لا شك في أنّ لعبة “فرّق تسُد” هي الأحبّ إلى قلب الأنظمة البوليسية في مواجهة محاولات قلب الطاولة الشعبية عليها، لكن في بلد كلبنان تركيبته تعتاش على صون التعايش والعيش المشترك تصبح هذه اللعبة لعباً بالنار قرب فتيل طائفي ومذهبي قد تُعرف شرارته الأولى لكنّ أحداً لا يعلم إلى أي مدى يمكن أن تمتدّ حرائقه. فما جرى نهاية الأسبوع إن دلّ على شيء فعلى عمق “تفليسة” السلطة التي باتت توغل أكثر فأكثر في زواريب الطائفة والمذهب هرباً من شارع الثورة وساحاتها، وهي إن نجحت بالشكل في تقويض الزخم الثوري نهار السبت لكنها فشلت، وكان فشلها ذريعاً، في حرف الأنظار عن لبّ المشكلة وجوهرها، فوقعت من حيث لا تدري في فخّ نصبته للحراك الشعبي المنتفض على الفساد والهدر، بعدما تم تظهير المشهد الثوري في لبنان على أنه انتفاضة ضد سلاح “حزب الله”، بحيث أتى التركيز عنوةً على هذا الشعار وإلباس الثورة لبوسه بمثابة سيف ذي حدين، فإذا كان في حده الأول هدف إلى تقطيع أوصال الثورة وشرذمة جهودها وشعاراتها، لكنه في حده الثاني أعاد إبراز مطلب حصر السلاح بيد الدولة في لبنان أمام الرأي العام المحلي والعالمي باعتباره مطلباً من المطالب الإصلاحية في البلد.
لكن بمنأى عن القرار 1559 الذي بات ذكره، بحكم الإسقاطات التي أسقطتها الممانعة عليه في العقول والأذهان، مرادفاً للمؤامرة الخارجية وطرحه يشكل حساسية مفرطة لدى جمهور “حزب الله” بوصفه واحداً من أدوات “لعبة الأمم” التي تستهدف الحزب، وبمعزل عن أنّ رئيس الجمهورية ميشال عون كان عرّاب صدور هذا القرار قبل أن يطوي صفحة “الكتاب البرتقالي” ويفتح صفحة “تفاهم مار مخايل”، ثمة طرح محلّي الصنع الكل مُجمع على أن مقاربته تنطلق من منطلقات وطنية لا تخوين ولا شبهة بالتعامل مع الخارج فيها… فأين أصبحت “استراتيجية الدفاع الوطني” فخامة الرئيس؟ وأين أصبح وعدك أمام البعثات الديبلوماسية بأنّ هذا الملف سيحتل صدارة أولوياتك بعد الانتخابات النيابية الأخيرة؟ ماذا تنتظر؟ إسحب صاعق التداول بموضوع السلاح من الشارع واسحب ملف “الاستراتيجية الدفاعية” من درجك درءاً لفتائل الفتنة ومنعاً لإشعالها واستغلالها في تجييش الناس على بعضهم… وليكن ما جرى “جرس إنذار” حسبما حذرت صادقاً بالأمس من “أنّ أي انتكاسة أمنية إن حدثت لا سمح الله لن تكون لمصلحة اي كان”.
في الغضون، وبينما تتجه الأنظار اليوم الى قصر بعبدا لمتابعة نتائج الاجتماع الذي يرأسه رئيس الجمهورية على خط مساعي توحيد الارقام والمقاربات وتوزيع الأعباء في ما يتعلق بخطة الحكومة ومفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي، علمت “نداء الوطن” أنّ مجريات الأحداث الميدانية في عطلة نهاية الأسبوع لم تسفر عن “فرملة” حركة الاتصالات الجارية على هذا الخط لا بل استكملت في شكل متواصل بين الحكومة ومصرف لبنان وجمعية المصارف ولجنة المال والموازنة النيابية.
ووفق المعلومات، فإن اقتراحات بدأت تسلك طريقها تتعلق بسندات الخزينة بالعملة اللبنانية والتي كانت خاضعة بحسب الخطة لاقتطاع بنسبة 75%، أي ما يقدر بـ 60 الف مليار ليرة من الودائع بحسب خطة الحكومة وهو ما كان سيشكل عبئاً كبيراً” على المصارف والمودعين. وفي هذا السياق كشفت مصادر مطلعة لـ”نداء الوطن” أنّ هناك تصوراً يتم العمل على إنضاجه خلال الساعات المقبلة من شأنه أن يخفف من الأعباء، لا سيما وأن المصادر أشارت إلى وجود أرقام وجوانب في الخطة المالية لا علاقة لها بمصرف لبنان، إنما بالودائع والمودعين وهي تشمل تقدير التسليفات المتعثرة والتي قد تتعثر من جراء الوضع الراهن.
أما على صعيد مصرف لبنان، وبعدما أقر صندوق النقد بمبلغ إعادة تقييم الذهب البالغ حوالى 47 ألف مليار ليرة، في ميزانية 15 نيسان 2020 على سعر 3500 ليرة، وإقرار الصندوق كذلك بمبلغ 9 آلاف مليار العائد إلى ما يُعرف بـ”unused seigniorage” ، يستكمل المصرف المركزي التفاوض مع صندوق النقد حول 15 ألف مليار للـ “seigniorage” أي تمويل السياسات النقدية التي طبّقها المصرف والقائمة على تأجيل الأكلاف لإطفائها لاحقاً من إيرادات مستقبلية وهو ما يطلق عليه مصطلح: “carry forward”.
وتوازياً، يستمر التفاوض على مسألة القيمة الصافية للموجودات بالعملات الأجنبية التي تصبح إيجابية إذا ما اعتمدت قاعدة “Fair Valuation” أي التقييم العادل للمطلوبات والموجودات بالعملات الأجنبية. وهو ما يطالب به مصرف لبنان ويرفضه صندوق النقد. وبناءً عليه، تؤكد المصادر أنّ “المحادثات والنقاشات والاتصالات مستمرة ساعة بساعة وكل كلام عن أن الموضوع انتهى إنما ينم عن جهل أو تسريبات بنية سيئة”.
وكانت النقاشات في لجنة تقصي الحقائق النيابية، بحسب المعلومات المتوافرة، أفضت في الأيام الماضية إلى التوصل لجملة نقاط وهي: تقدير تعثر تسليفات المصارف بـ 14 الف مليار بدلاً من 42 الف مليار، التوصل الى الجمع بين مقاربة الخطة المستمدة من شروط صندوق النقد والقائمة على اعتبار كل الاستحقاقات بآجالها كافة بمثابة خسائر وتصفيتها اليوم، مع المقاربة التي تعترف بالتقييم الشامل للخسائر مع معالجة تدريجية، فضلاً عن استثناء المودعين من عملية إعادة توزيع الخسائر وحصر هذه العملية بشكل عادل بين الدولة ومصرف لبنان والمصارف.