مَن يراقب الحياة السياسية اللبنانية في هذه الايام يظنّ أنّ لبنان في ألف خير، حركة سياسية واستقبالات ولقاءات واجتماعات ومواقف وبيانات، فيما هو ينهار رويداً رويداً في كل القطاعات والمجالات والمستويات، ولا مؤشرات الى حلول مرتقبة حيث تقف الحكومة مستسلمة أمام فشلها في التفاوض مع صندوق النقد الدولي الذي صُعق بأرقامها المتضاربة وغياب أي نية في تقديم خطوات إصلاحية، فيما الخارج، كل الخارج، يأسف على الوضع الذي أوصَل لبنان نفسه إليه، ويؤكد عدم استعداده لمساعدته ما لم يساعد نفسه عن طريق الالتزام بأجندة إصلاحية واضحة المعالم تفتح الطريق أمام المساعدات الحيوية للبنان. وفي ضوء الانهيارات المتواصلة والاحتجاجات الشعبية المتصاعدة، يسأل المراقبون ما الذي ينتظره المسؤولون ليبادروا في كل الاتجاهات إنقاذاً للبنان من انهيار شامل بات حتميّاً؟ وهل يعقل التفرُّج على الأزمة وكأنها في بلد آخر؟ وإذا كانوا عاجزين عن تقديم الحلول المرجوّة فلماذا لا يستقيلوا ويتركوا المهمة لمَن هو قادر على الإنقاذ؟
ويقول المراقبون انّ البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي ما كان ليطرح ما طرحه إلّا بعدما رأى انّ لبنان الجوهرة يتهاوى أمامه، ولم يعد هناك من حلول ممكنة سوى بالعودة إلى صلب الأزمة وجوهرها، وانّ خلاف ذلك سيعني استمرار النزف والموت البطيء.
توزّع المشهد السياسي أمس بين موضوع الحياد الذي ما زال يتفاعل ويتصدّر الواجهة السياسية، وبين المواقف الخارجية المُحذّرة من مزيد من تدهور الأوضاع اللبنانية، وبين الزيارات المرتقبة لمسؤولين خارجيين لن تخرج عن سياق نصح لبنان بضرورة السير على طريق الإصلاح، وبين الأزمة الماليّة التي تراوح مكانها والاحتجاجات الشعبية التي تتصاعد مع انقطاع التيار الكهربائي وعودة مشهد النفايات والارتفاع المتواصل للمواد الاستهلاكية أو ما تبقّى منها، والخشية من إقفال المستشفيات أبوابها وانقطاع الأدوية الأساسية.
الراعي والحياد
وفيما استمر المقر الصيفي للبطريركية المارونية في الديمان مقصد القيادات والوفود السياسية، في ضوء دعوة سيّده الى حياد لبنان عن النزاعات الاقليمية والدولية ليتمكن من اجتياز الازمة الخطيرة التي يمر بها، صَدر عن البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي موقف جديد (أكد البعض انه كان قد أدلى به قبل زيارته رئيس الجمهورية العماد ميشال عون أمس الاول) وقال فيه: «انّ هناك نوعاً من هيمنة لـ»حزب الله» على الحكومة وعلى السياسة اللبنانية بسبب الدخول في حروب وأحداث عربية ودولية»، مؤكداً «انّ لبنان لا يريدها بالأساس وتحييده هو الحلّ».
وقال في حديث لـ»فاتيكان نيوز»: «لسنا ضد «حزب الله» لكننا نريد أن نعيش معاً بمساواة وبناء مجتمعنا اللبناني»، معتبراً «أن لا حل إلا بإخراج لبنان من الأحلاف السياسية والعسكرية مع أي دولة، ويكون لبنان بذلك دولة حيادية فاعلة ومفيدة من أجل السلام والاستقرار، وهذا ما نحن نعمل من أجله، فكانت ردة الفعل العارمة في لبنان وكأنهم وجدوا باباً للخلاص من هذه الأزمات التي نعيشها». أضاف: «الواقع اللبناني اليوم مهدد لأننا متروكون من البلدان العربية وخصوصاً الخليج، ومتروكون من أوروبا وأميركا، لأنّ الجميع يقول لا نستطيع ان نساعد لبنان لأننا بمساعدة لبنان نساعد «حزب الله» لأنه يسيطر على البلاد».
فرنجية
الى ذلك، شدد رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية على أنّ الراعي «يريد حماية لبنان من خلال طرحه الحياد»، وقال: «يجب أن نكون ايجاييين مع الجميع غرباً وشرقاً مع الحفاظ على موقفنا الداعم للمقاومة.» ولفت الى أنّ «التسوية في المنطقة آتية، ونحن كمسيحيين لا يجب ان نكون رأس حربة ضد السنّي أو الشيعي، وإلّا سيكون الحل على حسابنا».
وأكد فرنجية انه مقتنع أنّ الرئيس سعد الحريري «سيقوم بتسوية مع رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل اذا ما سقطت هذه الحكومة ليعود الى رئاسة الحكومة». وقال: «خَلّينا نروق ونشوف كيف بَدّا تصير الامور على رَواق، لأنه اذا لم نؤمّن البديل اليوم لا يمكننا تغيير أي شيء». وأشار إلى أنّ «هناك ضياعاً في 8 آذار في الملف الاقتصادي»، لافتاً إلى «انني لستُ مع إسقاط هذه الحكومة الآن من دون وجود بديل واضح منذ الآن، لأنّ جبران باسيل سيعطّل تشكيلها 5 الى 6 أشهر لكي يحصل على 10 وزراء من حصته».
الحريري يرد
وليلاً، غرّد الرئيس سعد الحريري عبر «تويتر» رداً على فرنجية، فتوجه اليه قائلاً: «عزيزي سليمان بك، وأنا بحبك كتير كمان وأحسن شي فيك صدقك وكلامك المباشر، لكن رسالتك إلي ما كانت بمحلها، صحيح أنا رجل تسويات وترشيحي إلك كان نوع من تسوية، لكن بحب تِتطمّن، المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، وأنا رجل مؤمن الحمدلله».
الحكومة تطوي خطتها
الى ذلك، وخلال اجتماع حكومي ـ مالي ـ مصرفي ـ اقتصادي عقد عصر أمس برئاسة رئيس الحكومة حسان دياب، طَوت الحكومة خطتها الاصلاحية لتنطلق الى البحث عن خطة بديلة، وذلك بعدما اطّلع المجتمعون على نتائج الاجتماعات التي عقدها المستشارون والخبراء، إضافة إلى مضمون الاجتماعات مع صندوق النقد الدولي. وقالت مصادر المجتمعين لـ»الجمهورية» انّ «الحكومة طَوت خطتها المالية، لا بل انقلبت عليها كلياً، إذ انّ وزير المال غازي وزني ابلغ الى المجتمعين انه لا بد من خطة بديلة تعتمد فيها الحكومة على ما تملك الدولة من عقارات لتغطية الخسائر المالية». وافادت مصادر متابعة انّ وزيرة الدفاع زينة عكر أيّدت بدورها تصوّر وزني «لأنّ الوقت يدهمنا جميعاً». وأشارت الى «أنّ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة سيمشي بأرقام الحكومة اذا أصرّ صندوق النقد الدولي عليها».
وفيما اعتبرت مصادر وزارية ومصرفية ان توجّه الحكومة الى خيارها الجديد قد يحمل أملاً لتغطية الخسائر واعادة تصحيح الامور تدريجاً، رأت مصادر مالية انّ «انقلاب الحكومة على خطتها يعني انّ حيتان السياسة والمال ربحوا مرحلياً، وأنّ المواطنين سيتعرضون للسرقة مرة اخرى».
لا شيء ملموساً
وقالت مصادر مطلعة لـ»الجمهورية» أن «لا شيء ملموساً من مساعدات مباشرة حتى الآن من الدول التي تمّ التواصل معها، لكن يمكن البناء على النيّات الحسنة التي أبداها المسؤولون في هذه الدول والتي ما زالت تربط أي مبادرة بجدية الحكومة لإجراء اصلاحات، وهو ما لم يظهر منه شيء بعد». واضافت: «نحن في حال انهيار شامل، وقد بدأ يظهر هذا الأمر بنحو فاضِح في موضوع الكهرباء والفيول، حيث أصبحت الدولة في حالة لا انتظام للواردات النفطية، سببه عقوبات «قانون قيصر» والاعتمادات المالية بين لبنان والمصارف المراسلة والفوضى واللاثقة التي برزت بعد قضية شركة «سوناطراك» والتشكيك في الشروط». وتوقعت المصادر «بقاء لبنان على هذا المنوال خلال هذه الاشهر المقبلة، بحيث تنفرج الازمة نسبياً لأيام عدة ثم تعود مجدداً».
إعادة هيكلة المصارف
مصرفياً ومالياً، شكّل قرار مصرف لبنان أمس تشكيل لجنة متخصصة، برئاسة النائب الثاني للحاكم بشير يقظان، حدثاً لافتاً استوقف المتابعين للأزمة المالية.
ومن خلال نوعية الاعضاء الذين اختيروا في اللجنة، يتبيّن الحرص على ان يتولّى أهل القطاع هذه المهمة، أي مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف والمصارف نفسها. هذه التركيبة تهدف، كما كشف مصدر مصرفي لـ»الجمهورية»، الى ضمان مقاربة هذا الملف باحترافية، وبواسطة اشخاص لديهم الخبرة الكافية في معالجة قضية بهذا الحجم والحساسية والخطورة.
وأوضح المصدر نفسه انّ الوقت مُبكر للحديث على اعادة هيكلة، لكنها خطوة أولى، وستعمل اللجنة على تحضير الأرضية اللازمة الى أن يحين موعد بحث إعادة الهيكلة العملية، وهذا الامر لا يمكن ان يحصل قبل انقشاع الغبار، ووضوح الرؤية في ما خَصّ خطة الانقاذ والتعافي.
في غضون ذلك، واصَل سعر صرف الدولار في السوق السوداء مرحلة من الاضطراب، ولو انّ نسبة الارتفاع والانخفاض في يوم واحد تراجعت امس قليلاً عمّا كانت عليه في الايام الأخيرة. وارتفع الدولار قليلاً ووصل الى 7800 ليرة. في المقابل، حافظ دولار الصرّافين والحوالات المالية على سعره الثابت بين 3850 و3900 ليرة.
التدبير الرقم 6
نيابياً، علمت «الجمهورية» انّ جدالاً طويلاً دار خلال جلسة لجنة الادارة والعدل النيابية أمس لمناسبىة البحث في التدبير الرقم 6، وهو من بين التدابير الادارية التي أقرّها مجلس الوزراء لمكافحة الفساد.
وقد امتدّ هذا السجال لأكثر من 3 ساعات، وتركّز بين وزيرة العدل ماري كلود نجم وبعض أعضاء اللجنة حول قانونية هذا التدبير، اذ اعتبره بعض الأعضاء مخالفاً للقانون، فيما اعتبرته نجم قانونياً ويهدف الى تفعيل القانون، علماً انّ التدبير الرقم 6 يقضي بإنشاء لجنة مهمتها جَمع المعلومات المتوافرة حول ثروات الشخصيات التي تَولّت مراكز عامة، أقلّه الى حين تشكيل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد المفترض في ايلول المقبل.
أبو الغيط
وعلى صعيد الموقف العربي من الازمة اللبنانية، حذّر الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط أمس من أنّ «الوضع في لبنان خطير جداً، ويتجاوز كونه مجرد أزمة اقتصادية أو تضخماً»، مشيراً إلى أنها «أزمة شاملة لها تبعات اجتماعية وسياسية خطيرة، ويمكن للأسف أن تنزلق لما هو أكثر خطراً»، مُبدياً خشيته من أن «يتهدّد السلم الأهلي في البلاد بسبب الضغوط الاقتصادية والاجتماعية الهائلة التي يتعرض لها اللبنانيون».
وقال أبو الغيط في حديث إلى وكالة «أنباء الشرق الأوسط» المصرية: «الحقيقة أنني، وبعيداً عن أي اعتبارات سياسية، أشعر بمعاناة المواطن اللبناني الذي وجد نفسه فجأة، وبسبب ظروف لا دخل له فيها وخارجة عن إرادته، وقد تراجع مستوى دخله تراجعاً مهولاً، وانزلق تحت خط الفقر». ولفت إلى أنّ «نصف اللبنانيين الآن يعيشون تحت خط الفقر، ويقبع الربع تحت خط الفقر المُدقع، وهو وضع مقلق جداً في بلد له تركيبة خاصة نعرفها جميعاً. لذلك، فإنني أتفهّم تماماً معاناة اللبنانيين، وأتألم لِما نشاهد ونقرأ عنه من مآس اجتماعية كانتحار مواطنين بسبب الفقر وعدم قدرتهم على تلبية حاجات أبنائهم الضرورية». وأضاف: «أرجو بكل صدق أن تستشعر الطبقة السياسية هذه المعاناة غير المسبوقة، لأنني، حتى الآن، لا أرى أنّ رد فعل الطبقة السياسية في مجملها على الأزمة يعكس ما كنّا نأمله من استشعار للمسؤولية الوطنية أو الإدراك الكافي لخطورة الموقف الذي يواجه البلد، فما زال هناك، للأسف، تغليب للمصالح الضيقة على مصلحة الوطن، وهو ما يعمّق الأزمة».
وناشَد أبو الغيط الدول والهيئات المانحة «أن لا يُترَك اللبنانيون وحدهم في هذا الظرف الصعب»، مؤكداً أنه «لا بد من أن يكون هناك حل لإنقاذ الوضع الاقتصادي لأنّ تبعات ما يجري ستُطاول الجميع في لبنان وخارجه».
إيران
قال مساعد رئيس مجلس الشورى الإيراني للشؤون الدولية حسين أمير عبد اللهيان، أمس، إنّ «أميركا والسعودية أعاقتا بناء محطتين للكهرباء في لبنان».
وكتب عبد اللهيان، في تغريدة عبر «تويتر»: «لقد قدمتُ مرات عدة في مفاوضاتي بصفتي نائب وزير الخارجية مع المسؤولين الكبار في لبنان، خطة طهران التقنية للإنشاء الفوري لمحطتين كبيرتين للطاقة والكهرباء ضمن المعاییر التقنیة، والتي یمكن أن تحسم كل مشکلات الكهرباء في لبنان. لقد أعاقت ذلك أميركا والسعودية. ما زلنا مستعدين».
وكان السفير الإيراني في لبنان، محمد جواد فيروزنيا، أعلن أمس بعد زيارته البطريرك الراعي، أنّ إيران على استعداد لاعتماد الليرة اللبنانية في عمليات التبادل التجاري مع لبنان، وخصوصاً في المشتقات النفطية. وقال: «نحن جاهزون للمساعدة بكل ما يحتاجه لبنان، ولكن لا نريد أن نُحرج الحكومة اللبنانية فهناك أطراف تمنع التعاون، هناك مشاريع كثيرة يمكن أن ندعم لبنان بها تبدأ بالزراعة والصناعة ومن ثم الكهرباء والدواء ومختلف القطاعات الاقتصادية التي يحتاج لها لبنان»، مشدداً على انّ «إيران لا تتدخل في الشؤون اللبنانية الداخلية، ونحن نشدد على الوحدة الوطنية وتعزيزها في هذه الظروف».