المشهد اللبناني يشبه تلك الغيمة السوداء التي كوّنها الحريق المشبوه في في مرفأ بيروت، في سماء العاصمة أمس الأول، فمسلسل التأليف يلفّه الغموض، ولم تنقشع معالمه في الوقت الذي تآكلت فيه مهلة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في معظمها، ولم يبق منها سوى أقل من 48 ساعة. وفي الموازاة، تبقى كلّ التفاصيل الداخليّة والمكوّنات السياسيّة مأخوذة بكلّ حواسها نحو مسلسل العقوبات الذي بدأت الولايات المتحدة الاميركية بدَحرجته بشكل متتابع على الواقع اللبناني، مستهدفة حلفاء “حزب الله”.
في مسلسل التأليف، وبحسب المعلومات، يبدو انّ الرئيس المكلف مصطفى أديب ماض في العزف المنفرد على هذا الوتر، فليس هناك تواصل أو تشاور ولو بالحد الأدنى بينه وبين القوى السياسية والنيابية التي سَمّته لرئاسة الحكومة، في وقت يتزايد الحديث عن انّ أديب قد أنجز وضع مسودة حكومته وسيعرضها على رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في الساعات المقبلة، ربما اليوم السبت.
وإن صحّ الكلام عن إعداد أديب لمسودة حكومية لعرضها على رئيس الجمهورية، فإنّ تلك القوى الممتدة على حركة “أمل” و”حزب الله” و”التيار الوطني الحر” وتيار “المردة” وسائر القوى التي سمّته، “مُرتابة من هذا المنحى المستغرَب، الذي يتجاوز المسار الطبيعي لتشكيل الحكومات في لبنان، والذي ينطلق من مبدأ التشاور حول الحكومة وبالتالي التفاهم عليها، وليس ان تُفرَض حكومة على قاعدة “هذه حكومتي فاقبلوا بها”.
وفيما تحدثت معلومات عن أنّ الرئيس المكلّف عكفَ في الأيام القليلة الماضية على إجراء اتصالات ولقاءات على شكل اختبارات، مع مجموعة شخصيات يسعى الى ضمّها الى حكومة الـ14 التي يصرّ عليها، يبرز موقف اعتراضي لدى القوى السياسية المنضوية كلها في خانة “8 آذار” حيث قلّلت من إمكان نجاح تمرير الحكومة بالشكل الذي يُعمل عليه.
وأكدت أوساط هذه القوى لـ”الجمهورية” انها “باتت متيقّنة أنّ من يُشكل الحكومة ليس الرئيس المكلف، بل انّها تتشَكّل من “بيت الوسط”، وانّ هناك من يعتبر في هذا الجانب انّ المبادرة الفرنسية ضاغطة على الجميع، وعلى هذه القوى تحديداً، ولذلك يحاول ان يعتبر انّ الوضع الضاغط يمنحه الفرصة لكي يشكّل الحكومة بالشكل الذي يخدمه، وبالشروط التي يريدها ويفرضها على الآخرين”.
واعتبرت هذه الاوساط “انّ هذا المنحى لا يُساعد على تشكيل الحكومة، ولا يُسهِّل مهمّة الرئيس المكلف، إلّا اذا كان هذا هو المقصود من سلوك هذا المنحى التفرّدي في تشكيل الحكومة واختيار وزرائها بمعزل عن القوى السياسية والتمثيلية في البلد، لا بل اكثر من ذلك، يشكّل عاملاً تعطيلياً للمبادرة الفرنسية، وهناك سؤال نضعه في يد فريق التأليف: هل هو متأكد من أنّه سيتمكّن من تمرير حكومة كهذه؟ وهل هو قادر على أن يشكّلها هكذا من دون تشاور مع أحد؟ وهل هو في اعتماده هذا المنحى ضامن لتمرير مسودة حكومة يضعها طرف واحد، مع الشريك الاساس في عملية التأليف أي رئيس الجمهورية؟ وهل هو مقتنع أساساً بأنّ القوى السياسيّة التي أخرجها من حلقة التشاور معها، ستقبل بذلك، علماً انّ لهذه القوى موقعها ووزنها، ولها رأيها، ولها حقّها في اختيار ممثليها في الحكومة، وهي التي ستمنح الحكومة الثقة في مجلس النواب؟
المحسوم حتى الآن، بحسب معلومات “الجمهورية” هو الحجم المصغَّر للحكومة الجديدة، والرئيس المكلّف على إصراره على حكومة 14 وزيراً وليس أكثر. والمحسوم ايضاً بشكل أكيد أن لا تمثيل حزبياً مباشراً في الحكومة، وهو أمرٌ باتَ مُسلّماً به لدى مختلف الاطراف، التي أكّدت بدورها على وجوب أن تأتي التشكيلة الحكومية من دون أسماء مُستفزّة أو فاقعة، بل أسماء تتمتع بالجدارة والكفاءة والاختصاص. لكنّ المشكلة المستحكمة هنا، تكمن في كيفية اختيار هذه الاسماء.
الرئيس المكلّف
في هذا السياق، تؤكد أوساط فريق التأليف لـ”الجمهورية” أنّ “كلّ الاطراف ومن دون استثناء التزمت بتسهيل مهمة الرئيس المكلف، وتسهيل تشكيل الحكومة من دون أي معوّقات، وهذا الالتزام ينبغي أن يُترجم على أرض الواقع، للوصول الى حكومة قوية وفاعلة وقادرة على مواجهة الكمّ الهائل من التحديات والأزمات التي يتخبط فيها لبنان.
الّا انّ هذه الأوساط، عندما تسأل عن سبب عدم التشاور في ملف تأليف الحكومة مع سائر القوى السياسية، تقول انّ الرئيس المكلّف، في عملية التأليف، يمارس صلاحياته الدستورية ولا يتجاوزها. ولا يرى ما يبرّر ألّا تَتجاوب القوى السياسية معه، خصوصاً أنّه يعمل على إعداد تشكيلة كفريق عمل من الاختصاصين، متجانس ومتعاون مع بعضه البعض، في وضع العلاجات اللازمة للأزمة.
ماذا في المقابل؟
وكما انّ التأليف يجري من طرف واحد، ففي المقابل هناك تشاور مفتوح بين “الثنائي الشيعي” على مستوى الخليلين، وكذلك بينهما وبين “التيار الوطني الحر”، وأجواء هذا الثلاثي لا تفيد بوقوفهم على ما يحضّره الرئيس المكلف. والمسلَّم به في هذا الجانب “هو ان لا جدال على الاطلاق في مسألة صلاحيات الرئيس المكلّف ودوره في تأليف الحكومة، لكن هذا التأليف ينبغي أن يُقارب بطريقة واقعية وموضوعية استناداً الى واقع البلد وتوزّع القوى فيه. ما يعني أنّ التأليف هو عمل مشترك وليس عملاً أحادياً، فالعمل الأحادي في هذا الملف هو إجراء مقنّع لمحاولة فرض حكومة، علماً انّ الدستور نَصّ في المادة 95 على ما حرفيّته “تُمثّل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة”. ما يعني انّ الوزير هو الممثّل لطائفته في الحكومة، ويعني ذلك ايضاً أنّ طائفته هي التي تختاره، وليس أي طرف آخر أو طائفة أخرى. وبالتالي، لا بد من التشاور مع مرجعيات هذه الطائفة السياسية والتمثيلية. وفي الخلاصة إنّ الاصرار على هذا المنحى لن تكون له سوى نتيجة وحيدة وهي خلق مشكلة إضافية بدل التَشارُك في الوصول الى حكومة لحل الأزمة”.
فرضيّتان
وبحسب هذه الاجواء، فإنّ هذا المنحى يعزّز فرضيتين:
الأولى، شعور البعض في فريق التأليف الأحادي بأنّ المبادرة الفرنسية بِحَشرها كل الاطراف، مَدّتهم بشيء من القوة، التي يحاولون من خلالها فرض التشكيلة الحكومية التي يريدونها بمعزل عن كل الاطراف. على اعتقاد منهم انّ الفريق الذي كان حاضِناً لحكومة حسان دياب، أي حكومة اللون الواحد، لم يكن قادراً على تشكيلها في ظل الجو الدولي المقفل أمامها، كما انّ هذا الفريق ليس في مقدوره ان يُعارض التشكيلة الحكومية التي توضِع، لأنه يخشى من أن يبدو معارضاً ومعطّلاً للمبادرة الفرنسية، ومن أن يكون عرضة للعقوبات التي تحدث عنها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون.
الثانية، أن يكون في خلفيّة فريق التأليف نفسه، بسلوكه منحى التشكيل منفرداً، مَن يسعى إلى تعطيل الرئيس المكلّف وحَمله على الاعتذار عن إكمال مهمته، ليفتح الباب من جديد أمام عودة شخصية نافذة في هذا الفريق الى رئاسة الحكومة من جديد، وهذه الفرضيّة هي الأقرب الى الأخذ بها.
عقدة المال
وفي الجانب الآخر للمشكلة، فإنه حتى يوم أمس لم يطرأ ما يؤكد أنّ حقيبة وزارة المال قد خرجت من مدار الاشتباك حولها. ذلك انّ فريق التأليف ما زال يضع هذه الحقيبة في خانة المداورة، وبالتالي إخراجها من الحصة الشيعية في الحكومة.
بري
وسألت “الجمهورية” رئيس مجلس النواب نبيه بري حول الموقف من وزارة المالية، فأجاب بشكل قاطع: لا مجال للبحث فيها، وليراجعوا محاضر الطائف.
وعن تأليف الحكومة، قال: “مش عم إتدخّل”.
وبحسب أوساط عين التينة لـ”الجمهورية” فـ”إننا نشعر وكأنّ هناك من يحاول عرقلة المبادرة الفرنسية، وإفشال الرئيس المكلّف ودَفعه الى الاعتذار، عبر طروحات تثير الغبار على أصل المشكل”.
وتؤكد هذه الأوساط انّ “المستغرب هو هذا الإصرار على محاولة انتزاع وزارة المالية وإسنادها لوزير غير شيعي، وكأنّ هذا الوزير غير الشيعي سينقذها، والوزير الشيعي هو الذي يخربها. هذا الكلام مرفوض، فلا تقاربوا الأمور من الباب الغلط، بل يجب أن تقاربوها بموضوعية وعقلانية وواقعية، وغَير هَيك ما بيمشي الحال”.
وبحسب معلومات مصادر سياسية، فإنّ فريق التأليف، وبعد تبلّغه بموقف الثنائي الشيعي لجهة التَمسّك النهائي بوزارة المالية من حصة الطائفة، سعى الى التوَسّط مع الفرنسيين، وتحديداً الرئيس ماكرون لمحاولة التدخّل لدى الثنائي وإقناعه بالتخلي عن هذه الوزارة، الّا انّ موقف الثنائي لم يتغيّر.
العقوبات
وفي مسلسل العقوبات الاميركية، تبدو القوى الحليفة لـ”حزب الله” كمَن على رأسه الطير، بعد الاعلان الاميركي عن حلقات متتالية لهذا المسلسل، واعتبارها العقوبات التي طالت الوزيرين السابقين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس، رسالة الى السياسيين اللبنانيين، وعلى وجه الخصوص الحلفاء منهم لـ”حزب الله”.
على أنّ ما يزيد من حال التوتر والارباك لدى هذه القوى، هو الأخبار غير المطمئنة الآتية من واشنطن، والتي تؤكدها شخصيات لبنانية على صِلة بنافذين في الادارة الاميركية، وأيضاً جهات ديبلوماسية غربية وضعت بعض المستويات السياسية في لبنان في انّ واشنطن تحضّر لدفعة أوسع من العقوبات ستصدرها الخزانة الاميركية في المدى القريب.
وبحسب المعلومات، فإنّ الديبلوماسيين الغربيين أبلغوا مسؤولين لبنانيين بأنّ واشنطن أعدّت لائحة طويلة بأسماء سياسيين لبنانيين وغير سياسيين ستشملهم العقوبات، وغالبيتهم تتهمهم واشنطن، الى جانب حماية “حزب الله” وتحقيق مصالحه على حساب الدولة اللبنانية، بالشراكه معه في عمليات فساد.
وتشير المعلومات الى انّ الديبلوماسيين الغربيين تحفّظوا عن ذِكر أسماء محددة، لكنهم بَدوا واثقين من أنّ دفعة العقوبات هذه ستصدر في غضون ايام قليلة، وستطال بين 7 أشخاص و10، والبارز فيها انها لن تكون محصورة فقط بحلفاء “حزب الله” بل ستشمل أيضاً شخصيات تنتمي إلى تيارات وأحزاب سياسيّة مختلفة، ومن طوائف مختلفة (شيعة وسنة ودروز إضافة الى مسيحيين)، ومن دون أن يستبعد هؤلاء الديبلوماسيون أن تشمل هذه العقوبات شخصيات مصنفة تاريخياً في خانة الحلفاء او الاصدقاء لواشنطن، وتقف على خط النقيض مع “حزب الله”.
إستفسار
في سياق متصل، أبلغت شخصية لبنانية على صِلة وثيقة بالأميركيين الى “الجمهورية” قولها انّ العقوبات الاميركية الواسعة تجاه أطراف وشخصيات وسياسيين لبنانيين، تندرج في سياق المواجهة القاسية التي قرّرتها الولايات المتحدة مع حلفاء “حزب الله” وغيرهم.
وبحسب الشخصية المذكورة، فإنّ واشنطن حدّدت هدفاً أساسياً، وهو فرض التغيير بحده الأعلى في لبنان، وهي بدأت السير في اتجاه تحقيقه، وتعتبر انّ العقوبات هي التي ستفتح الباب امام هذا التغيير. وهنا ينبغي التمعّن ملياً في الاشارة الواضحة التي تضمّنها بيان الخزانة الاميركية، والتي ورد فيها انّ إطلاق المتظاهرين في لبنان لِشعار “كلّن يعني كلّن”، يُظهر جدية رغبتهم في الاصلاح وكشف الغطاء عن فساد مجموعات بعينها، بما في ذلك “حزب الله”. فهذا الشعار تَبنّته الادارة الاميركية، ووضَعته العنوان الاساس لحرب العقوبات التي بدأتها”.
ولفتت تلك الشخصية الى انّ جهات لبنانية تسعى الى طَرق باب السفارة الاميركية في لبنان للاستفسار حول حجم الدفعة الثانية من العقوبات الاميركية والجهات التي ستشملها، كما انّ جهات محددة مِمّن سُرِّبت أسماؤها بأنها مُدرجة في خانة العقوبات، سَعت عبر جهات صديقة الى الوقوف على حقيقة التسريبات المتعلقة بها، ولكنها لم تحصل على التطمينات.
على أنّ أهم ما كشفته تلك الشخصية هو انّ شخصيات لبنانية مسؤولة، كانت في صورة الاجراء العقابي الأخير الذي اتّخذته وزارة الخزانة الاميركية بحق الوزيرين السابقين خليل وفنيانوس قبل صدوره.
وإذ أشارت الشخصية نفسها الى طلب رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الى وزير الخارجية الاطّلاع من الاميركيين على الظروف التي دفعت وزارة الخزانة الاميركية الى فرض عقوبات على الوزيرين السابقين، سألت عن الحكمة من هذا الطلب، خصوصاً انّ بيان الخزانة الاميركية حول العقوبات عليهما قد أوضح كل الظروف والاتهامات؟
وبحسب معلومات “الجمهورية” فإنّ طلب رئيس الجمهورية هذا لم يكن له وَقع مريح لدى الجهات السياسية المعنيّة بالعقوبات على خليل وفنيانوس، وسألت هذه الجهات عمّا اذا كان هناك رابط او تَقاطع ما بين قرار العقوبات وبين كلام رئيس الجمهورية عن خوّات وارتكابات في وزارة المال، وما المقصود بقوله في ختام طلبه الى وزير الخارجية “كي يُبنى على الشيء مقتضاه”، فهل يعني إجراء المقتضى الدخول في مواجهة مع الاميركيين، أم طلب مستندات لمحاكمة الوزيرين”؟
باريس: لا علاقة لنا
في هذا الوقت، أكدت مصادر ديبلوماسية في العاصمة الفرنسية أنّ باريس كانت على علم مسبق بسلّة العقوبات الاميركية، ولكن هذا شأن اميركي لا علاقة لفرنسا به.
وشددت المصادر على انّ باريس تفصل في الاساس بين هذه العقوبات وبين المبادرة التي أطلقها الرئيس ايمانويل ماكرون لإعادة إنعاش الوضع في لبنان، وتؤكد أن لا رابط بينهما، وهي تعتبر انّ هذا الاجراء الاميركي ينبغي ألّا يؤثّر على الجهد اللبناني بتأليف حكومة في القريب العاجل.
وأكدت المصادر انّ باريس ماضية على الالتزام الذي قطعه الرئيس ماكرون بتقديم كل العون للبنان لتمكينه من تجاوز محنته ووضعه الصعب، إلّا انّ الشرط الأساس هو في التجاوب الكلي والمبادرة الى تأليف الحكومة للقيام بالمهمات الكثيرة التي تنتظرها، وهي تتطلّع الى تعاون اللبنانيين جميعهم لإنجاز المتطلبات الاصلاحية.
ولفتت المصادر الى انّ الحريق الذي شهده مرفأ بيروت يوم الخميس، كان محل متابعة في الاليزيه، والرئيس ماكرون اهتمّ شخصياً بهذا الأمر. وقالت: كل هذا الذي يحصل في لبنان يؤكد مسؤولية اللبنانيين في بدء عملية إنقاذ بلدهم، ولا موجب لأيّ تأخير.
يُذكر في هذا السياق انّ الموقف الفرنسي من التطورات اللبنانية جرى التأكيد عليه في اتصالات مباشرة في الساعات القليلة الماضية بين الرئيس ماكرون وبعض المراجع السياسية اللبنانية، ويأتي ذلك في وقت تحدثت مصادر مواكبة لعملية التأليف عن زيارة لوزير الخارجية الفرنسية جان ايف لودريان الى بيروت.