ليس بجديد القول أن السياسات الحكومية المُتعاقبة لم تستطع خلق هيكلية إقتصادية قوية، حيث أن هذه الحكومات كانت مُنشغلة بحلّ الأزمات السياسية والأمنية التي عصفت بلبنان منذ إنتهاء الحرب الأهلية. الإقتصاد اللبناني يعتمد على الإستيراد لتلبية حاجة السوق الداخلي وهو ما يتطلب دولارات لتمويل هذا الإستيراد. وحتى فترة قريبة (قبل 17 تشرين الأول 2019) كانت هذه الدولارات تأتي من عدّة مصادر أهمّها: تحاويل المُغتربين، السياحة، التصدير وتدفق رؤوس الأموال بهدف الإستثمار (ودائع، إستثمارات أجنبية مباشرة، وسندات يوروبوندز). في هذا الوقت كان لبنان رهينة الفساد الداخلي الذي أوصل الدين العام بالدولار الأميركي إلى حدود الـ 33 مليار دولار من دون أن يكون هناك أي إستخدام إقتصادي فعّال لهذا الدين بالعملة الصعبة.
شكّل يوم 23 آب 2019 لحظّة تحوّل سلبية حيث تقاطعت كل العوامل السلبية (تردّي المالية العامّة، إرتفاع الدين العام، المواجهة السياسية مع الولايات المُتحدة الأميركية، وطأة الفساد على مؤسسات الدوّلة، المواجهة السياسة الداخلية…) وأدّت إلى إندلاع إحتجاجات شعبية في 17 تشرين الأول 2019.
حكومة دياب والقرارات الخاطئة
خسر لبنان ما يُقارب الثلاثة أشهر لتشكيل حكومة جديدة قضى خلالها القطاع المصرفي على ثقة المودعين فيه نتيجة بعض المماراسات التي كانت لتغيّر مجرى الأحداث لو تصرّف هذا القطاع بشكلٍ مختلف. وبالتالي إستلمت حكومة حسان دياب زمام السلطة في بلد يعيش أزمة إقتصادية، مالية نقدية حادّة ولاحقًا إنضمّت أزمة الكورونا إلى لائحة الأزمات. وإذا كان الرئيس حسان دياب قد أكّد في جلسة الثقة أن حكومته هي حكومة إختصاصيين مُستقلّين، إلا أن القرارات التي إتخذتها هذه الحكومة أثبتت العكس أو أقلّه كانت واجهة لقرارات مُعلّبة:
ـ القرار الخاطئ الأوّل الذي إتخذته الحكومة هي وقف دفع سندات اليوروبوندز في 7 أذار 2020 من دون إجراء أية مُفاوضات مع الدائنين. هذا الأمر حرمّ الخزينة العامّة من مدخول بالدولار يفوق الـ 2 مليار دولار أميركي سنويًا، ولكن أيضًا من الإستثمارات الأجنبية المباشرة التي تفوق الملياري دولار أميركي (FDI stock USD 68 bn in 2019).
ـ القرار الخاطئ الثاني كان بإقرارها خطّة إنقاذ تستهدف القطاع المصرفي بشقّيه (مصرف لبنان والمصارف التجارية) وودائع «كبار المودعين». وكانت حجّة الحكومة أنه يتوجّب توزيع الخسائر على كل من إستفاد من الفوائد العالية التي كانت تدفعها الدولة إلى المُقرضين. هذا الأمر لجم تدفّق رؤوس الأموال سواء كان من المُغتربين (7.5 مليار دولار أميركي في العام 2019) أو من غير المُقيمين المُغتربين اللبنانيين.
ـ القرار الخاطئ الثالث الذي إتخذته الحكومة هو ضرب مصداقية العملة الوطنية من خلال طرح خفض سعر صرفها إلى 3500 ليرة لبنانية لكل دولار أميركي ولاحقًا إلى 4300 ليرة لبنانية. هذا الأمر دفع المُستثمرين المحلّيين والخارجيين إلى وقف الإستثمارات وزاد الطلب المحلّي على الدولار الأميركي بعد أن كانت الليرة اللبنانية ملاذاً آمناً للمُستثمرين خصوصا المحليّين.
ـ القرار الخاطئ الرابع هو عدم قيام الحكومة بإستيعاب القطاع السياحي الذي كان يدرّ مليارات الدولارات على الإقتصاد اللبناني. فالمعروف أن أعياد الميلاد، رأس السنة، عيد الفطر، وعيد الفصح… كانت تجلب للدولة اللبنانية ما يُقارب الـ 6 إلى 7 مليار دولار سنويًا من المُغتربين اللبنانيين بالدرجة الأولى. وبالتالي كان الأجدى بالحكومة اللبنانية الحالية القيام بكل ما يلزم (إجراءات إحترازية من كورونا، والوضع السياسي…) لجذب المُغتربين اللبنانيين إلى ربوع الوطن لدعم الإقتصاد الوطني.
ـ القرار الخاطئ الخامس هو عدم قيام الحكومة الحالية منذ مجيئها إلى السلطة، بأخذ إجراءات لتحفيز الزراعة والصناعات الغذائية بهدف تغطية قسم من الإستهلاك الغذائي المُستورد وتخفيف الإستيراد الذي وبحكم فقدان الليرة من قيمتها أصبح يقتصر على الأساسيات!
تحاويل المُغتربين وتعميم مصرف لبنان
الأزمة المالية والنقدية والمصرفية التي يعيشها لبنان أدّت إلى لجم إندفاع المغتربين لتحويل أموال إلى ذويهم إلى لبنان. وتُشير الحسابات التي قمنا بها أن الحدّ الأقصى الذي ستبلغه تحاويل المُغتربين في العام 2020 لا يزيد عن 2.5 مليار دولار أميركي وهو كارثة كبيرة نسبة إلى ما كان المُغتربون يؤمّنون من عمّلة صعبة إن من خلال التحاويل (7.5 مليار دولار أميركي في العام 2019) أو من خلال السياحة (6 إلى 7 مليار دولار أميركي سنويًا).
وبدل أن تُعيد الحكومة الحالية الثقة بالقطاع المصرفي وبالإقتصاد اللبناني التي فقدها المُغتربين نتيجة ممارسات المصارف ونتيجة الضغط الأميركي، قامت بوضع خطّة نسفت فيها أساس الثقة والتي تحتاج إلى وقت طويل لترميمها.
في ظل هذا الإطار الأسود، أتى تعميم مصرف لبنان حول الـ «fresh funds» ليفتح نافذة أمل من خلال السماح للمودعين بالتصرّف بأموالهم بالعملة الأساسية أو غيرها من العملات. وهذا التعميم يسمح للمغتربين أو حتى الشركات الأجنبية التي تدفع لموظفيها بالعملة الصعبة بإرسال الأموال بالدولار الأميركي حيث يتمّ سحبها بنفس العملة. هذا الأمر له تداعيات إيجابية من ناحية أن المغتربين الذي لا يتخلّون عن ذويهم وأقاربهم، ويمتلكون حريّة إرسال الأموال إلى ذويهم من دون أيّة قيود وهو أمر يُشجّع على الإستمرار في إرسال الأموال. وهو ما قد يلعب دورًا محوريًا في تخطّي سقف التحاويل الذي قدّرناه بـ 2.5 مليار دولار في نهاية هذا العام.
النمو الإقتصادي وخطر التضخّم
من المعروف أن التضخّم بالنسبة للإقتصاد كحرارة الإنسان: تضخّم عالي يقتل النمو وتضخّم مُنخفض يقتل النمو (المعايير الدوّلية تنصّ على 2%). وإذا كانت الحكومة اللبنانية لا تزال تُركّز على الشق المالي وخصوصًا الدين الخارجي، إلا أن خطر التضخّم على الإقتصاد أصبح أكبر وبالتالي فإن هذا التضخّم سيُطيح بخطّة الحكومة من أساسها ولن يكون من المُمكن تسجيل نسب النمو المتوقّعة في الخطّة.
ومع نسب التضخّم التي يُسجّلها الإقتصاد اللبناني حاليًا (تضخّم مُفرط)، هناك خطر كبير على لبنان لا نرى في الإجراءات الحكومية ما يواجه هذا الخطر!
الأضرار التي يُخلّفها التضخّم عديدة نذكر منها:
أولاً- كل الثروة التي يتمّ خلقها عبر النمو الإقتصادي، تتآكل تلقائيًا مع التضخّم وبالتالي لا قيمة للثروة المخّلوقة؛
ثانيًا ـ زيادة الدين العام بالعملة الأجنبية (نسبة إلى العملة المحلّية) وهو ما يجعل الدين بالمطلق على نفس المستوى (أو أكثر بحسب تطّور سعر صرف العملة) على الرغم من إنخفاض قيمة الدين بالعملة المحلّية؛
ثالثًا ـ أي مُحاولة مُستقبلية للسيطرة على التضخّم عبر رفع الفوائد سيواجه بتراجع النمو الإقتصادي لأن الفوائد العالية ستمنع الإستثمارات.
رابعًا ـ تفقير الشعب وفقدانه للأمن الإجتماعي من خلال فقدان القدرة الشرائية خصوصًا أنه في لبنان، مُعظم السلع المُستهلكة هي مستوردة.
خامسًا ـ التضخّم سيمنع تنفيذ أي سياسات إقتصادية أو إجتماعية في المُستقبل.
من هنا تظهر أهمّية المحافظة على سعر صرف ثابت لليرة اللبنانية والتي بغياب إقتصاد قوي، تُسقّط نظرية تحرير سعر الصرف التي يُنادي بها العديد من الخبراء! فثبات سعر صرف الليرة هو عنّصر أساسي في الأمن الإجتماعي. وإذا كانت التبريرات التي يُقدّمها أصحاب نظرية تحرير سعر الصرف تقوم على كلفة التثبيت، نقول لهم بكلّ بساطة إن كلفة تثبيت سعر صرف الليرة تبقى أقلّ بأشواط من كلفة تحريرها خصوصا أن من سيدفع هذه الكلفة هو المواطن اللبناني من خلال قدرته الشرائية كما والإقتصاد الذي سيُعاني لعقود إذا ما إستطاع الخروج من الأزمة. الجدير ذكره أن هناك دولة وحيدة في العالم، إستطاعت الخروج من التضخّم المُفرط وهي ألمانيا مع العلم أن عدد الدول التي أصابها التضخّم المُفرط كبير نذكر منها فنزويلا، إيران، زيبمابوي، يوغوسلافيا… وغيرها.