يمكن القول إن لبنان بالكاد اجتاز ثلاثة قطوعات بالغة الخطورة توالت فصولها بسرعة مريبة السبت الماضي الذي أريد له ان يكون تاريخاً لانطلاقة متجددة للانتفاضة الاحتجاجية، فإذا بفِخاخ الفتنة ومحاولات نصب شارع في مواجهة شارع تحوّله الى يوم القطوعات الطائفية والمذهبية. ولئن كانت الانتفاضة شهدت ارباكات في تراجع بعض أجنحتها وجماعاتها عن المشاركة في الاعتصام في ساحة الشهداء، إلّا انها تمكنت من حشد أعداد كافية لتظهير التحفّز الشعبي لاعادة الانطلاق بزخم نحو مرحلة جديدة من فرض برنامج تصحيحي يبدأ ببرمجة المطالب بحكومة مستقلة حقيقية واجراء انتخابات نيابية مبكرة، وهما المطلبان اللذان واكبتهما هذه المرة المطالبة بتنفيذ القرار 1559 الذي شكَّل فتيل اشعال ردود فعل الشارع المضاد الموالي للثنائي الشيعي “حزب الله “وحركة “أمل”. وبدا واضحاً منذ اللحظات الأولى لبدء اتساع الحضور الشعبي في ساحة الشهداء ان الإعداد المتقن لإجهاض الانتفاضة المتجددة قد اتخذ مداه، فبدأ الامر باستدراجات مشتبه فيها لاثارة ردود فعل جمهور الانتفاضة مثل اطلاق شائعة عن خطف أحد الناشطين، وتوجه عدد من المتظاهرين نحو شارع بشارة الخوري، فيما كانت مجموعات من أنصار الثنائي مستنفرة وجاهزة للزحف في الاتجاه المعاكس، أي في اتجاه المعتصمين في ساحة الشهداء. ومع مسارعة الجيش وقوى الامن الداخلي والأجهزة الأمنية الى توزع مهمات الفصل السريع بين الجمهورين، لم تجد مجموعات أنصار الثنائي أي حرج في تنظيم اطلاق شعارات مذهبية.
كان هذا القطوع الأول. أما القطوع الثاني فبدا أخطر عند تقاطع عين الرمانة – الشياح حيث تصاعدت لوهلة أخطار اشعال فتنة طائفية. وكشفت المعلومات المستقاة من شهود عيان ان ما حصل كان مفتعلاً من خلال حضور مجموعات من خارج المنطقة على دراجات نارية الى عين الرمانة وإطلاقها شعارات استفزازية في موضوع السلاح والمقاومة. وتجمع على الأثر عدد كبير من الأهالي وأنصار “القوات اللبنانية” في مواجهة هؤلاء وحصل اشتباك بالعصي والزجاجات الفارغة، وما لبث الامر أن أدى الى اطلاق رصاص في الهواء لم يعرف مطلقه. وانتشرت بسرعة وحدات التدخل العسكرية بأعداد كثيفة كما وحدات من قوى الامن الداخلي وفصلت بجدران بشرية عسكرية بين الفريقين، فيما تسارعت المساعي لتطويق التداعيات ومنع تجدد الخلاف والاحتكاكات.
أما القطوع الثالث فكاد يغدو الأخطر مع تفشي الاحتقان السني – الشيعي على خلفية تداول شتيمة وجهت الى أم المؤمنين السيدة عائشة، عملت على إذكاء ليل صاخب في بعض شوارع العاصمة، إذ سُمع إطلاق رصاص كثيف في محيط كورنيش المزرعة، في إطار ردّ الفعل الغاضب. كما سُمع إطلاق نار كثيف في محيط كورنيش المزرعة وساقية الجنزير، وتصاعدت أصوات من الطائفتين السنّية والشيعية تدعو الى التعقل ورفض جرّ البلد إلى فخ الفتنة.
الموقف الديني الرسمي جاء على لسان دار الفتوى التي حذّرت في بيان، جمهور المسلمين من الوقوع في فخّ الفتنة المذهبية والطائفية. وأكدت أنّ “شتم أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها من أي شخص، كائنا من كان، لا يصدر إلا عن جاهل ويحتاج الى توعية”.
وغرّد رئيس الوزراء حسان دياب مندداً “بأشد العبارات بكلّ هتاف أو شعار طائفي مذهبي، ولا سيما التعرض لأم المؤمنين السيدة عائشة، ونهيب بجميع اللبنانيين وقياداتهم السياسية والروحية التحلي بالوعي والحكمة والتعاون مع الجيش والأجهزة الأمنية المكلفة حماية الاستقرار والسلم الأهلي”.
أما الرئيس سعد الحريري، فقد توجّه الى “كل المواطنين الذين هالهم التعرض لأم المؤمنين السيدة عائشة”، وحضّ على “التزام حدود الوعي والحكمة وعدم الانجرار لأي ردات فعل يمكن أن تهدد السلم الاهلي وتفسح في المجال امام الجهلة لاشعال الفتنة بين أبناء الوطن الواحد”. وقال: “إنّ أي تطاول على السيدة عائشة هو أمر مشين ومرفوض أصابنا جميعاً في الصميم ويشكل إهانة لكل المسلمين من دون استثناء وليس لطيف واحد من أطيافهم، وهو ما كان محل استنكار وادانة من أولي الامر في السياسة ورجال الدين من اخوتنا في الطائفة الشيعية بمثل ما صدر عن أهل السنّة ودار الفتوى تحديداً”. وأضاف: ”ندائي الى كلّ الأهل والأحبة في كل المناطق أن نأخذ بدعوة دار الفتوى وتحذير جمهور المسلمين من الوقوع في فخ الفتنة المذهبية. لعن الله الفتنة ومن يوقظها”.
كذلك أصدر “حزب الله” بياناً أكّد فيه “أن ما صدر من إساءات وهتافات من قبل بعض الأشخاص مرفوض ومستنكر، ولا يعبّر إطلاقاً عن القيم الأخلاقية والدينية لعامة المؤمنين والمسلمين”، مذكراً بـ”الموقف الشرعي والديني للإمام القائد السيد علي الخامنئي وفتواه المعروفة بحرمة التعرّض لزوجات الرسول وأمهات المؤمنين وعامة مقدسات المسلمين”. وحذر”بشدة من مسبّبي الفتن والمستفيدين منها، وكل أولئك الذين يروّجون للفتنة ويدعون لها، ونرفض بشكل تام كلّ ما يمكن أن يؤدي إلى الفرقة والاختلاف والتوتّر المذهبي والطائفي والديني”.
واستنكر رئيس المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبد الامير قبلان “المحاولات المشبوهة لاثارة الفتن المذهبية بين اللبنانيين وضرب وحدتهم الوطنية والإسلامية”، وندّد بـ”أي إساءة لأي رمز ديني من منطلق رفضنا للشتم والتعرض لكرامة الرموز الدينية من كل الطوائف والمذاهب، ولا سيما شتم أم المؤمنين السيدة عائشة، فهذه الإساءة مرفوضة ومدانة على مختلف المستويات الأخلاقية والدينية”.
واعتبر الرئيس نجيب ميقاتي أن “التعرض للرموز الدينية أمر مدان ومرفوض، ونضم صوتنا إلى أصوات الداعين إلى التعقل ووأد الشرور وعدم الانجرار وراء مخططات تهدف الى اثارة الفتن والنزاعات بين أبناء الوطن، وتحويل الأنظار عن الأزمات المعيشية والاقتصادية التي وحدت صرخة اللبنانيين. حمى الله لبنان من الفتن”.
وغرد رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط: “أهم شيء ألا نقع في لعبة الأمم على حساب الوحدة الوطنية في لبنان”.
ووُزع ليلاً بيان للسيد بهاء الحريري دعا فيه جميع اللبنانيين الى “التحلّي بالوعي والمسؤولية والوقوف خلف الجيش الذي هو الضامن الوحيد للسلم الأهلي ومنعاً للإنجرار وراء أبواق الفتنة”.