بينما يواصل البطريرك الماروني السير على “درب الجلجلة” الوطنية حاملاً لواء الحياد الناشط، وقد رسم بالأمس خريطة “ثلاثية الأبعاد” لمعانيه وجوهر مفهومه في سياق “مترابط غير قابل للتجزئة” بما يقتضي “عدم الدخول في محاور وصراعات سياسية وحروب إقليمية ودولية وامتناع أي دولة عن التدخل في شؤون لبنان أو اجتياحه أو احتلاله أو استخدام أراضيه لأغراض عسكرية، والتعاطف مع القضايا الانسانية والعربية، وتعزيز الدولة لتكون دولة قوية عسكرياً بجيشها تدافع عن نفسها بوجه أي اعتداء من إسرائيل أو من أي دولة سواها” مؤكداً أنّ وحده من يرفض ذلك هو ذلك الذي لا “يعنيه حقاً خير لبنان وشعبه وضمانة وحدته وعودته إلى سابق عهده المزهر”… يواصل في المقابل مركب العهد العوني وحكومته مسير الغرق والانحدار بالبلد نحو قعر الانهيار الشامل اقتصادياً ومالياً واجتماعياً ومعيشياً وصحياً وبيئياً، على وقع أداء متخبط يتزايد تلاطماً يوماً بعد آخر بين مكونات حكومة حسان دياب التي بدأت “تأكل أبناءها” في ظل استحكام حالة التشرذم والضياع على أدائها، سواءً على مستوى فضائحها المتتالية، وآخرها فضيحة تناتش الصلاحيات والتصاريح بين وزيري الصحة والداخلية إزاء تطبيقات التدابير الاحترازية في مواجهة “كورونا”، أو على مستوى انطلاق مرحلة القفز من المركب الحكومي بخطوة استقالة وزير الخارجية والمغتربين ناصيف حتي وما قد يعقبها تباعاً من “قفزات” وزارية مماثلة ترمي إلى التنصل من وصمة الفشل والمكابرة التي باتت تدمغ إدارة دفة الحكم في البلاد.
إذاً، حزم حتّي “حقيبته الديبلوماسية” وعزم على الاستقالة من حكومة دياب، وسط تأكيد أوساطه أنه “لا يناور ولن يتراجع” ومن المرتقب أن يزور السراي اليوم لتقديم كتاب استقالته رسمياً وشرح موجباته ومسبباته. وإذا كانت مصادر “السراي” عمّمت معلومات إعلامية مساءً تفيد بأنّ رئيس الحكومة سيدعو وزير الخارجية إلى التريث في قراره، فإنّ مصادر “التيار الوطني الحر” سارعت إلى احتواء المشهد بإشاعة أنباء وأجواء مناهضة تؤكد جهوزية البديل في وزارة الخارجية مع تسريب أسماء مستعدة لتولي المهمة من الدائرة العونية وأبرزها المستشار الديبلوماسي في قصر بعبدا السفير السابق شربل وهبي، وذلك بالتوازي مع التلويح بإمكانية الاستفادة من فرصة استقالة حتي لإجراء تعديلات وزارية تقطع الطريق على أي استقالات مشابهة محتملة.
أما في المعطيات المتوافرة حول الأسباب التي دفعت وزير الخارجية إلى الاستقالة، فتؤكد أوساط ديبلوماسية لـ”نداء الوطن” أنها أسباب متعددة ومتشعبة، وتوضح أنّ “كيل حتي طفح من الممارسات السياسية الطاغية على الأداء الحكومي”، مشيرةً إلى أنه “الأجدر بشرح أسبابه لكنّه على الأرجح بلغ مرحلة شعر فيها بانعدام الانسجام بين موقعه الحالي وبين علاقاته السياسية وتاريخه الديبلوماسي”. وقياساً على تقييمه لأكثر من محطة واجهته في الحكومة وفي قصر بسترس حيث “استشعر بأن وزارة الخارجية أصبحت مهمّشة وتحولت إلى أشبه بالجزيرة المعزولة عن كل عمل ديبلوماسي الأمر الذي راكم المآخذ لديه ودفعه إلى الاستقالة”، تشي المعلومات المستقاة من مصادر موثوق بها بأنّ حتي بات أقرب إلى الخلاصة التي وصل إليها المجتمع الدولي وعبّر عنها من بيروت وزير الخارجية الفرنسية جان ايف لودريان لناحية تأكيده أنّ الحكومة القائمة في لبنان لا تساعد نفسها ولا تتجاوب مع متطلبات المرحلة وتحدياتها، بينما على المستوى الشخصي من القرار فإنّ المصادر تؤشر بالإصبع إلى مسؤولية مباشرة يتحملها رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل في “تهشيل” خليفته عن كرسي الخارجية عبر سلسلة من التدخلات الممنهجة في آلية عمل الوزارة وآخرها في ملف التشكيلات الديبلوماسية الذي يريد باسيل بسط سطوته عليه بكامل تفاصيله، وهو في هذا المجال كان قد دفع باتجاه الخروج عن الآليات المعتمدة لتعيين أكثر من إسم مقرب منه سفيراً لدى عواصم دول القرار لا سيما في واشنطن حيث يصرّ على استباق إحالة السفير غابي عيسى إلى التقاعد بتعيين هادي هاشم خلفاً له.
أما على صعيد مواقف حتي المتصاعدة في الآونة الأخيرة والتي بدت جلياً أنها تغرد خارج سرب المنظومة الحاكمة وخصوصاً في مقاربة مسألة الحياد الإيجابي وغيرها من المسائل السياسية والسيادية والديبلوماسية، فكشفت المصادر أنّ الصاعق الذي فجّر قنبلة الاستقالة تمثل بإقدام رئيس “التيار الوطني” على الاتصال بوزير الخارجية إثر إطلالته التلفزيونية الأخيرة مع الإعلامي مارسيل غانم وتوجه إليه “بعبارات من التأنيب الصريح على المواقف التي أطلقها بلغت مستوى التجريح، فكانت تلك “شعرة معاوية” التي قطعت بين الجانبين ليحسم وزير الخارجية أمره باتجاه تقديم الاستقالة”.
أما على المقلب الآخر، فتنتقد مصادر ديبلوماسية مقربة من “التيار الوطني الحر” قرار حتي ولا تتردد باتهامه “بالهروب إلى الأمام لتنفيذ أجندة خاصة ولطموحات شخصية”، وتقول لـ”نداء الوطن”: “يعلم الجميع كيف دخل وزير الخارجية إلى الحكومة وهو لم يحقق أي إنجاز يُذكر لا في الحكومة ولا في وزارته بل سجّل “صفر انتاجية” وامتهن مسايرة الجميع من دون اتخاذ أي موقف في أي ملفّ، ليصبح لقبه وزير اللاموقف”، معتبرةً أنّ مقابلته الملتفزة الأخيرة “إنما جاءت تمهيداً لخطوة الاستقالة بغية نفخ حجمه وبيع استقالته بأعلى سعر ممكن وتقديم أوراق اعتماد بذلك لدى المجتمعين العربي والدولي، في حين أنّ خطوة الاستقالة لا تعدو كونها تجسّد تهرّباً واضحاً من المسؤولية وتسجيلاً للبطولات الفارغة من أي مضمون”.