وكأنّها طبول الحرب تُقرع في المنطقة… أقله هذا هو الهاجس الذي يتعاظم وراء المشهد حيث يبدو لبنان في خضم أزمته الطاحنة اقتصادياً ومالياً واجتماعياً واقفاً على صفيح ساخن من الاحتمالات والسيناريوات السوداودية، في ظل تعمد السلطة انتهاج سياسة الهروب إلى الأمام في شتى المقاربات والملفات هرباً من موجبات الإصلاح ومتطلبات مكافحة الهدر والفساد. ومع اشتداد الخناق على محور الممانعة وبلوغه حافة الاختناق، من طهران إلى بغداد وصنعاء ودمشق وبيروت، بدأت دوائر مراقبة عن كثب لأبعاد الصورة المحلية والإقليمية ترصد روائح بارود متصاعدة في الأرجاء، ليشكل أي حدث من الأحداث في المرحلة الراهنة مشروع منزلق محتملاً نحو اشتعال شرارة اندلاع حرب ضروس… الكل يعلم جبهاتها ومنطلقاتها، لكنّ أحداً لا يعلم نتائجها وخواتيمها.
وفي هذا السياق، يعتبر المراقبون أنّ الأخطر في المشهد القاتم هو وجود أكثر من طرف تتقاطع مصالحه مع فرضية اندلاع الحروب باعتبارها إحدى وسائل الهروب إلى الأمام من أزمات خانقة يعيشها مختلف اللاعبين على الساحة الإقليمية والساحات المحيطة، من القرن الأفريقي إلى البحر الأحمر مروراً بمضيقي باب المندب وهرمز وصولاً إلى البحر المتوسط، حيث يبدو الجميع متأهباً واضعاً إصبعه على الزناد بانتظار الطلقة الأولى. ففي إيران تتفاقم تداعيات الأزمات المتناسلة مالياً واقتصادياً ونووياً ويواصل التومان انهياره دراماتيكياً. وفي سوريا تشتد وطأة الحصار الغربي على نظام الأسد حيث أحكم قانون “قيصر” قبضته على رأس النظام والمتعاونين معه بالتزامن مع عودة نطاق الحراك الثوري إلى الاتساع على وقع احتدام الكباش الروسي – الإيراني على الأرض، ليتوقف البعض كذلك في ظل مشهدية تضافر الأزمات عند عنصر الانتخابات الرئاسية الأميركية الذي دخل بقوة في ميزان الحسابات الإقليمية مع دخول دونالد ترامب الميل الأخير من سباقه نحو إعادة تجديد الولاية الرئاسية، وهو ما قد يشكل، ربطاً ببورصة الرهانات الإقليمية على احتمالات الربح والخسارة في معركته، فتيلاً إضافياً من فتائل المواجهة العسكرية… أما لبنان فهو لم يكن ولن يكون بمنأى عن أي سيناريو مواجهة من هذا القبيل بفعل إمعان السلطة اللبنانية في سياسة ربطه واقتياده مخفوراً نحو أتون الصراع في الإقليم لا سيما على جبهة “التوأمة” القسرية بين خياراته وبين خيارات الممانعة، في وقت تقف إسرائيل متحيّنة اللحظة العدوانية المناسبة للانقضاض على الساحة اللبنانية وتصفية حساباتها الدموية العالقة مع اللبنانيين منذ صيف الـ2006.
وتأكيداً على تبلور صورة النوايا والاستعدادات الصدامية على الجبهة اللبنانية – الإسرائيلية، كثفت إسرائيل بشكل ملحوظ خلال الساعات الأخيرة طلعاتها الجوية على علو منخفض في أجواء العاصمة والمناطق، جنوباً وبقاعاً وشرقاً وغرباً، بينما استرعى الانتباه تزامناً تداول الإعلام الإيراني بشكل مركّز أمس بفيديو أعدّه “الإعلام الحربي” التابع لـ”حزب الله” ويتضمن مشاهد عن إحداثيات لبنك أهداف من المواقع الحساسة في العمق الإسرائيلي متوعداً تحت شعار “أُنجز الأمر”، بضرب هذه الأهداف. هذا الفيديو الذي تمت ترجمته إلى اللغة العبرية وأرفق بمقطع صوتي لأمين عام “حزب الله” السيد حسن نصرالله يهدد فيه بالقدرة على استهداف تل أبيب، نشره كذلك نجل نصرالله، جواد، على صفحته عبر موقع “تويتر” للدلالة على جدية مضامينه وتبنيه رسمياً من قبل قيادة الحزب، وأرفقت إعادة التغريدة التي وضعها على حسابه بعبارة: “لأنه أنجز الأمر (بالعربية والعبرية) كل الرسائل الجوية والبرية وعبر الواسطة لم تعد تجدي نفعاً”.
في الغضون، لا يزال لبنان أسير أحجية “جنس الملائكة” في البحث عن الحلول لأزماته وسط انعدام ثقة الناس بالطبقة الحاكمة واهتزاز حتى ثقة أركان هذه الطبقة بأنفسها. إذ وفي الوقت الذي لا تزال حالة “الأخذ والرد” متسيّدة مشهد المقاربات المالية للحكومة ومراوحة عملية الإصلاح على حالها من التسويف والتأجيل ما بات يهدد جدياً بنسف طاولة المفاوضات مع صندوق النقد، ينطلق الأسبوع بيوم مفصلي على مستوى تحديد مصير حوار بعبدا الذي دعا إلى انعقاده رئيس الجمهورية ميشال عون الخميس المقبل، بحيث من المرتقب أن تتضح خلال الساعات القليلة المقبلة خريطة المواقف النهائية إزاء المشاركة من عدمها في طاولة حوار، لا سيما على ضفة الرافضين لانعقاده دون دراسة جدوى وطنية، سياسية وسيادية، لجدول أعماله.
وفي هذا الإطار، تتجه الأنظار عصراً إلى “بيت الوسط” لترقب ما سيخرج به رؤساء الحكومات السابقون من موقف إثر اجتماعهم، وسط أجواء رشحت ليلاً تفيد باتجاه الأمور نحو اتخاذ قرار بعدم المشاركة طالما لا يتضمن الحوار في بنوده قضايا أساسية ومصيرية تحاكي جوهر الأزمة الوطنية، وفي ضوء ذلك نقلت مصادر مواكبة للاتصالات الجارية على أكثر من خط لـ”نداء الوطن” أنّ خيار إرجاء موعد انعقاد الحوار بات مرجحاً، كاشفةً عن “نصائح أسديت في الساعات الماضية إلى دوائر الرئاسة الأولى بالمبادرة إلى اتخاذ قرار الإرجاء ذاتياً في خطوة استباقية لإعلان فشل الدعوة الرئاسية تحت وطأة عدم وجود توافق راهناً على التجاوب معها وإفساحاً في المجال أمام تأمين أرضية وطنية شاملة توسّع دائرة القبول بالمشاركة غداة نضوج صيغة حوارية مقبولة من الجميع”.
وليس بعيداً عن هذا الاتجاه، برز أمس في عظة البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي عدم استبعاده تأجيل انعقاد الحوار “لفترة إعدادية ضرورية” كما وصفها، راسماً في هذا السياق الإعدادي لجدول أعمال الجلسة الحوارية المنشودة “خريطة طريق ثابتة” تفنّد القضايا الوطنية الواجب بحثها وينتج عنها “وثيفة تصوّب الخيارات والمسار، وتطلق الاصلاحات وتعيد لبنان إلى مكانه ومكانته فيتصالح مع محيطه العربي ويستعيد ثقة العالم به”، معدّداً من أجل تحقيق ذلك سلسلة من البنود أبرزها: “تأكيد وحدة لبنان وحياده، تحقيق اللامركزية الموسعة، صيانة مرجعية الدولة الشرعية بمؤسساتها كافة وبخاصة الأمنية والعسكرية، الإقرار الفعلي بسلطة الدولة دون سواها على الأراضي اللبنانية كافة، التزام قرارات الشرعية الدولية، مكافحة الفساد، وحماية استقلالية القضاء وتحريره من أي تدخل أو نفوذ سياسي أو حزبي”.