رغم أن يوم أمس شهد مروحة واسعة من الاتصالات، أبرزها جمع رئيس الحكومة المكلف مصطفى أديب مع رئيس الجمهورية ميشال عون ثم مع النائب علي حسن خليل والمعاون السياسي للأمين العام لحزب الله، حسين خليل، إلا أنه لم يسجل أي خرق جدي للعقبات التي تقف في وجه تشكيل الحكومة، خصوصاً بعد زيادة واشنطن من حدة تدخلها المعارض لوجود حزب الله في الحكومة. ولذلك، فإن الجميع انتقل إلى مرحلة شراء الوقت، علّه يساهم في حلحلة العقد، علماً أن معلومات ترددت أمس بأن فرنسا تملك أسباباً جدية سمحت لها بطلب تأجيل اعتذار رئيس الحكومة المكلف
ورقة انسحاب مصطفى أديب لا تزال في جيبه، وسيُشهرها فور تأكده من أن لا مجال للوصول إلى الحكومة المرتجاة. فهو في النهاية، على ما نقل إلى مقربين منه، ليس بوارد التخلي عن قناعاته، وليس بوارد الخلاف مع أحد. ذلك كان كفيلاً بإعلان استقالته في نهاية الأسبوع الماضي، قبل أن يستنفر الفرنسيون ويقرروا تمديد مهمتهم.
منذ ذلك الحين، لا تزال العقد هي نفسها. العنوان هو وزارة المالية، لكن المضمون هو استشعار ثنائي حزب الله وأمل مساعي لاستعادة سيناريو العام 2005، حيث لم تنفع الأكثرية النيابية في تعويض غيابهما عن السلطة التنفيذية. لذلك، كل من تواصل مع أي من الحزبين سمع كلاماً واضحاً بأن “المالية” ليست المشكلة فقط، بل إن لا إمكانية للتخلي عن “حق” تسمية الوزراء الشيعة، حتى لو كان الأمر على شكل طرح “تشكيلة” من الأسماء يختار الرئيس المكلف منها. النقزة الفعلية كان مصدرها سعد الحريري. الرئيس نبيه بري كان قد توصّل معه إلى شبه اتفاق، سرعان ما انقلب عليه الحريري، رافعاً سقف الشروط عالياً، بالتعاون مع نادي رؤساء الحكومات، الذي وضع اللاءات في وجه أديب: لا للتحاور مع الأطراف، ولا لإسناد حقيبة المالية لشيعي يختاره الثنائي الشيعي. هنا أدرك الثنائي، الذي يؤكد مصدر متابع أنهما كان على استعداد لتسهيل مهمة تشكيل الحكومة، أن انقلاباً ينفذّ وأن نادي رؤساء الحكومات السابقين ليس سوى الأداة.
المسألة هنا تحديداً. هل تسمح أميركا بتشكيل حكومة يشارك فيها حزب الله أم لا؟ وهل أميركا مهتمة بمنع الانهيار في البلد أم أنها تسعى إلى تسريعه؟ مردّ السؤال هو السياق التصاعدي للدور الأميركي في لبنان، إما بشكل مباشر أو عبر الواسطة. هذا التدخل أنتج بداية تراجعاً فرنسياً عن كلام واضح كان قاله الرئيس إيمانويل ماكرون في ? آب، ومفاده دعم فرنسا لتشكيل حكومة وحدة وطنية، ثم وزير الدولة الفرنسي للشؤون الفرنكوفونية الذي أكدّ أن لا مشكلة في مشاركة سياسيين في الحكومة الجديدة. صار العنوان فجأة حكومة اختصاصيين حيادية. ذلك بدا نتاج الدخول الأميركي على خط المبادرة. في العنوان العريض هو يؤيد المبادرة، لا بل سبق أن أعلن وزير الخارجية الأميركي “أننا نعمل مع الفرنسيين في لبنان، ولدينا الأهداف نفسها”، لكن مع زيادة تفصيل كاف لنسفها من أساسها. الدعم مشروط بأن تؤدي المبادرة إلى إنتاج حكومة لا يشارك فيها حزب الله. تلقّف نادي رؤساء الحكومات الإشارة الأميركية وأطلق عملية تنفيذها، فيما كان الفرنسي لا يزال يسعى إلى إمساك العصا من الوسط، مدركاً أن لا إمكانية لتشكيل حكومة من دون الحزب. وهو لذلك لم يترك طريقاً إلا وسلكها، إلا أن أياً منها لم يؤد حتى يوم أمس إلى كسر المراوحة. ولأن هذه المراوحة صارت مرتبطة بما هو أبعد منها، فإن السؤال عن تطور المواقف لا جدوى منه. السؤال الرئيس: هل يريد الأميركي حقاً حكومة تخفف الانهيار أم أنه ارتأى أنه يفضل بلداً بلا حكومة أو حكومة بلا توافق داخلي ودعم خارجي تكون على شاكلة حكومة حسان دياب؟
الإجابة على هذا السؤال لن تتأخر، لكن إلى ذلك الحين، فإن الهجوم الأميركي على القيادة الفرنسية يزداد حدة يوماً بعد يوم. أميركا التي لم تهضم كيف عارضت فرنسا اقتراحها لتمديد حظر توريد السلاح إلى إيران في مجلس الأمن، اعترضت علناً، عبر وزير خارجيتها، على لقاء ماكرون بالنائب محمد رعد. وهو اعتراض فتح الباب أمام حملة أميركية على الموقف الفرنسي المصرّ على الفصل بين الجناح العسكري لحزب الله وجناحه السياسي. آخر أشكال الضغوط على الموقف الفرنسي ومن خلفه الأوروبي، كان اتهام منسق مكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية الأميركية ناثان سيلز حزب الله “بتهريب متفجرات، بما في ذلك نيترات الأمونيوم، إلى أوروبا حيث يمتلك شبكة من المخازن والمخابئ”، مشيراً إلى أنّ “حكومة الولايات المتحدة تحثّ الحكومات الأوروبية على إنهاء التمييز بين الجناحين السياسي والعسكري لحزب الله وتصنيفه على أنه جماعة إرهابية”.
السياق الخارجي مضافاً إليه الاستقواء الداخلي، لم يمنع استمرار مساعي الحلحلة أمس. خلال الساعات الـ24 الماضية حصلت مجموعة من التطورات أبرزها:
– طلب رئيس الجمهورية من الرئيس المكلف، خلال لقائه به، “الاستمرار بالاتصالات الجارية لمعالجة الملف الحكومي، لان الظروف الراهنة في البلاد تستوجب عملا انقاذيا سريعا لا سيما أنه انقضى 16 يوما على التكليف، والبلاد تنتظر التفاهم على حكومة جديدة”. وأكد عون “التمسك بالمبادرة الفرنسية بكل مندرجاتها، والتي كانت حظيت بتوافق القيادات السياسية اللبنانية”.
– أبلغ الفرنسيون رئيس الحكومة المكلف ضرورة فتح قناة اتصال ساخنة مع الفريق الآخر، واقترح عليه اعتماد التواصل مع اللواء عباس ابراهيم لنقل مناخات معيّنة الى الرئيس عون أو إلى الثنائي الشيعي. وهو التقى أول من أمس ابراهيم الذي تولى إبلاغ رئيس الجمهورية بأن الرجل ليس مستعداً بعد لتقديم تشكيلته ويريد المزيد من الوقت.
– عقدت جلسة نقاش بين الرئيس المكلّف وأعضاء نادي رؤساء الحكومة من خلال تقنية الفيديو، قال فيها أديب إنه لا يريد الهروب من المسؤولية، لكنه يعرف أن مهمته في انجاز حكومة تتوافق مع قناعاته ولا تكون في الوقت نفسه حكومة مواجهة مع أي طرف. وسمع من الرؤساء السابقين للحكومة دعوات الى التريث وعدم الاقدام على خطوة تفجر الموقف، مع التشديد على عدم تقديم التنازلات.
– بعد اتصالات فرنسية مع حزب الله وحركة امل، اتفق على اجتماع بين أديب والخليلين، تم خلاله عرض مفصّل لملاحظات الثنائي الشيعي. لكن اللقاء، الثاني من نوعه، لم يصل إلى حلّ العقدة المتمثّلة بوزارة المالية. فقد جدد الخليلان موقفهما الرافض لإقصاء فريق أساسي عن عملية التأليف. وأبلغا أديب بأن المبادرة الفرنسية (الورقة الفرنسية التي وزعت على القوى السياسية لا تتضمن حديثاً عن المداورة، كما لا ترتبط الإصلاحات بعدد الوزراء”. وسأل الخليلان: هل إبقاء وزارة المالية مع الثنائي هو ما يعرقل الإصلاحات؟ وهل تشكيل حكومة من 14 وزيراً هو ما سيحقق الإصلاحات؟ وهل تطبيق الإصلاحات يعني أن تفرض رأيك ولا تتشاور مع أحد في عملية التأليف؟ بينما أكد أديب أنه “ليس رجل مشاكل وهو يريد أن يجمع لا أن يفرق”، مع الإشارة إلى أنه “لا يستطيع أن يكسر علاقته برؤساء الحكومة السابقين الذين سمّوه وهو محكوم بالتشاور معهم”، واعداً بالمزيد من التشاور والإتصالات.
– أبلغ حزب الله الفرنسيين أن التهديد بالعقوبات يجب ان يكون واضحا. فاذا كان المقصود معاقبة من يقف الى جانب المقاومة فهذا يعني موقفا سياسيا من جانب من يفرض العقوبات. اما اذا كان الامر يتعلق بالفساد، فان الحزب لن يواجه أي عقوبة تطال فاسدا حقيقيا بعد عرض ما يثبت اتهامه بالفساد، وليس على الطريقة الاميركية. وان ربط اتهام الفساد بدعم المقاومة سيكون موقفا سياسيا، وان فرنسا التي تظهر احتجاجات على فساد في دائرة الرئيس سعد الحريري، لا يمكنها المطالبة بأن يتولى إدارة حكومة إنقاذ من خلال تأليفها وإدارتها من خلف ستارة بعد ان يتم تسمية “ظل” له لتولي رئاستها. وأنه لا يحق للحريري فرض الشروط حيال المداورة في الحقائب وطريقة اختيار الوزراء المرشحين لتولي إدارتها. وعبّر الثنائي الشيعي عن امتعاضه من تصرف الحريري، خصوصا أنه يعتبر أنه وقف الى جانبه في أحلك الظروف، ووقف الى جانب من يخصه في الادارة، وان الثنائي وافق على توليه رئاسة الحكومة في وجه الفيتو السعودي، لكنه لن يكون مرحبا بدور للحريري إذا كان على شكل تقديم أوراق اعتماد جديدة للاميركيين ومن خلالهم الى السعوديين.
في سياق متصل، كان الرئيس ميشال عون قد تبلّغ موقفا واضحا من الثنائي الشيعي، مفاده ان المسألة لا تتعلق بحقيبة المالية فقط، وأن الاصرار على تسمية الثنائي لوزرائه إنما يعكس موقفا حاسما في رفض فرض قواعد لعبة جديدة داخليا، والتذرع بالحاجة الى حكومة انقاذ لأجل ترك أمر تأليفها الى الاخرين من خصوم الثنائي، خصوصا ان من يؤلف الحكومة هو الحريري وفريقه وليس أي أحد آخر.
– أبلغ الثنائي الشيعي عون رفضه مقترحه بان يتولى هو اعلان تسمية الوزير الشيعي لحقيبة المالية كمخرج شكلي لتسهيل مهمة اديب وعدم إفشال المبادرة الفرنسية. وقال الثنائي انه مصر على تسمية جميع من يمثله في الحكومة وبصورة مباشرة، وهو مستعد لتقديم عشرات الاسماء لكي يصار الى الاختيار بينها. وبدا واضحا ان الثنائي يهتم ايضا بمعرفة المعايير والمرشحين لتولي حقائب الخدمات الرئيسية من طاقة وأشغال عامة وصحة واتصالات وعدل، خصوصا ان الجميع يتحدث عن ان الجانب الفرنسي سيكون مشرفا على عمل هذه الوزارات وان باريس تدرس السير الذاتية لجميع المرشحين لتولي هذه الحقائب.
بدا الثنائي الشيعي متفهما لواقع ان الرئيس عون كما النائب باسيل يعملان تحت الضغط. خصوصا بعد التثبت من وصول رسالة فرنسية رفيعة المستوى الى رئيس الجمهورية تحذر من أن باسيل نفسه سيكون على لائحة عقوبات بتهمة الفساد، وان فرنسا ستضطر الى الاعلان عن ذلك في حال واصل التيار الوطني الحر تغطية اي اعتراضات على عمل الحكومة الجديدة.
بالنتيجة، لم يقدم أديب حتى الآن أي تشكيلة ولا أي تصور ولو أولي حول الأسماء أو توزيع الحقائب. وفي المعلومات أن الرئيس عون أبدى موافقته على مداورة الحقائب، انطلاقاً من عدم تكريس عرف تخصيص حقائب بطوائف، وليس انطلاقاً من الاستقواء بالخارج لهز التوازنات الداخلية. كما أن رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، رغم دعوته الى المداورة، قال إنه لا مانع من أن تكون وزارة المالية من حصة الشيعة في حكومة أديب.