قد يكون أغرب ما واكب “طلة” السلطة السياسية غداة تجاوز البلاد قطوع اقترابها من اشتعال مذهبي وطائفي شديد الخطورة، أنها لم تعرف حتى الوسيلة الممكنة لستر معاركها الداخلية المتكاثرة بين أركانها فذهبت مواقف متعاقبة لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون من القضاء والإصلاح كما مواقف لرئيس الوزراء حسان دياب من خطر الفتنة هباءً منثورا بعد انكشاف احتدام خلاف جديد بين بعبدا والسرايا. أما النتيجة السلبية الأخرى التي طفت على سطح الاحتدامات المتعاقبة بين أهل الحكم الذين لم يعد يجمعهم على ما يبدو سوى المعزوفة الفاقدة مفاعيلها بتحميل الحكومات والسياسات السابقة وزر الأزمات المتفاقمة، فتمثلت مجدداً في تجميد متكرر لمشروع التشكيلات القضائية الذي ما ان يجتاز فخاً حتى تنصب له فخاخ بما يبقيه أسير لعبة صارت مكشوفة وهدفها تدجين القضاء فيما تصدح أناشيد التغني باستقلاليته.
والواقع أنه في الوقت الذي كانت تتصاعد الانتقادات الواسعة لغياب رموز الدولة والحكومة عن المشهد المحتقن الذي عاشته البلاد السبت الماضي واقتصرت التحركات على احتواء اخطار الفتنة المذهبية والطائفية التي ذرت قرنها طوال يوم السبت الماضي تخبطت السلطة بقوة في مجموعة مفارقات سلبية بل في معارك صغيرة بما يعكس الواقع المفكك الذي بات يطبع العلاقات بين أهل الحكم كما الواقع الحكومي الذي يتراجع باطراد. وتمثلت أولى ملامح التخبط السلطوي والحكومي في نتائج الاجتماع المالي الثاني الذي انعقد في قصر بعبدا برئاسة الرئيس عون سعياً الى توحيد الأرقام المالية التي يجري الوفد اللبناني المفاوض محادثاته مع صندوق النقد الدولي على أساسها. وخلص الاجتماع الى بيان شديد الاقتضاب يفيد أن “المجتمعين توافقوا على ان تكون الأرقام الواردة في خطة الحكومة منطلقا لاستكمال المفاوضات مع صندوق النقد الدولي”.
وعلمت “النهار” أن ما أعلن من حصيلة للاجتماع عاكس ما كان واقعياً مخرجاً شكلياً لنتائج الاجتماعين اللذين انعقدا في بعبدا واللذين لم يتوصل المشاركون فيهما الى توحيد الأرقام المالية. وأفادت المعلومات أن الأسباب التي تحول دون الاتفاق عليها من حيث المبدأ تتصل بإعادة هيكلة الدين، ذلك أن الأرقام المتعلقة به تخضع، للتعديل والتغيير بحسب المفاوضات بين الحكومة والدائنين في الخارج وفي الداخل علماً أن اختلافات واسعة للغاية تقوم بين الجهات المعنية حول حجم القروض المتعثرة وهي خلافات تتمظهر بقوة بين خطة الحكومة وأرقام مصرف لبنان وورقة جمعية المصارف. لذا فإن النظرة غير إيجابية من جانب صندوق النقد الدولي حين يكون هناك تباين هائل في أرقام الجانب اللبناني مما يضعف موقفه التفاوضي. بيد أنه ما أن انتهى الاجتماع وصدر البيان الرسمي، حتى تبيّن أن ما ورد فيه من حيث اعتماد الأرقام الواردة في خطة الحكومة منطلقاً واضحاً لاستكمال المفاوضات مع صندوق النقد الدولي لم يكن مطابقاً لما اتفق عليه بدقة من أن خطة الحكومة لا أرقامها هي المنطلق للمفاوضات، علماً أن حاكم مصرف لبنان ظل متحفظاً عن ارقام الحكومة.
وقد وصف النائب نقولا نحاس وصف بيان اجتماع بعبدا أمس بأنه “يتخطى المنطق والواقع”، وقال إن “التفاوض من الحد الأعلى هو استسلام، واعتبار كل ديون الدولة هالكة هو استسلام وضرب موجع للمودع وللاقتصاد. التوافق المفترض في البيان لا يمكن أن يكون بديلاً من التوافق الجامع المناهض للخطة. ارحموا هذا الوطن”.
بين بعبدا والسرايا
أما التطور الآخر الذي برز أمس، فتمثّل في انفجار خلاف بين قصر بعبدا والسرايا على خلفية مرسوم التشكيلات القضائية الذي كان شق مسيرته الجديدة عبرها بعدما اقترن باكتمال تواقيع وزيرة العدل ووزير المال ورئيس الوزراء عليه السبت الماضي وأرسل الى دوائر قصر بعبدا في انتظار موقف رئيس الجمهورية منه. وأمس تبلغت السرايا من دوائر القصر أن الرئيس عون لن يوقّع المرسوم. وعلمت “النهار” أن السبب المباشر الذي برّر به عدم التوقيع هو انزعاج بعبدا من أداء رئاسة الوزراء وتحديداً الأمين العام لمجلس الوزراء محمود مكية الذي اعتبرت أنه تصرف حيال توقيع مرسوم التشكيلات القضائية بشكل مخالف للأصول، كما أخذت عليه إحجامه عن حلف اليمين أمام رئيس الجمهورية بعدما باشر مهماته رئيساً موقتاً بالتكليف لمجلس الخدمة المدنية. وتفيد المعلومات أن الرئيس عون وجه رسالة جوابية الى السرايا ليضع الأمور في نصابها وأن “لكل سيّئ حدوداً في التعاطي مع الرئاسة”.
وكانت ملامح موقف بعبدا برزت مع تغريدة للوزير السابق سليم جريصاتي انتقد فيها مكية قائلاً: “دعوة قوية الى أمين عام مجلس الوزراء في شأن خطوتين أقدم عليهما بخفّة لم نعهدها فيه. تغريدة في شأن مسار مرسوم عادي في سياق احتفالية توقيع في رئاسة الحكومة، وتولي رئاسة مجلس الخدمة المدنية بالوكالة من دون حلف اليمين أمام رئيس الجمهورية. يكفينا غير المألوف في معرض الجد”. وكان مكية غرّد السبت الماضي معلناً ورود مرسوم التشكيلات القضائية الى الأمانة العامة لمجلس الوزراء وأضاف: “اليوم أرسلته الأمانة العامة للتوقيع من قبل وزيرة الدفاع ووقّعت ووزير المال ووقع واليوم وقعه دولة الرئيس. اليوم أرسل الى المديرية العامة لرئاسة الجمهورية”.
ويُشار الى ان رئيس الجمهورية تناول الوضع القضائي في كلمة له أمس في الذكرى الـ21 لاغتيال القضاة الأربعة في صيدا، فاعتبر أن “مسؤولية حمل ميزان العدل والحكم وفق الضمير والأخلاق الإنسانية يحتمان على القاضي ملاحقة من أوصلوا البلاد الى هذا الدرك الاقتصادي الخطير الذي نعيشه اليوم”. وقال: “إن لم يشعر اللبنانيون أن من أفقرهم بات تحت المحاسبة وفي يد القضاء فلن يتحقق اصلاح مرجو ولن نتمكن من بناء وطن حديث تسوده سلطة القانون”. وجدّد “التعهد للقضاة بأن يكون مظلة واقية لهم في مواجهة الضغوط السياسية التي قد يتعرضون لها”.
الا أن هذه الأجواء المحتدمة لم تمنع تقديم موعد جلسة مجلس الوزراء الأسبوعية في قصر بعبدا من الخميس الى غد الأربعاء لاستعجال إقرار التعيينات الإدارية التي أرجئت من الجلسة السابقة. وأغرب ما في أسباب عقد الجلسة الأربعاء بدل الخميس أن المرشح المتوافق عليه لتولي منصب المدير العام لوزارة الاقتصاد محمود أبو حيدر يبلغ الخمس والأربعين من العمر بما يحول دون تعيينه ولذا سيعين قبل يوم واحد من هذا “الاستحقاق”!