لبنان بلغ اليوم مئة عام. مئة سنة أمضاها هذا الوطن مشلّعاً على أشواك المعاناة، وتحت وطأة كل أنواع التدخّل الخارجي والخلل الداخلي. لكنها مئة عام كانت حافلة بالمحطات التاريخية، المشرق منها كما السوداوي. وفي كل تلك التجارب كان اللبنانيون هم وحدهم أدواتها ووقودها في الأزمات، ودفعوا من أرواحهم، وأعمارهم، وأرزاقهم، وممتلكاتهم، الكثير الكثير لتنتهي المئة عام إلى واحدةٍ من أعقد، وأصعب، وأثقل الأزمات عبئاً، وأخطرها تأثيراً على المصير… ولكن… رغم كل تلك السنوات المئة، يبقى الأمل بلبنان الفكرة الحرّة المتنوعة، وله ستبقى الآمال معقودةً، والجهود منصبّة.
وأبرز هذه الجهود كانت من “الأم” فرنسا، والتي عادت بمبادرةٍ تحمل في طيّاتها هدف إنقاذ البلاد، وقد استهلّتها بولادة قيصيرية للاستشارات النيابية التي انتهت إلى تكليف سفير لبنان في ألمانيا، مصطفى أديب، لتشكيل الحكومة بأكثرية تسعين نائباً من أصل مئة وعشرين، لتتجه الأنظار إلى مسار التشكيل، وما إذا سيكون مشابهاً لمسار التأليف كما يتوقع البعض، خصوصاً وأن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عرّاب التكليف، وصل إلى بلاد الأرز ليحتفل بمئويتها، وليؤكد أنه سيتابع عن كثب مسار تأليف الحكومة.
الرئيس المكلّف سيبدأ استشارات التشكيل يوم غد الأربعاء في عين التينة. وتتكاثر الأسئلة حول ما سيُقدم عليه لجهة تعامله مع القوى السياسية التي امتهنت في السنوات الأخيرة ابتزاز السلطة، فيما واقع الحال أن البلد في أزمة وجودية، فإما أن يتم إنقاذه بالسرعة المطلوبة، أو أنه ذاهبٌ إلى الزوال، على ما كان حذّر منه رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي، وليد جنبلاط، قبل أيام. وعليه فإن الجهد الفرنسي فتح المجال أمام احتمال سلوك مسارٍ إنقاذي مختلف، والأحرى بالجميع منح هذه المبادرة الفرصة التي تستحق، بعد استنفاد إمكانية التوصّل إلى حلولٍ أخرى.
مصادر متابعة للمجريات السياسية توقّعت في اتصالٍ مع “الأنباء” أن تشكَّل الحكومة في وقتٍ ليس ببعيد، شرط أن يواكب الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، عملية التأليف بنفس الزخم الذي تابع فيه عملية التكليف. وكشفت المصادر أنه، “لولا الاتّصال الذي أجراه ماكرون برئيس الجمهورية، ميشال عون، يوم الثلاثاء الماضي لما تحدّد موعد الاستشارات، ولما جرى الاتّفاق على مصطفى أديب بهذه السرعة القياسية”. وأملت المصادر أن، “يُبقي الرئيس ماكرون هاتفه بجيبه، حتى إذا ما لمس تعثّراً بمسيرة الرئيس المكلّف يعاود الاتّصال لتستقيم الأمور”. والمهم برأي المصادر، “ردة فعل رئيس الجمهورية عندما يقدّم إليه الرئيس المكلّف مسودة التشكيلة الحكومية”.
وفي الوقت الذي وصف فيه رئيس مجلس النواب، نبيه بري، النظام الطائفي القائم بأنه، “السبب المباشر في الفساد في لبنان”، متوجهاً إلى الجادّين والصادقين في الحراك الشعبي لملاقاته في منتصف الطريق، “لتحقيق الدولة المدنية، وإلغاء الطائفية السياسية، وإنشاء مجلس الشيوخ الذي يضمن حقوق كل الطوائف”، وبما أنه يتلاقى بذلك مع الدعوات التي صدرت بالأمس وما قبله لعقدٍ سياسيٍ جديد يقوم على إلغاء النظام الطائفي، والذهاب إلى الدولة المدنية المنشودة، فهل ستكون هذه الأفكار المتقدّمة إحدى مرتكزات البيان الوزاري للحكومة الجديدة في حال تشكّلت، أم تبقى هذه المواقف مجرّد تصريحاتٍ موسميةٍ تنتهي مفاعليها بانتهاء المناسبة التي قيلت فيها؟
وفي ظلّ كل ذلك ترسم مصادر مراقبة مشهدَ الحكومة الجديدة، متوقعةً أن تجري الموافقة على تشكيلتها من المرجعيات السياسية التي أوصلت أديب، فالوزراء السنّة سيتم التوافق عليهم من بيت الوسط، وقد لا يكون للقوى السنّية الأخرى أي رأي؛ وكذلك الأمر بالنسبة لوزراء الثنائي الشيعي، أمل وحزب الله، فهما حتماً سيتوزّعان الحصّة الشيعية. أمّا تكتّل لبنان القوي وتيار المردة فقد يستأثران بالحصّة المارونية والأرثوذوكسية، لأن تكتل الجمهورية القوية لن يكون له ممثلٌ في الحكومة بعدما سمّى السفير نوّاف سلام في الاستشارات النيابية. واللّافت هذه المرّة أن وزارة الخارجية، ووزارة الطاقة، لن تكونا من حصة التيّار الوطني الحر، فهذا الأمر محسوم، ولا تراجع عنه، بحسب المصادر.
أما حصة الرئيس عون والرئيس المكلّف، فقد تُحتسب من الحصّتين المارونية والسنّية، وقد يكون الرئيس أديب ليس متحمساً لتوزير مقرّبين منه باعتباره غير طامحٍ لتأسيس زعامةٍ سياسية، كما هو معروفٌ عنه. أمّا وبعد إعلان رئيس اللقاء الديمقراطي، النائب تيمور جنبلاط، عدم مشاركة الحزب التقدمي الإشتراكي في الحكومة، فإن الاتّجاه سيكون نحو تسمية وزراء دروز من خارج الخارطة السياسية المعروفة.
وفي نهاية المطاف، تبقى الأنظار متجهةً إلى الدور الفرنسي، وما سيطرحه ماكرون بالنسبة للبنان. فهل سيدعم الحكومة لتحقيق الإصلاحات المطلوبة وخاصةً في قطاع الكهرباء، بعدما تأكّد أن عين المسؤولين الفرنسيين على هذا القطاع، في مقابل الإفراج عن أموال “سيدر”؟ وهل سيدعم ماكرون التحوّل إلى الدولة المدنية بحثِّ المسؤولين على إجراء انتخابات نيابية مبكرة من خلال قانون انتخابي عصري وخارج القيد الطائفي؟
هذه الأسئلة، برأي المصادر، تصبح مشروعةً في حال تمكّن مصطفى أديب من تشكيل الحكومة، أمّا في حال اعتذاره فسوف تكون الكارثة.
المصادر رأت أن، “مصير لبنان يتقرّر في غضون الشهرين المقبلين، فإما أن تنجح الحكومة بالحصول على مساعدات من صندوق النقد، ومن الدول المانحة، وتباشر بالإصلاحات، وإلّا فإن الأمور ستتجه إلى الأسوأ”.
في هذا السياق، اعتبر الخبير المالي والاقتصادي، نسيب غبريل، في حديثٍ مع “الأنباء”، أن مجرّد حصول التكليف بهذه السرعة أدّى بالطبع إلى عدم استمرار حكومة تصريف الأعمال، وهي التي كانت ستؤدي إلى الشلل حتماً على كافة المستويات، قائلاً: “يجب تشكيل حكومةٍ فعّالة تأخذ قراراتٍ مؤلمة وليست جريئة فقط، والتي تبدأ بالعملية الإصلاحية، وتتوصّل إلى اتفاقٍ مع صندوق النقد الدولي. فالصندوق لديه إجراءاتٍ معيّنة ستضطر الحكومة إلى اتّخاذها. فالأولوية برأيه للإصلاحات وتطبيق الإجراءات التي يطالب بها، وأن تأخذ الحكومة على عاتقها إعادة إعمار الأماكن المدمّرة بعد انفجار المرفأ، والتعويض على المتضرّرين وإعادة العجلة الاقتصادية إلى دورتها، وهو ما يؤدّي إلى خلق فرص عمل جديدة، ويحدّ من البطالة”.
ورأى غبريل أن “الأولوية القصوى للحكومة هي استعادة الثقة، وهذا لا يتمّ إلّا من خلال الإصلاحات.”