للأسف، كل المعلومات والمؤشرات والمعطيات المحيطة بالمشهد اللبناني باتت حالكة السواد ليبدأ وميض الضوء في آخر النفق يتناقص يوماً بعد آخر. هي خلاصة مأساوية أضحت مختلف الانطباعات، الموالية كما المعارضة، تتقاطع عند تأكيدها في ظل إجماع وطني قل مثيله في لبنان على كون حكومة حسان دياب تقود البلاد عاجلاً وليس آجلاً نحو “مهوار” اقتصادي ونقدي واجتماعي لم يعد يفصل اللبنانيين سوى خطوات معدودات عن السقوط المدوّي في قعره. لكن ورغم سيل المآخذ المحقة على أداء دياب، ثمة ميزة جوهرية في تركيبته الحكومية وهي أنه استطاع في بضعة أشهر أن يعرّي الطبقة الحاكمة التي أنتجته، ليعكس بعجزه عجزها، وبتخبطه تخبطها، وبسوء إدارته سوء إدارتها لمقدرات اللبنانيين حتى فقدت السيطرة على وضعهم المعيشي وأفقدتهم القدرة الشرائية والاستهلاكية واقتادتهم مخفورين إلى حافة الجوع والاستعطاء لتعترف بلسانها خلال الساعات الأخيرة أنّ “الأمن الغذائي” أصبح مهدداً في البلد.
فما كان قد أضاء عليه رئيس الحكومة في أيار الفائت في مقال “واشنطن بوست” الشهير من أنّ لبنان سيواجه “أزمة غذائية كبيرة مع توقف اللبنانيين عن شراء اللحوم والفواكه والخضار ومع الصعوبات حتى في شراء الخبز”، وما كانت قد نشرته منظمة “هيومن رايتس ووتش” عن أنّ “الملايين من سكان لبنان مهددون بالجوع”، وبالتزامن مع توصيف وزير الداخلية محمد فهمي للوضع المعيشي القائم بأنه أشبه بـ”قنبلة موقوتة” متوعداً في المقابل بإجراءات بوليسية صارمة لقمع الاحتجاجات على الطرق، ارتقت المخاوف المعيشية بأصدائها السوداوية أمس إلى مرتبة مصارحة رئيس الجمهورية ميشال عون زواره بأنّ “الهمّ الأول الآن هو تحقيق الاكتفاء الغذائي للشعب اللبناني”، وهو إقرار رئاسي صريح يختزن مدى جسامة الأخطار المحدقة بالساحة الوطنية لتطال في أبعادها “لقمة عيش” الناس حرفياً، سيما وأنّ التطورات والمستجدات على المستوى الشعبي بدأت تسجل في الآونة الأخيرة ظواهر مخزية من قبيل عرض مواطنين مقتنيات شخصية لهم على صفحات التواصل الاجتماعي في سبيل مقايضتها بمواد غذائية وحليب للأطفال.
وليس بعيداً عن هذه الأجواء، أتى تحذير متجدد بالصوت والصورة لرئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط أمس من أنّ البلد في طريق العودة إلى “العصر الحجري”، ناصحاً بتموين القمح والمازوت لمواجهة المرحلة المقبلة. وأفادت مصادر اشتراكية “نداء الوطن” أنّ ما تحدث عنه جنبلاط إنما يرتكز على وقائع ملموسة تشي بأنّ “الأسوأ لم يأت بعد، وذلك بناءً على سلسلة من المعطيات القائمة بدءاً مما اتضح بأنّ كل الإجراءات والتدابير والتعاميم التي اتخذتها الحكومة غير قادرة على لجم تدهور الليرة، مروراً بالتعقيدات المحيطة بتطبيقات قانون قيصر والمحاذير التي يفرضها على الاستيراد والتصدير في ظل استمرار الحكومة على ترددها في مخاطبة الإدارة الأميركية طلباً لبعض الاستثناءات، ووصولاً إلى الإبقاء على خطوط التهريب مفتوحة عند الحدود اللبنانية – السورية ما يعني أنّ استنزاف السوق النقدي خصوصاً والأسواق اللبنانية عموماً مستمر عبر الحدود حتى إشعار آخر، كما شدد وزير الخارجية السوري وليد المعلم في كلامه قبل يومين حين أكد صراحة أنّ الترسيم مرفوض والمس بالملف الحدودي ممنوع”.
وإزاء هذا الواقع المشؤوم، ترجح مصادر اقتصادية لـ”نداء الوطن” أنّ يتسارع تدحرج كرة الأزمة الاقتصادية على الأرضية الاجتماعية والمعيشية في المرحلة الراهنة على وقع تسارع وتيرة الصعود الجنوني للدولار واقتراب الليرة اللبنانية من فقدان 100% من قيمتها السابقة، مشيرةً إلى أنّ ما يتردد عن أزمة غذائية في البلد تخطى عتبة الهواجس ولم يعد بعيداً عن أرض الواقع، فمن جهة الأداء الحكومي أثبت انعدام القدرة على لجم تفلّت أسعار الصرف، ومن جهة ثانية تتضاءل القدرة على الاستيراد تباعاً بفعل محدودية فتح الاعتمادات بالعملة الأجنبية، في حين أنّ الدول الأخرى التي كان من الممكن أن تمد يد العون للبنان في هذه المرحلة العصيبة أصبح همّها تلبية احتياجات شعوبها بالدرجة الأولى تحت وطأة جائحة كورونا، حتى أنّ بعض الدول وضع ضوابط وقيوداً على تصدير المواد الغذائية والأولية لكي تعزّز فرص صمودها داخلياً في مواجهة تداعيات هذه الجائحة.
وفي سياق متقاطع، توقفت المصادر باهتمام عند عبارة “قلبي ينفطر على لبنان” التي قالتها مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا غورغيفا أمس في معرض توصيفها الوضع اللبناني، لافتةً الانتباه إلى أنّ ذلك أتى بمثابة “نعي رسمي من الصندوق” لمحاولات إنقاذ الوضع في لبنان، معتبرةً أن تصريحاً معبّراً كهذا يجسد بعمق حقيقة الأزمة الاقتصادية والنقدية اللبنانية لا سيما وأنه لم يسبق لأي مسؤول في صندوق النقد أن استخدم مثل هذه العبارات في خضم مفاوضات مستمرة مع أي بلد آخر عانى مشاكل اقتصادية ونقدية، وهو ما رأت فيه المصادر تصريحاً أشبه بـ”التوبيخ” للسلطة اللبنانية على تلكؤها في إنجاز الإصلاحات المطلوبة لإنقاذ الوضع، مشددةً على أنّ غورغيفا بدت في تأكيدها عدم وجود “سبب حتى الآن يدفعها إلى رؤية حدوث خرق ما في جدار الأزمة الاقتصادية في لبنان من خلال المفاوضات الجارية بينه وبين الصندوق”، وكأنها تحمّل حكومة دياب مسؤولية مسبقة عن فشل هذه المفاوضات ربطاً بتقاعسها عن تحقيق أي إنجاز إصلاحي ولا حتى وضع خارطة طريق حكومية واضحة المعالم للخروج من الأزمة.