بمعزل عن لعبة الأحجام والضرب على وتر تشتت المجموعات وتشرذم الشعارات، وبغض النظر عن محاولات زرع عناصر التخويف والتخوين في نفوس المواطنين، ووصم حراكهم الثوري بوصمة مؤامراتية واتهامهم بالانسياق خلف أجندات مشبوهة، لم تستطع كل هذه “الخزعبلات” الممنهجة أن تخفي معالم توجس حقيقي في أداء السلطة، من أن تستعيد روحية 17 تشرين زخمها في الشارع من خلال استحقاق اليوم… فكل المعطيات المواكبة لتظاهرة اليوم في ساحة الشهداء تؤكد أن تحرك “صرنا_عالأرض” المرتقب، أصاب الطبقة الحاكمة وأحزابها بحالة من رهاب المشهد قبل حدوثه خوفاً من أن يشكل منصة اشعال لفتيل انفجار اجتماعي يتحدى سطوتها ويقوّض سلطتها، فعاد الرهان بشكل واضح على سلاح “المندسين” لخرق صفوف المجموعات الثورية والتشويش على أهداف تحركها على الأرض، سيّما وأنّ العديد من “ثوار تشرين” لمسوا تسلل دخلاء إلى جبهتهم لضعضعة ركائزها وحرف معركتها مع المنظومة السياسية، نحو تصادم داخلي في ما بين المكونات الثورية… وإن لم ينفع “مندسو” الداخل في كسر شوكة الشارع، ولم يفلح الترهيب الأمني في تدجين التظاهرات وتطويقها، فإن الأحزاب الموالية جاهزة لإعادة استئناف معادلة “الشارع والشارع المضاد”!
وبانتظار ما سيحمله تاريخ 6/6 من أحداث ميدانية وتبيان مدى انعكاساته على مستوى المشهد الوطني، فإنّ السلطة لا تزال تسيّر أعمالها بالذهنية نفسها التي حكمت أداءها على مدى عقود وكأنّ شيئاً لم يطرأ على البلد، لا تفليسة ولا فساد ولا ثورة ولا مفاوضات مع صندوق النقد. فبعد توالي مسلسل الفضائح في الحكومة والاقتتال بين مكوناتها على حلبة المحاصصات السياسية في التعيينات المالية والإدارية وغيرها، أطلت أمس فضيحة جديدة من نافذة استرداد إدارة القطاع الخلوي، لتحوّله من إجراء إصلاحي لخدمة مصلحة الدولة إلى إجراء تحاصصي لخدمة مصالح سياسية، مع ما كشفته تعيينات مجلسي إدارة كل من شركتي “ألفا” و”تاتش” التي أعلنها وزير الاتصالات طلال حواط أمس، من أنّ ما كان على شكل تسريبات بات بحكم الأمر الواقع في ظل ما اتضح من تقاسم فاضح للمغانم في إدارة القطاع، إثر تشكيل “ثنائية خلوية” بين نبيه بري وجبران باسيل استحوذت على “حصة الأسد” في هذه التعيينات، وأطبقت قبضتها على مجلسي إدارة الشركتين عبر أسماء محسوبة على هذه الثنائية، تمّ اختيارها انطلاقاً من مراعاة “معايير التوازنات” في البلد، حسبما جاهر وزير الوصاية.
وإذا كانت هذه التعيينات لم تخرج أساساً عن الكادر المرسوم لصورة المنظومة الحاكمة والانطباع الراسخ عن أدائها في نظر الداخل والخارج، فإنها لا شك، معطوفةً على مسلسل عرقلة التعيينات الأخرى والتشكيلات القضائية لمآرب تحاصصية أيضاً، ستنعكس سلباً على نظرة المجتمع الدولي للمقاربات المشوّهة التي تعتمدها حكومة حسان دياب، لمفهوم الإصلاح ومكافحة الفساد الذي يشكل حجر الزاوية في تقدم المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، خصوصاً وأنّ هذه المفاوضات بدأت تضع اليد على مكامن الهدر ومزاريبه الرئيسية في تركيبة الدولة اللبنانية. وفي هذا السياق استرعى الانتباه استدعاء المدير العام للجمارك بدري ضاهر إلى اجتماع الوفد اللبناني مع وفد الصندوق الدولي، للاستماع إلى شروحاته المتصلة بآلية العمل الجمركي ومواضع الخلل فيه. وتوقفت مصادر مالية باهتمام أمام هذا المعطى ودلالاته، فأشارت إلى كون “الإصلاح في الجمارك يقع في صلب الإصلاحات الهيكلية المندرجة ضمن إطار مقررات “سيدر” ومطالب صندوق النقد، باعتبار هذا القطاع له تأثير مباشر على المالية العامة”، لافتةً إلى أنّ “العائدات الجمركية تشكل جزءاً أساسياً من عائدات الدولة، في وقت أثّر تراجعها بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة على تفاقم عجز الخزينة العامة”.
وبينما يعود تراجع العائدات الجمركية في قسم كبير من مسبباته إلى اتساع حجم التهريب، أوضحت المصادر أنّ هذا التهريب يتخذ “أشكالاً ومعابر متنوعة سواء عبر التهرّب الجمركي أو عبر التهريب المستمر، من خلال الموانئ والمعابر الشرعية وغير الشرعية”، غير أنها شددت في الوقت عينه على وجود خاصية استثنائية لوضع القطاع الجمركي تحت مجهر صندوق النقد، لا سيما وأنّ هذا الملف ينسحب بشكل مباشر على مسألة التدقيق بآليات التدقيق الجمركي عند المرفأ، حيث تنشط عمليات التهريب والتهرّب من الرسوم الجمركية على أكثر من خط بحري وعلى الأخص “خطي طرطوس واللاذقية”، علماً أنّ هذه العمليات “تشكل إحدى إهم دعائم السوق الموازي إن لم يكن الاقتصاد الموازي للاقتصاد الوطني، ما يكبد تالياً خزينة الدولة خسائر فادحة لمصلحة جهات وأحزاب وشبكات تهريب تنشط بين لبنان وسوريا”، وختمت متسائلة: “المعركة الإصلاحية اليوم هي بين الاقتصاد والاقتصاد الموازي فهل ستتجرأ الحكومة على اتخاذ خطوات عملية تجفف منابع تمويل الدويلة وتستعيد ما للدولة للدولة؟”.
أما في جديد التشكيلات القضائية، فقد أُعلن أمس عن توقيع رئيس الحكومة مرسوم التشكيلات فور وروده إلى السراي، لتنتقل الكرة بعد طول أخذ ورد من الوكيل إلى الأصيل، على ملعب التصدي السياسي لمجلس القضاء الأعلى، بحيث وبعدما استنفدت وزارتا العدل والدفاع دوريهما في هذه المهمة، ستتحول المواجهة إلى مباشرة بين الرئاسة الأولى ومجلس القضاء، بعد أن يصل المرسوم الموقّع أصولاً من رئاسة الحكومة والوزيرة المعنية ووزير المال إلى دوائر القصر الجمهوري، حيث تتجه الأنظار إلى الموقف الذي سيتخذه الرئيس ميشال عون إزاء هذه التشكيلات، وهل قرر تسهيل ولادتها لئلا يخوض مواجهة مباشرة مع الجسم القضائي.
غير أنّ مصادر مواكبة لهذا الملف لا تستبعد أن تعيد مجريات الأحداث على خط قضية استدعاء القاضية غادة عون إلى التحقيق في سلسلة من القضايا المثارة ضدها إلى مربع الاشتباك الأول، بين الرئاسة الأولى ومجلس القضاء الأعلى، سيما وأنّ “رئيس الجمهورية يعتبر استهداف القاضية عون بمثابة استهداف لذراع العهد القضائية”، مشيرةً إلى أنّ “التطورات الأخيرة في قضية استدعائها أثارت امتعاضاً كبيراً في أروقة القصر الجمهوري، في حين نُقل عن القاضية عون أنها عبّرت بشكل واضح عن غضب كبير من هذه الخطوة ووضعتها في إطار التحامل عليها”.
أما على الضفة الأخرى، فكشفت مصادر قضائية لـ”نداء الوطن” أنّ “مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات استدعى القاضية عون إلى التحقيق الاثنين المقبل، وتحرك في هذا الاتجاه بعد مسار طويل من الشكاوى المتصلة بأدائها القضائي”، مشيرةً إلى أنّ “سلسلة من القضايا والشكاوى باتت تتمحور حول هذا الأداء، من قضية النائب هادي حبيش إلى قضية هدى سلوم، مروراً بشكوى مقدمة من أحد المحامين ضدها في ملف تزوير، وصولاً إلى خروجها عن أدبيات التخاطب بين القضاة والتصاريح المسيئة التي أطلقتها بحق مجلس القضاء الاعلى”، وأوضحت المصادر رداً على سؤال أنّ “القاضي عويدات سيكون أمام خيارين حين يستجوبها، فإما يحفظ الملف أو يحيله إلى محكمة خاصة تُعيّن من قبل مجلس القضاء، في حين سيكون أمام مدعي عام التمييز النظر أيضاً في ما إذا كان سيدّعي عليها جنائياً في ملف سلوم، باعتبار الدعوى المقدمة في هذا الملف هي دعوى جنائية”.