لم يكن الفشل الذي مني به مجلس النواب في التوصل الى اخراج او تسوية منطقية وواقعية وعادلة لمشروع العفو من شأنها ان توفق بين المقتضيات الضاغطة بقوة للتخفيف من الاكتظاظ في السجون بعدما اقتحمها وباء كورونا منذرا بتداعيات وخيمة ومقتضيات العدالة والحزم اللازم في عدم التهاون حيال الأحكام المتعلقة بالقضايا الجنائية الخطيرة الا صورة مطابقة تماما للفشل والانقسام السياسيين اللذين تسببا بإطاحة تجربة مصطفى اديب في تشكيل الحكومة. ذلك ان الأيام الفاصلة بين اعتذار الرئيس المكلف مصطفى اديب وموعد الجلسة التشريعية للمجلس بدت اشبه بتظهير قوي للغاية لعمق الانقسامات التي تسود الواقع السياسي الداخلي سواء في ما يتصل بالجمود الهائل الذي يطبع الازمة الحكومية منذ اعتذار اديب بحيث يكاد يخلو المشهد السياسي من أي حركة او جهد او اجراء للتحرك نحو اخراج استحقاق تشكيل الحكومة الجديدة من الهوة العميقة التي سقط فيها، او في ما يتصل بدورة المؤسسات الدستورية كلا وجاءت الجلسة التشريعية “النصفية” امس مصداقا على التفكك الذي يضرب المجلس بقوة . ومع ان رئيس المجلس نبيه بري لم تنقصه المبادرة وحركة السعي الى التوفيق بين مواقف الكتل النيابية المختلفة بقوة على مشروع قانون العفو، فان ذلك لم يحجب دلالات الإخفاق الذي أصاب جهوده الى درجة عدم توفير النصاب القانوني للجلسة المسائية التي طارت بدورها تحت وطأة الواقع الانقسامي العميق والفوضى السياسية التي باتت تطبع مجمل واقع الطبقة السياسية في لبنان والتي من شأنها ان تثبت اكثر فاكثر صحة كل ما ساقه ضدها من اتهامات الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في مؤتمره الصحافي الأخير .
واذا كان ملف العفو غالبا ما اثار خلافات وانقسامات نيابية بما لا يفاجئ الأوساط المتابعة والمعنية بهذا الملف، فان فشل المجلس امس في التوصل الى حل موضوعي لهذا الموضوع الأساسي والملح اتخذ دلالات اكثر خطورة من أي مرة سابقة نظرا الى ضرورة الإسراع في بته امام زحف التداعيات الخطيرة لتفشي كورونا في السجون اللبنانية .
وقد بدا المشهد دراماتيكيا ومنذرا بتفاقم التداعيات السلبية اذ جرت وقائع الجلسة والخلافات على العفو تحت وطأة الاحتجاجات والاعتصامات التي نفذها أهالي الموقوفين والسجناء في الكثير من المناطق بدءا من امام قصر الاونيسكو حيث عقدت الجلسة وقرب بيت الوسط ومرورا برومية وطرابلس والبقاع . اما الدلالة السياسية فبدت اشد ثقلا لجهة انعدام وجود مرجعية رسمية او سياسية قادرة في ظل الانسداد الذي أصاب الاستحقاق الحكومي على تحريك مبادرات سياسية لاستئناف البحث عن مخارج . ففيما تسبب الخلاف العميق على العفو بإطاحة القانون وكذلك بما تبقى من جدول اعمال الجلسة التشريعية امس وجعل رئاسة المجلس امام واقع العجز عن التوفيق بين الكتل، بدا رئيس الجمهورية العماد ميشال عون كأنه في إجازة طوعية او قسرية فرضها عجزه عن إدارة محركات العملية الدستورية التي يفترض ان يطلقها بتحديد مواعيد اجراء الاستشارات النيابية الملزمة لاعادة تكليف شخصية بتأليف الحكومة الجديدة . غير ان شيئا من المشاورت المنتظرة لتحريك الاستحقاق الحكومي لم يظهر بعد فيما لم يقتصر المشهد الانقسامي في مجلس النواب على قانون العفو بل تمدد نحو الاختلاف على تفسير قانون الإثراء غير المشروع الذي اقره المجلس بين نواب “تكتل لبنان القوي” و”كتلة المستقبل” حيال شمول القانون الرؤساء والنواب والوزراء علما ان ذلك يتطلب تعديلا دستوريا. والواقع ان الجلسة كادت تطير في فترتها الصباحية بفعل العامل الميثاقي اذ قاطعها نواب “القوات اللبنانية” أساسا فيما هدد “تكتل لبنان القوي” بمقاطعتها بسبب اعتراضه على الصيغة المطروحة لقانون العفو . ولكن تسوية حصلت بين بري و”تكتل لبنان القوي” بسحب البند من جدول الاعمال فحضر النواب وافتتحت الجلسة فيما اصر بري على إعادة طرح البند في الجلسة المسائية وشكل لجنة نيابية من الكتل الأساسية لعقد اجتماع بعد الظهر والاتفاق على تعديلات تسمح بإقرار توافقي للقانون في الجلسة المسائية . أخفقت اللجنة بدورها كما طار النصاب في الجلسة الامر الذي دفع ببري الى تأجيل الجلسة الى 20 تشرين الأول المقبل.
“نتركهم لمصيرهم” !
وقال بري انه “يأسف كثيرا للمنحى الذي نسير به جميعا ، ولا أبرئ نفسي ولا ابرئ احدا منكم، وكل المجلس مسؤول..هناك كلام قلته صباحا وانا اكرر اني لم اقصد ان يخرج من السجن اي احد يخصني وليس مطلوبا اخراج اي احد من الشمال والبقاع والجنوب، ولا اخراج تجار المخدرات “. ولفت الى “اننا نسمع ان هناك 237 اصابة في سجن زحلة و363 في سجن رومية واعتقد انهم اصبحوا اكثر، فهل نتركهم لمصيرهم، وهذا الاقتراح لا هو قرآن ولا انجيل ويمكن تعديله كأي قانون آخر، وليس المقصود منه فقط تجار المخدرات.. وصلنا الى هذا الامر وأخشى ما أخشاه ألا نستطيع ان نطببهم ونعالجهم… فماذا نقول للسجناء حينها ؟ سنتركهم لمصيرهم وهذا ما سيحصل!! فالباخرة تغرق وبدلا ان نساعد البقية للنجاة ننظر اليها بدون فعل اي شيء”.
واعلن ان الجلسة المقبلة ستكون في 20 الشهر المقبل .
رد الرؤساء الأربعة
وسط هذه الأجواء تواصلت التداعيات السياسية الداخلية لاعتذار الرئيس المكلف مصطفى اديب والمؤتمر الصحافي الأخير للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون . وبعد الردود التي اعلنها الأمين العام ل”حزب الله ” السيد حسن نصرالله اول من امس على ماكرون وإطلاقه جملة اتهامات في اتجاه رؤساء الحكومات السابقين الأربعة اصدر الرؤساء فؤاد السنيورة وسعد الحريري ونجيب ميقاتي وتمام سلام بيانا مشتركا امس ردوا فيه على نصرالله ونفوا اتهامه لهم بتشكيل الحكومة نيابة عن اديب اذ “لم نفرض اسما فيها او حقيبة بل اقتصر دورنا على توفير الغطاء بشكل شفاف وواضح لتنفيذ ما اتفقت عليه الكتل النيابية في قصر الصنوبر “. إذ أسفوا لعدم تلقف المبادرة المنفردة التي اعلنها الحريري والالتفاف عليها بوضع مزيد من الشروط على الرئيس المكلف لفتوا الى ان “رواية الأمين العام ل”حزب الله” تعمدت افتعال اشتباك طائفي بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلف بزعم التعدي على الصلاحيات الدستورية لرئيس الجمهورية لمصلحة رئاسة الحكومة وهو الامر الذي لا أساس له من الصحة “. ولفت في الرد قول الرؤساء الأربعة ان الأمين العام للحزب “لم يكن موفقا في العودة الى احداث أيار 2008 للتذكير بالاعتداء على بيروت وهو ما قرأه اللبنانيون تهديدا غير مقبول وتلويحا باستخدام الفوضى والعنف والفلتان الأمني “.