار إلى الحدود التي يشار إليها، أي 3200 ليرة.
ويقول حمادة في إتصال لجريدة “الأنباء” أن “أزمة سعر الصرف والصرافين سياسية بإمتياز، ولا يمكن فصلها عن الصراع الإقليمي الدائر في المنطقة بين إيران والولايات المتحدة من جهة، وعن الإجتهادات المبذولة لتغيير شكل إقتصاد لبنان من جهة أخرى، والمطالبة الأممية بتطبيق القرارات الدولية التي تنصّ على نزع سلاح حزب الله كـ1559 من جهة ثالثة”.
وفي هذا السياق، يشير حمادة إلى أن “حلفاء سوريا في لبنان يدفعون في هذا الإتجاه، عبر الإصرار على التنسيق مع النظام السوري وإقامة علاقات تجارية، بهدف وقف التهريب. كما أن الهجمات المشبوهة على المصارف، وتحركات الصرافين، تصب في هذا المجال”.
وهنا، ينبّه حمادة “من خطورة هذا التوجه، في ظل العقوبات المفروضة على هذا المحور بشكل عام، وخصوصا بعد سريان قانون قيصر”، مشيرا إلى أن “هذه الممارسات ستحرمنا من أي شكل من اشكال المساعدات التي قد نتلقّاها من صندوق النقد الدولي، أو الدول المانحة”.
وعن الحلول التي قد تساهم في الحد من الأزمة، يرى حمادة أن “مصادرة جميع الدولارات الموجودة في الأسواق من قِبل المصارف، وحصر جميع عمليات بيع وشراء الدولار بها، كما حصر الإستيراد عبرها، قد تكون جزءا من الحل، على أن تترافق العملية مع خطة أمنية مشددة لمحاربة الصيرفة غير الشرعية”.
إلا أن لوزير الزراعة عباس مرتضى وجهة نظر مغايرة، فقد أعلن في إتصال مع ”الأنباء” عن “وجود نوايا لدى الحكومة لضبط سوق الصيارفة، ومحاربة الأسواق غير الشرعية”، ومن موقعه يدعم هذا التوجه، الذي من شأنه إعادة السيطرة على سعر الصرف، لتأمين المواد الأولية للمزارعين، بهدف النهوض بالقطاع.
وفي تفاصيل القطاع الزراعي المهمل منذ سنوات، يرى مرتضى أن “الإرتفاع الجنوني في سعر الصرف في الأشهر الأخيرة أنهك المزارعين الذين إضطروا لشراء البذور والسماد والمواد الأولية والتشغيلية بسعر صرف وصل إلى حدود الـ4500 ليرة، ما كبد المزارع، والصناعي الغذائي، خسائر فادحة، وما رفع من ثمن المنتجات الوطنية”.
ويعوّل مرتضى على الإجراءات التي تم الإتفاق عليها بين الحكومة المركزي والصيارفة، لكي تسير الوزارة في خطتها بشكل أفضل، والتي تحتاج إلى دعم حكومي للمزارعين من جهة، وخفض لسعر الدولار من جهة أخرى.
ووفقا للخطة، يقول مرتضي إن “15 مليار ليرة ستخصص لشراء مواد أولية لأكثر من 30 الف مزارعا وتوزّع مجانا، على أن يكون هناك مبالغ أخرى تقارب الـ150 الف مليار قد تصرف على نحو قروض، او هبات للمزارعين، جنب خطة المشروع الأخضر لإستصلاح الأراضي”.
ويلفت مرتضى إلى أن “القمح الأسمر، والقمح المخصص للطحين، الحبوب، هي المنتجات الأكثر إستيرادا، وهي الزراعات التي سيتم التركيز عليها. وتهدف وجميع هذه الخطوات لتأمين محاصيل للصناعات الغذائية بشكل كبير”.
ويختم مرتضى “تسير هذه الخطة في سياق تأمين إكتفاء ذاتي في غضون سنوات، وحسب الأرقام”، مشيرا إلى أن “هدف الوزارة رفع نسبة الإكتفاء ما بين 10% و15% سنويا”.