أمّا وقد عَبر رئيس الجمهورية ميشال عون أمس “مَطهر” التأليف غاسلاً يده من ذنب التعطيل والتدنيس بالدستور، فالأوجب الثناء على موقفه وحثه على المضي قدماً في طريق العودة إلى جادة الصواب الوطني ومغادرة رصيف المصالح والتحالفات الضيقة التي عقدها وأوصلت البلد إلى الدرك الأسفل سيادياً وسياسياً ودستورياً واقتصادياً ومالياً واجتماعياً وحياتياً وصحياً. فبغض النظر عن المنطلقات التي انطلق منها في موقفه المستجد، والتي لا شك في كونها مسبقة الدفع من رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل، يبقى أنّ رئيس الجمهورية بدا أمس كمن يتلو “فعل الندامة” أمام الكنيسة المارونية للتأخر في اللحاق بركب مواقفها السيادية العابرة للطوائف والمذاهب، ليردّ بذلك “الصاع صاعين” إلى رفض “حزب الله” الضمانة العونية في حقيبة المالية، وليحشر تالياً الثنائي الشيعي في زاوية عدم دستورية مطلبه، نازعاً عن الحزب الغطاء المسيحي الذي لطالما تلحّف به منذ العام 2006، على قاعدة “أللهم نفسي” التي أضحت تحكم الأداء العوني اليوم خشية أن تكوي “جهنّم” العقوبات العهد وتياره.
“الدستور لا ينص على تخصيص أي وزارة لأي طائفة أو فريق وأدعو إلى الغاء التوزيع الطائفي للوزارات السيادية”، موقف أكد من خلاله رئيس الجمهورية أمس أنه غير مستعد لتحمّل أوزار إفشال المبادرة الفرنسية أمام الرئيس إيمانويل ماكرون والمجتمع الدولي، وأنه راغب بالنأي بنفسه عن تداعيات وعواقب تعطيل “حزب الله” لمفاعيل هذه المبادرة حكومياً. فعون، وإن كان استهل كلمته بالإشارة إلى عدم وجود “أي حل قريب” لملف التأليف في ظل رفض “الحلول المنطقية والوسطية” التي طرحها (توزير شخصية مسيحية يسميها رئيس الجمهورية لحقيبة المالية) لكنه في المقابل لم يقفل الباب أمام إمكانية وصول الأمور إلى مستوى حثّه الرئيس المكلف على تقديم تشكيلته وتوقيعها في حال لم تقع “عجيبة” تتيح التأليف توافقياً خلال الأيام المقبلة، لا سيما وأنه شدد على أنّ أولويته في المرحلة الراهنة تكمن في “تشكيل الحكومة سريعاً” وليس الدعوة إلى أي حوار، مع إبدائه تمسكاً لافتاً بتكليف مصطفى أديب وعدم تحبيذ دفعه إلى الاعتذار عن تأليف “حكومة المهمة” المدعومة فرنسياً.
وفي هذا الإطار، كشفت مصادر مطلعة على حيثيات موقف رئيس الجمهورية لـ”نداء الوطن” أن اجتماعاً مطولاً سبق إطلالته المتفلزة في قصر بعبدا ظهر أمس، ضم عون وباسيل وعدداً من النواب والوزراء السابقين المقربين من رئيس “التيار الوطني”، وجرى خلاله النقاش في سقف الموقف الرئاسي الواجب اتخاذه إزاء الملف الحكومي، مشيرةً إلى أنّ الاجتماع الذي بدأ قرابة الساعة الحادية عشرة والنصف وفرض تأجيلاً متكرراً لموعد انعقاد المؤتمر الصحافي حتى الثانية والنصف، شهد “تأرجحاً في الرأي” بين فريق يطالب بتضمين رئيس الجمهورية كلمته دعوةً صريحة إلى الرئيس المكلف لكي يقدّم تشكيلته الحكومية بصيغتها الحالية وإبداء الاستعداد لتوقيعها وإحالتها إلى مجلس النواب لحسم مصيرها في جلسة الثقة، وبين فريق فضّل التريث في اعتماد هذه الخطوة لكي لا يرتفع منسوب التصعيد والتوتر أكثر في مواجهة “حزب الله” وإفساح المجال أمام الثنائي الشيعي لتلقف مبادرة رئيس الجمهورية وانتظار كيفية تعامله معها “وبعدها لكل حادث حديث”.
وأوضحت المصادر أنه في محصلة النقاش رجحت كفة التريث في ميزان الموقف الرئاسي، من دون استبعاد كلي لفكرة دعوة الرئيس المكلف إلى تقديم التشكيلة الوزارية المرتكزة على مبدأ المداورة الشاملة في الحقائب لتوقيعها دستورياً، وتفضيل إرجاء هذه الخطوة إلى وقت لاحق بوصفها “الخرطوشة الأخيرة” في حال عدم تجاوب الثنائي الشيعي مع الطرح الرئاسي، مشيرةً في الوقت عينه إلى أنّ هذا الطرح لم يكن مفاجئاً للمتابعين ولا حتى للثنائي الشيعي نفسه، سيّما أنه أتى في سياق متدرّج من المواقف أطلقها “التيار الوطني” ورئيسه خلال الأسابيع الأخيرة تأكيداً على التمايز عن موقف “حزب الله” وحركة “أمل” تحت تأثير وهج العقوبات الأميركية التي بدأت نيرانها تلفح قيادات الصف الأول لبنانياً، وباتت اليوم بمثابة الدافع الرئيس والمحرك الأساس لآلية اتخاذ المواقف وتحديد بوصلة التوجهات السياسية والرئاسية في بعبدا كما في ميرنا الشالوحي.
توازياً، وفي ما يشبه الهجمة الدستورية المرتدة على عرقلة ولادة الحكومة، تزامن موقف الرئاسة الأولى مع تسطير الرئيس المكلف أول بيان إعلامي له أمس شدد فيه على أن “لبنان لا يملك ترف إهدار الوقت”، مذكراً الأطراف بتعهداتها الداعمة “لتسهيل تشكيل حكومة مهمة محددة البرنامج مؤلفة من اختصاصيين وتكون قادرة على وقف الانهيار وبدء العمل على إخراج البلد من الأزمات”.
وإذ أكد أديب أنه لن يألو جهداً لتحقيق هذا الهدف بالتعاون مع رئيس الجمهورية، تمنى في المقابل على الجميع “العمل على إنجاح المبادرة الفرنسية فوراً من دون إبطاء”، مع تحميله بشكل غير مباشر كل طرف يدفع باتجاه تأخير ولادة الحكومة العتيدة مسؤولية “تفاقم الأزمة ودفع الناس نحو المزيد من الفقر، والدولة نحو المزيد من العجز”.