مشهدان تنازعا “اليوم الأميركي” أمس في لبنان، الأول جسد ترجمة ميدانية من “حزب الله” وبيئته الحاضنة لقرار المواجهة مع الولايات المتحدة، والمشهد الثاني كرّس نأي لبنان الرسمي بنفسه عن تداعيات خطاب الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله من خلال تشريع الأبواب الرئاسية أمام زيارة قائد القيادة الوسطى في الجيش الأميركي الجنرال كينيث ماكينزي توكيداً على كون الدولة اللبنانية لا تزال غير معنية بأجندة معاداة أميركا. فبغض النظر عن عدم زيارة ماكينزي السراي الحكومي لاعتبارات متصلة بكون ساكنها هو بمثابة موظف لدى “حزب الله” برتبة رئيس حكومة ولا وزن له خارج هذا المعيار وفق المنظور الدولي، تبقى الحفاوة التي أحاط بها رئيس الجمهورية ميشال عون الضيف الأميركي وحرصه على أن يطبع صورة مصافحته ماكينزي بضحكة عريضة علت وجهه لحظة استقباله في قصر بعبدا، وحتى استضافته في “عين التينة” ورمزيتها الدالة على تموضع رئيس مجلس النواب نبيه بري في “خط الوسط” على ملعب الصراع الإيراني – الأميركي، وصولاً إلى فرش السجاد الأحمر في اليرزة والتشريفات العسكرية التي أقامها قائد الجيش العماد جوزيف عون لماكينزي، كلها مؤشرات في الشكل والمضمون، إن دلت على شيء فعلى كون لبنان الرسمي لا يزال حريصاً على تظهير نفسه ضمن إطار “البيئة الحاضنة” لأميركا.
ففي سياق مشهدية شبّهها بعض المراقبين بأداء “المخطوف حين يحاول إيصال رسائل مشفّرة إلى الغير خوفاً من افتضاح أمره أمام خاطفه”، كاد أداء الدولة اللبنانية في احتضان المسؤول العسكري الأميركي أن يرسم عبارة “HELP” في الأجواء، في إشارة إلى فقدان الدولة سيطرتها على دفة الحكم تحت وطأة اشتداد سطوة محور الممانعة على مسار الأمور في السياسات الداخلية والخارجية للبنان، وفق ما لاحظت مصادر ديبلوماسية، مؤكدةً لـ”نداء الوطن” أنّ “نجاح زيارة ماكينزي وإتمام جدول أعمالها كما هو مقرر، كان أبلغ ردّ على أجندة إيران في لبنان، لا سيما لناحية تأكيده الاستمرار في دعم الجيش اللبناني الذي يدافع عن استقلال لبنان وسيادته، في مقابل تنويه رئيس الجمهورية نفسه بهذا التعاون ومطالبته بتطويره أكثر”.
وبالتوازي مع الزيارة العسكرية للبنان، حرصت الديبلوماسية الأميركية على تجديد الموقف الداعم للبنان وعزمها على “مساعدته لئلا يكون تابعاً لإيران” حسبما عبّر وزير الخارجية مايك بومبيو، مشدداً على مواصلة التمييز بين سياسة تعزيز العقوبات على “حزب الله” وبين سياسة دعم ركائز الدولة في لبنان. على أنه وفي معرض تأكيده على ضرورة “مساعدة الشعب اللبناني في تكوين حكومة ناجحة تنفذ الإصلاحات الضرورية وألا يكون لبنان بمثابة دولة وكيلة لإيران”، استرعى الانتباه ما أكده بومبيو لجهة تصدي بلاده لمحاولات استيراد “حزب الله” النفط الإيراني الخام إلى لبنان، سيّما وأنّ المصادر الديبلوماسية رأت في هذا التصريح رسالة أميركية صريحة مفادها بأنّ “واشنطن على دراية بمخططات إيران الهادفة إلى استخدام حسابات الدولة اللبنانية كوسيلة تمويل لـ”حزب الله” بعد تجفيف منابع تمويله”، موضحةً في هذا الإطار أنّ “ما تطرحه طهران في هذا المجال هو فتح قناة لنقل المازوت والغاز من إيران إلى بيروت عبر طرطوس السورية، على أن يستلم الحزب هذه الشحنات ويبيعها إلى الدولة اللبنانية بالليرة فيكون بذلك قد استخدم الخزينة العامة لتمويل نفسه تحت ستار يتم تقديمه على أنه دعم نفطي إيراني للبنان”.
في الغضون، تواصل السلطة اللبنانية ممارسة سياسة النأي بالنفس عن الإصلاح المنشود، وقد بدت علامات هذه السياسة “فاقعة” أمس مع إقدام رئيس الجمهورية على الطلب من المجلس الدستوري “إبطال القانون المتعلق بتحديد آلية التعيين في الفئة الأولى في الإدارات العامة وفي المراكز العليا في المؤسسات العامة” وهو ما يؤكد السعي لتكريس ذهنية “المحسوبية والاستزلام” في التعيينات الإدارية مقابل الإطاحة بالشفافية التي تفرضها الآلية الواجب اعتمادها في تعيين موظفي الدولة. فبعد طول تهميش لهذه الآلية التي أقرها مجلس النواب وتعمّد مجلس الوزراء تجاهلها في كل التعيينات التحاصصية الفضائحية التي أقرتها حكومة دياب، لم يجد عون بداً من جعل الرئاسة الأولى تتصدر جبهة إجهاض آلية التعيينات تماشياً مع رغبة رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل في التحرر من قيودها القانونية والدستورية، الأمر الذي لا شكّ في كونه سيعمّق الندوب في وجه العهد العوني بنظر المجتمع الدولي وسيكرس صورته الرافضة لاعتماد الإصلاحات اللازمة في سبيل إعادة استنهاض الدولة ومؤسساتها.
وفي سياق متصل بأداء “التيار الوطني الحر” الاستنسابي وغير المبدئي في سدة السلطة، برز أمس ما كشفته مصادر نيابية لـ”نداء الوطن” عن إمكانية اتجاه رئيس “التيار” نحو إجراء “مقايضة” بين قبوله بإقرار العفو العام مقابل ضمان حصوله على الأكثرية النيابية اللازمة لتمرير مشروع قانون الهيئة الناظمة للكهرباء في مجلس النواب بشكل يشرّع منح وزير الطاقة صلاحيات أوسع تخوله الهيمنة على أداء هذه الهيئة. وأوضحت المصادر أنّ “المعلومات المتوافرة في هذا المجال تشي بأنّ باسيل مستعد للتراجع عن موقفه المعارض لإقرار العفو العام في ظل ما يُنقل عن سعيه إلى استمالة بري نحو إجراء المقايضة بين إقرار هذا القانون وبين إقرار قانون الهيئة الناظمة بالصيغة التي يريدها، وذلك بالتوازي مع انكباب الحكومة على درس مشروع القانون تقنياً وسياسياً لرفعه إلى الهيئة العامة تمهيداً لتعيين أعضاء الهيئة”.
واليوم، يعقد مجلس الوزراء جلسة له في السراي الحكومي برئاسة دياب وعلى جدول أعمالها بنود عادية لن يخرق رتابتها سوى بند ملء الشغور في هيئة التفتيش القضائي. وأكدت مصادر وزارة العدل لـ”نداء الوطن” أنه سيصار خلال جلسة اليوم إلى تعيين ٣ قضاة تم اختيارهم من قبل الوزيرة ماري كلود نجم “بعد اتباع آلية شفافة شملت وضع معايير موحدة وإجراء مسابقات ومقابلات”، مشددةً في هذا السياق على أنّ “الهدف من وراء سلة التعيينات القضائية هذه تفعيل هيئة التفتيش وتطعيمها بأشخاص جدد وكفوئين”.