مرحلة ضياع قاتلة يمر بها لبنان والآفاق سُدّت في كل الاتجاهات، شرقاً وغرباً… الثنائي الشيعي أجهض المبادرة الفرنسية من دون أن يملك خطة إنقاذية بديلة، تاركاً اللبنانيين محتجزين على مقاعد طائرة مخطوفة يكاد وقودها ينفد وتجنح يوماً بعد آخر نحو الارتطام المدوّي بأرض التفليسة، فأصبحت تحوم اليوم في دوائر مفرغة بلا وجهة معروفة بعدما أقفل الثنائي كل “مدرّجات” العالمين العربي والغربي أمامها وصولاً إلى صدّ آخر محاولة فرنسية لتأمين هبوط اضطراري آمن لها. المشكلة لم تعد لبنانية، وحلّها كذلك، هذا ما تيقّن منه الفرنسيون من خلال أداء “حزب الله”، وفي ضوء الرسالة المشفّرة التي سرّبها نبيه بري عبر صديقه الصدوق وليد جنبلاط قائلاً له: “أتعرّض للضغط”.
ولأنّ العامل الإيراني بدا فاقعاً في عملية تخريب المبادرة الفرنسية، لا سيما بعدما نال الثنائي الشيعي حقيبة المال ورغم ذلك استمر بالعرقلة، فإنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أصبح يميل إلى البحث عن مفاتيح حلحلة خارجية لفكفكة العقد الداخلية في لبنان، وهو بادر إلى الطلب من الروس التوسّط لدى طهران لإنجاح مبادرته اللبنانية. وتؤكد مصادر ديبلوماسية لـ”نداء الوطن” أنّ المسؤولين الإيرانيين لم يتوانوا عن إبداء استيائهم الكبير أمام الإدارة الروسية من دخول ماكرون المباغت على “ساحتهم اللبنانية”، فبادروا إلى قطع خطوط التواصل المباشر مع الفرنسيين حول الملف اللبناني خصوصاً إثر تصعيد الرئيس الفرنسي ضد “حزب الله”، واضعةً في هذا السياق تشديد المتحدث باسم الخارجية الإيرانية أمس على أن بلاده ترفض “أي تدخل خارجي في شؤون لبنان”. وإزاء ذلك، كشفت المصادر أنّ باريس طلبت دخول موسكو على خط الوساطة مع طهران لاستطلاع المساحات المشتركة بين الجانبين على “الأرض اللبنانية”، ومن هذا المنطلق بدأت اتصالات المسؤولين الروس بالقيادات اللبنانية خلال الساعات الأخيرة لمحاولة استكشاف آفاق “الممكن وغير الممكن” في حلحلة الأزمة تمهيداً لزيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف المرتقبة إلى بيروت.
غير أنّ المصادر توقعت في المقابل ألا تتمكن موسكو من تدوير الزوايا بشكل جذري في خارطة الأزمة اللبنانية وألا يكون بمقدورها أكثر من السعي إلى تبريد أرضية الاشتباك الإيراني – الغربي في الملف اللبناني، بانتظار ما ستتمخض عنه الانتخابات الرئاسية الأميركية، على اعتبار أنّ طهران تفضّل تسليف أي موقف في الورقة اللبنانية إلى “الأصيل لا الوكيل” انطلاقاً من قناعة ترسخت لديها بأنّ ماكرون عجز عن تقديم أي شيء لها في ملف العقوبات الأميركية، ولذلك من المرجح أن يبقي الإيرانيون هذه “الورقة” في قبضتهم بانتظار وضعها على طاولة الـ”Deal” الذي وعدهم الرئيس الأميركي دونالد ترامب بإبرامه مع طهران فور التجديد لولايته.
وفي الانتظار، ستواصل الطبقة الحاكمة سياسة محاباة المبادرة الفرنسية والنحيب على أطلالها، وأقصى ما بوسعهم إبداء “الأسف” لعدم تمكنهم من تشكيل حكومة مصطفى أديب كما جاء على لسان رئيس الجمهورية ميشال عون أمام السفير الفرنسي برونو فوشيه. أما “حزب الله” فلن يرضى بأن تمر إهانة ماكرون له ووصفه بـ”الميليشيا” مرور الكرام، بل سيصعّد لجهته في وجه الرئيس الفرنسي من خلال إطلالة لأمينه العام السيد حسن نصرالله اليوم، سيعمد خلالها إلى “وضع النقاط على الحروف في مواجهة حملة الافتراءات والتجني التي ساقها الرئيس الفرنسي بحق الحزب والثنائي الشيعي”، وفق تعبير مصادر مقربة من الثنائي لـ”نداء الوطن”، موضحةً أنّ نصرالله “سيعيد التوازن إلى مقاربة المسعى الفرنسي عبر تشديده على أنّ حزب الله يؤيد مندرجات المبادرة الفرنسية لكن من دون اعتبارها “نصاً منزلاً” وما على اللبنانيين سوى السمع والطاعة”، فالمطلوب “مبادرة مش وصاية فرنسية”.
تزامناً، لفت الانتباه أمس الغطاء الأوروبي لمواقف الرئيس الفرنسي تجاه لبنان، إذ عبّر الاتحاد الأوروبي عن شعوره “بخيبة الأمل والقلق” بسبب اعتذار الرئيس مصطفى أديب و”الملابسات التي أدت إلى قراره”، مشدداً على أنّ تشكيل حكومة المهمة التي تتولى إجراء الإصلاحات المطلوبة هو بمثابة شرط مسبق لحصول لبنان على دعم صندوق النقد الدولي. وحث مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل في بيان القيادات اللبنانية على “بذل كل ما بوسعها لتشكيل الحكومة بسرعة”، مؤكّدًا أنّ ذلك “سيكون ضروريًا للتوصل إلى اتفاق مطلوب بشكل عاجل مع صندوق النقد”.