لم تنّجح مبادرة رئيس مجلس النواب نبيه برّي بعد في حلّ عقدة تشكيل الحكومة وتكليف رئيس جديد لتشكيلها. فالمعلومات تُشير إلى رفض ثلاثة مكونات وازنة إعادة تسمية الرئيس سعد الحريري الذي يشترط تشكيل حكومة يختار وزراءها بمعزل عن القوى السياسية. هذا الرفض دفع الرئيس برّي إلى إطفاء المحركات بانتظار تبلور مواقف الفرقاء السياسيين وبالتالي، إعادة المحاولة قبل عودة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لبنان في الأول من أيلول للمشاركة في مئوية لبنان الكبير.
وبحسب المعلومات، فإن رفض القوات، والإشتراكي والتيار إعادة تسمية الحريري لتشكيل الحكومة تزامن مع محاولة إقناع الحريري تسمية شخصية مُقرّبة منه للقيام بهذه المُهمّة أو إعادة تكليفه، على أن يتمّ تشكيل الحكومة لاحقًا. إلا أن الحريري وبحسب تسريبات مُقرّبين منه، مُصرّ على حكومة من خارج الإطار الحزبي.
تعقيدات اختيار إسم شخصية لتكليفها مهام تشكيل الحكومة، قوبل بطرح الإشتراكي الذهاب إلى الإستشارات النيابية المُلزمة والتي ستُؤدّي حكمًا إلى اختيار اسم مع التركيز على برنامج الحكومة والذي وضعت أسسه السلطات الفرنسية وهو عبارة عن ورقة تحوي على عدد من الإلتزامات التي على الحكومة العتيدة أن تبدأ بتنفيذها فور حصولها على الثقة في المجلس النيابي.
على هذا الصعيد، تتكثف الإجتماعات بين القوى السياسية لإيجاد مخرج للأزمة، وذلك قبل يوم الأربعاء القادم الموعد المُتوقّع لتحديد الإستشارات النيابية المُلزمة. إلا أنه وبحسب بعض المراقبين، فإن الخلافات المُستجدّة بين القوى السياسية إضافة إلى التشرذم الحاصل بين أهل البيت الواحد، يُعقّد الأمور ويجعل التأليف بعد الإنتخابات الاميركية أقرب الى الواقع.
الوقت الضائع مُكلف! مُكلف إقتصاديًا، وماليًا، ونقديًا وبالتالي إجتماعيًا. فمنظّمة «الاسكوا» دقت ناقوس الخطر في تقرير أشارت فيه إلى أن أكثر من نصف سكان لبنان باتوا تحت خطّ الفقر، وبالتالي فإن عدم القيام بإصلاحات لتحرير المساعدات المالية، سيؤدّي حكمًا إلى زيادة هذه النسبة وبالتالي، زيادة التصدّع الإجتماعي.
هذه الإصلاحات لا يُمكن القيام بها نظريًا إلا من خلال حكومة أصيلة يكون قرارها الإقتصادي ـ الإصلاحي معزولاً عن تأثير القوى السياسية. لكن من الظاهر أن هذه الحكومة الأصيلة بعيدة المنال في الوقت الحالي نظرًا إلى الإنقسام العمودي والأفقي بين اللبنانيين على كل شيء تقريباً. ولم تستطع نكبة مرفأ بيروت تجميع اللبنانيين فيما بينهم، بل على العكس زاد هذا الإنقسام إلى مستويات لم نشهد لها مثيلاً خصوصًا على مواقع التواصل الإجتماعي التي أصبحت منصّات للإهانات والإهانات المضادّة.
مُجتمع مُنقسم عموديًا وأفقيًا
توزيع البشر على مجموعات، هو مُشكلة تُعاني منها كل مجتمعات العالم. هذا الواقع التاريخي له بُعدان: ثباته مع الوقت وشموليته (مُشكلة تاريخية)، أما سبب وآلية هذا التوزيع فتبقى مُشكلة فلسفية انكبّ العلماء على دراستها من دون إيجاد حلول عملية لتفادي الإنقسامات في المجتمعات.
مُشكلة التوزيع البشري على مجموعات ليست خصوصية لبلد مُعين، بل هي تشمل كل دول العالم بما فيها الدول المُتطوّرة، إلا أن غياب قوانين أو عدم تطبيقها حال وجودها، يجعل من هذه المُشكلة خطراً داهماً على كيان الدول كما هي الحال في لبنان حيث إن التوزيع الطائفي، والمذهبي، والمناطقي، والعقائدي، والحزبي… أدّى الى انحلال مؤسسات الدولة وتفككها أمام قوّة التوزيع.
يقول أفلاطون ان انتماء شخص إلى مجموعة مُعيّنة هو انتماء صادق ونابع من عاطفة وإدراك. لكن هذا الإنتماء يُصبح أقلّ صدقًا عند معرفة الكمّ الهائل من المصالح التي قد يستفيد منها هذا الشخص جرّاء انتمائه للمجموعة. وبالتالي، تصير أفعال الشخص ترجمة طبيعية ومباشرة لمصالحه الشخصية كما ولمصالح مجموعته ولكن على حساب مصلحة الوطن.
التوزيع البشري في لبنان تعدّى المجتمع ليشمل كل النواحي الحياتية، والفكرية، والإقتصادية، والجغرافية، والتاريخية، والتربوية… وبالتالي، نتجت عن ذلك ثلاث ظواهر: الفساد، وتضارب المصالح، وعدم كفاءة أصحاب القرار؛ وهذه مجموعة أدت برأينا إلى ضرب الكيان اللبناني وزعزعة أسس الانتماء الوطني الجامع، فوصل الوضع إلى ما هو عليه اليوم.
الفساد
إن للفساد عدة تعريفات في الكتب والأبحاث وتجتمع كلها على إساءة إستعمال السلطة المعطاة بوكالة الشعب للنخبة (إنتخابات مثلا)، لأغراض الإثراء الشخصي أو إثراء المجموعة، وهي التي تعرف في المفهوم القانوني بـ«التعسف في استعمال الحق» في أحسن أحوالها إن لم تكن ضمن «خيانة الأمانة». ويُمكن وضع هذا التعريف ضمن معادلة حسابية (روبرت كليتغارت) والتي تنصّ على أن الفساد = إحتكار + سلطة ـ شفافية.
أسباب الفساد عديدة منها ما هو إقتصادي، ومنها ما هو نفسي، ومنها هو تربوي…وهذا الفساد يتفشّى بسرعة في ظل غياب الإدارة الرشيدة، وضعف مؤسسات الدولة وخسارتها هيبتها، وغياب سياسة محاربة الفساد، والأجور المُنخفضة لبعض المراكز الحساسة، ثقافة البلد إلى غير ذلك من العوامل. ويظهر الفساد أيضاً عند تلاشي الحدود بين منطق المصلحة العامة ومنطق المصلحة الخاصة.
إقتصاديًا كلفة الفساد على الإقتصاد اللبناني في العام 2019 فاقت الـ 13 مليار دولار أميركي (راجع مقالنا في الديار العدد 10829 تاريخ 24/06/2019). هذه الكلفة حرمت لبنان من اقتصاد كان ليفوق حجمه الـ 150 مليار دولار أميركي لولا الفساد المستشري الذي خلق منطق اللاعدالة وعدم توازن في توزيع الثروات في لبنان مما يفسر وجود نسبة عالية من الفقر.
تضارب المصالح
تضارب المصالح هو نتيجة للتوزيع البشري على مجموعات ويتجّلى هذا التضارب في حال وجود أكثر من مصلحة للشخص الموجود في مركز القرار مما يؤثّر سلبًا في رأيه وبالتالي فإن خياره هو نحو تحقيق المصلحة الشخصية ومصلحة مجموعته وهو ما يُعرف بالإقتصاد بالمصلحة الذاتية العقلانية (Rational Self Interest).
ولتفادي مُشكلة التأثير في الشخص في القطاع العام، قام الفرنسيون بإقرار قانون ينصّ على منع كل من يتعاطى الشأن العام بتعاطي الشأن الخاص مما يُعطي للشخص حرية في تقييم الوضع بكل موضوعية وبالتالي تفضيل المصلحة العامّة على المصلحة الخاصة ليعم النفع المجتمع فيستفيد بالتالي منه الفرد.
أمّا في القطاع الخاص، فقد تمّ تفادي هذه المُشكلة من خلال ما يُسمّى بـ «سور الصين» والذي يُستخدم كثيرًا في الشركات التي تتضارب مصالحها مع مصالح زبائنها مما يؤدّي إلى ضرب مصالح الزبائن. أيضًا درجت العادة في الشركات الكبيرة الحجم أن يقوم مجلس إدارة مُنفصل أصحاب الشركة بإدارة مصالح هذه الشركة.
أمّا في لبنان، فتضارب المصالح موجود على كل الأصعدة، إذ إن مُعظم المسؤولين يمتلكون مصالحهم الخاصة كما أن هناك تناغم كبير بين القطاع الخاص والمسؤولين عن الشأن العام! لا بل أبعد من ذلك، نرى أن الأداء السياسي في لبنان خلق دويلات طائفية داخل المُجتمع اللبناني أدخلت المحسوبيات إلى صميم القطاع العام والخاص حيث نجد شركات محسوبة بالكامل على أفرقاء سياسيين.
ولعل المثل الصارخ لتضارب المصالح تأليف السلطة التنفيذية من رحم السلطة التشريعية، وهذا الأمر داء لا علاج له إلا الكي.
عدم كفاءة أصحاب القرار
يعود وصف هذه المُشكلة إلى العام 1970 حين قام «لورانس بيتر» و«ريمون هول» بوضع نظرية حول ترقية الأفراد في الهرم الوظيفي. وتنص النظرية على أنه تتم ترقية الأفراد في الهرم الوظيفي طالما أنهم يعملون بكفاءة عالية، إلا أنه عاجلاً أم آجلاً ستتم ترقيتهم إلى مركز وظيفي لا يستطيعون فيه تحقيق الكفاءة نفسها. وتضيف النظرية إلى أن الأمر يستمرّ على هذا النحو إلى أن يأتي الوقت الذي سيكون فيه كل منصب وظيفي مشغولاً بموظف غير كُفْء. وبالتالي، وبحسب النظرية، «الأشخاص غير أكْفاء هم الذين يسيطرون في النهاية على المناصب المهمة برغم أنهم يفتقرون إلى الخبرة فيها».
كان للنظام السياسي في لبنان دور سلبي في تأمين ماكينة إقتصادية وأمن إجتماعي للمواطن. ويكفي النظر إلى ما وصلت إليه الأمور لمعرفة أن هذا الوضع لا يُمكن أن يستمر، وبالتالي من الضروري أن يتمّ العمل تشريعياً على نصّ قوانين وتطبيقها تتناول كلاً من منظومة الفساد، تضارُب المصالح، وعدم كفاءة الأشخاص المولجين بتولي مناصب عامة.
ضخ السيولة
أرقام الوضع الإقتصادي والمالي والنقدي للدولة اللبنانية تُشير إلى أن لبنان ذاهب إلى كارثة إجتماعية سيكون أبرز نتائجها: الفوضى الأمنية. وهذا الأمر لم يعد ببعيد خاصة بعد قرار المجلس المركزي لمصرف لبنان بوقف دعم المواد الأساسية بعد ثلاثة أشهر مع وصول إحتياطاته إلى مستوياتها الدنيا. من هذا المُنطلق أصبح من الضروري ضخّ السيولة بالعملة الصعبة في القطاع المصرفي ومن خلاله بالإقتصاد لتفادي الكارثة الإجتماعية. هذا الأمر (أي ضخ السيولة) لن يتمّ بحسب المجتمع الدولي إلا بعد القيام بإصلاحات التي على الحكومة القيام بها. هذه الأخيرة التي لم تتشكّل بعد، ونتوقع أن يطول أمر تشكيلها بحسب المعطيات الحالية، وهذا يُنذر بوضع إجتماعي كارثي في الأسابيع والأشهر القادمة، حيث إن الضربة القاضية قد تكون بعدول المجتمع الدولي عن دعم لبنان وهو ما سيُغيّر وجه لبنان الإقتصادي والإجتماعي. فهل يتمّ تفضيل المصلحة العامّة على المصلحة الشخصية، أم تحصل المعجزة الإلهية في لبنان؟