لان اللبنانيين جميعا لا يعرفون الا قضاء مسيساً يخضعه السياسيون وأهل السلطة للمداخلات المتنوعة والمعروفة، كان من الصعب عليهم الى أي جهة انتموا ان يستوعبوا بسهولة الحكم الذي أصدرته امس المحكمة الخاصة بلبنان في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه بعد 15 عاما من الجريمة. المؤيدون بقوة للمحكمة الدولية احبطهم حكم برأ ثلاثة من المتهمين الأربعة من “حزب الله” وحصر الإدانة برأس الشبكة المنفذة سليم عياش بالإضافة الى تثبيت عدم ادانة قيادة “حزب الله” والنظام السوري. والرافضون للمحكمة فوجئوا باسقاط نمط اتهامي تخويني دأبوا عليه منذ انشاء المحكمة واتهامها بالتسييس ومجاراة أعداء المحور الممانع لإلصاق تهمة الانحياز بها. بذلك جاءت المفاجأة الكبيرة المزدوجة في مضمون الحكم وحيثياته لتسبغ صدقية على المحكمة وتمنحها سمة الاستقلالية والتحلي بمعايير المهنية الدولية العالية بدليل انها اثبتت الإدانة للرأس المنفذ والمحرك للشبكة فيما لم تدن الثلاثة الاخرين لعدم كفاية الدليل فقط. ولعل الأهم في الوقائع الطويلة والتفصيلية للحكم انها لم تخف اطلاقا الارتباط الضمني والمضمر بين شبكة التنفيذ وعلى رأسها سليم عياش في مؤامرة الاغتيال التي دبرت للحريري بـ”حزب الله ” والنظام السوري من خلال ابراز وتأكيد عامل المصلحة والإفادة لديهما من اغتيال الحريري. وإذ أورد الحكم كل الحيثيات المتعلقة بمصطفى بدر الدين القائد العسكري في “حزب الله ” الذي اغتيل في سوريا لجهة تورطه أساساً في التخطيط لاغتيال الحريري، الا ان التحقيق لم يتمكن من الحصول من الأدلة التي تفسح للإدانة المباشرة. ومن الواضح تماما ان الأهمية الكبيرة بل التاريخية لهذا الحكم تأتي من كونه الحكم الأول من نوعه في تاريخ الاغتيالات السياسية في لبنان بمعايير العدالة والقضاء الدوليين. وقد دامت المحكمة سليم عياش بمجموعة جرائم ابرزها ارتكاب عمل إرهابي وقتل الحريري عمدا بمتفجرة وقتل 21 شخصا آخر عمدا ومحاولة قتل 226 شخصا. اما المتهمون الثلاثة الآخرون حسين عنيسي وأسد صبرا وحسن مرعي، فوجدت المحكمة انهم غير مذنبين في ما يتعلق بالاتهامات المسندة اليهم نظرا الى عدم كفاية الدليل. ولكن المحكمة لم تغفل ان عباس بدر الدين هو من خطط لعملية الاغتيال. ومع ان قانون تأسيس المحكمة لا يتضمن صلاحيتها في توجيه الاتهام الى حزب او دولة الا ان الحكم اكد من خلال إيراده للظروف والحيثيات التي أدت الى عملية الاغتيال ان ” حزب الله ” وسوريا استفادا من اغتيال الحريري. ولعل ابرز ما تضمنته الحيثيات في ايراد الدوافع لاغتيال سياسي كما أكده الحكم هو ان قرار الاغتيال جاء بعد الاجتماع الثالث في البريستول لقوى المعارضة للهيمنة السورية بحضور الحريري الذي طالب بانسحاب سوريا من لبنان.
والواقع ان موقف الرئيس سعد الحريري من الحكم اتسم بأهمية مزدوجة . فمن جهة تبنى الحريري الحكم واعلن قبوله واضعاً حداً فورياً للشكوك حتى تلك التي انطلقت من جهة مؤيدي المحكمة، ومن جهة مقابلة ادرج الحكم في الخانة الموضوعية المطلقة التي جعلته الأول من نوعه في تاريخ الاغتيالات وانطلق منه ليسلط الضوء على مسؤولية “حزب الله ” في تسليم المدان في صفوفه. واعلن امام مقر المحكمة في لاهاي انه “باسم عائلته وباسم جميع الشهداء نقبل حكم المحكمة ونريد تنفيذ العدالة .. بوضوح لا تنازل عن حق الدم الحقيقة عرفناها اليوم وتبقى العدالة التي ستنفذ مهما طال الزمن “. ولفت الى انه “بفضل المحكمة الخاصة بلبنان وللمرة الأولى في تاريخ الاغتيالات السياسية العديدة التي شهدها لبنان عرف اللبنانيون الحقيقة … واهمية هذه اللحظة التاريخية هي الرسالة للذين ارتكبوا هذه الجريمة الإرهابية وللمخططين وراءهم بان زمن استخدام الجريمة في السياسة من دون عقاب ومن دون ثمن انتهى “. وقال “لا يتوقع احد منا بعد اليوم أي تضحية والمطلوب منه ان يضحي اليوم هو “حزب الله” الذي صار واضحا ان شبكة التنفيذ من صفوفه وهم يعتقدون انه لهذا السبب لن تمسكهم العدالة ولن ينفذ فيهم القصاص”. ولفت الحريري الى ان “من لا ثقة له بالمحكمة أصبحت له اليوم ثقة كبيرة “.
وفي حديث الى محطة “العربية ” طالب الحريري “حزب الله بتسليم المدان سليم عياش الى المحكمة الخاصة بلبنان وهذا مطلبنا ولن نتراجع عنه ونقطة على السطر. وحزب الله يعرف ان جريمة اغتيال رفيق الحريري تقع عليه “. ولفت مجددا الى ان “المحكمة عرضت الجو السياسي الذي سبق الاغتيال لجهة تحريض النظام السوري على رفيق الحريري مذكرا بان المحكمة اشارت الى ان قرار الاغتيال اتخذ بعد اجتماع قيادات المعارضة في البريستول الذي شارك فيه رفيق الحريري حيث طالب بوقف التدخل السوري في لبنان .
عون وبري
ووسط أجواء الترقب والهدؤ اللافت التي سادت المشهد الداخلي عقب صدور الحكم سارع رئيس الجمهورية ميشال عون الى اصدار بيان معتبرا ان تحقيق العدالة في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه “تتجاوب مع رغبة الجميع في كشف ملابسات هذه الجريمة البشعة “داعيا الى “الوحدة والتضامن من اجل حماية البلاد من محاولة تهدف الى اثارة الفتنة”. كما ان رئيس مجلس النواب نبيه بري سارع بدوره الى الدعوة الى “ربح لبنان الذي آمن به الرئيس رفيق الحريري “وأشاد بكلمة الرئيس سعد الحريري قائلا ” ليكن لسان حال اللبنانيين العقل والكلمة الطيبة كما عبر الرئيس سعد الحريري باسم أسرة الراحل”.
السعودية
وجاء رد الفعل العربي الأبرز من المملكة العربية السعودية التي اعتبرت وزارة الخارجية فيها ان صدور الحكم “يمثل ظهورا للحقيقة وبداية لتحقيق العدالة بملاحقة المتورطين وضبطهم ومعاقبتهم”. وأضافت ان “حكومة المملكة العربية السعودية بدعوتها الى تحقيق العدالة ومعاقبة حزب الله وعناصره الإرهابية تؤكد ضرورة حماية لبنان والمنطقة والعالم من الممارسات الإرهابية لهذا الحزب الذي يعتبر أداة للنظام الإيراني وثبت ضلوعه في اعمال تخريبية وإرهابية في بلدان عدة”.
في المقابل علقت وزارة الخارجية الإسرائيلية على الحكم فقالت ان “الحكم واضح لا لبس فيه ان جماعة حزب الله الإرهابية وأفرادها متورطون في جريمة القتل وعرقلة التحقيق “. وأضافت ان “حزب الله ارتهن مستقبل اللبنانيين خدمة لمصالح خارجية وعلى دول العالم ان تتخذ إجراءات ضد هذه الجماعة الإرهابية لمساعدة لبنان على تحرير نفسه من هذا الخطر”.